لم نعد نخاف العزلة
الموبايل، ذلك الجهاز الذي يكاد يلتصق بأيدينا من فرط تعلقنا به، لا تخلو منه في هذا الزمان يد رجل أو امرأة أو حتى طفل صغير للأسف الشديد، الهاتف المحمول، النقال، الخلوي، الجوال أو المتحرك كترجمة حرفية لكلمة الموبايل، هذه الأجهزة التي أصبحت أكثر من مجرد وسيلة اتصال لا يمكن تجاهلها أو رفض وجودها الذي أصبح يهيمن على أوقاتنا جميعاً.
شخصياً أجد نفسي متعلقة بهذا الجهاز الصغير الذي يفتح لي أبواب العالم دون أن أتحرك من مكاني، وجعلني أستغني عن التلفزيون وهاتف المنزل وحتى الحاسب الآلي في بعض الأحيان، أخذ مكان المنبه والساعة والحاسبة والتقويم والمفكرة الصغيرة التي نحتفظ بها لتدوين ما يهمنا، استغنينا عن الراديو والكاميرا والألبومات التي تجمع صورنا للاحتفاظ بالذكريات واللحظات المهمة، واكتفينا بوجود ملف للصور الإلكترونية المكررة.
لم يعد الموبايل وسيلة اتصال عادية لمكالمات صوتية أعتقد أنها شارفت على الانقراض، إنما أبواب تفتح مصراعيها لتضع العالم كله بين يديك، كل تلك المواقع بمختلف توجهاتها، الصور، الوثائق، والمحاضرات، وحتى الأماكن التي تستطيع الوصول إليها بكل يسر، ما عليك سوى أن تختار وجهتك.
من وجهة نظري الخاصة أن التعامل مع الموبايل يحتاج إلى وعي، إلى انتباه للوقت الذي يتسرب من عمرنا والساعات الطويلة التي تمر دون أن نشعر بها ونحن مسحورون به، الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي والسناب شات، والألعاب التي ينغمس فيها البعض لتصبح إدمانا حقيقيا من نوع آخر، كحال أي تقنية لها سلبيات وإيجابيات، الوعي هو الأهم فما نحن إلا حاصل اختياراتنا، هل نقضي الوقت في مشاهدة التفاهات أو متابعة ما يثري ويساهم في زيادة ثقافتنا؟
كتب محمد يوسف خضر “ثمة ثقافة إنسانية تشمل البشر جميعا، وثقافة محلية تميز مدينة عن أخرى، ويخلق ازدهار الرسائل الإلكترونية أنماطا ثقافية جديدة لنسمها (ثقافة الموبايل)”. هذا الموبايل جعل الإنسان مكتفياً بنفسه وصحبة هذا الجهاز الصغير، فكلما دخلت إلي أحد المجالس أو قاعات الانتظار في المطارات والمستشفيات تجد الجميع منكسا رأسه وهو مأخوذ بتلك الشاشة الصغيرة، حتى كبار السن الذين ابتلوا بالموبايل أصبحوا يتناقلون أخبار الواتساب وخرافاته وحرمنا من حكاياتهم عن الزمن الجميل.
وكما أن هذا الموبايل يفتح أبواب كل شيء، نافعا كان أو ضارا، علينا أن نحسن الاختيار ونتحمل مسؤلية اختياراتنا جيدا، هناك بعض التطبيقات التي لا أجد غنى عنها مثل الترجمة والموسوعات الثقافية وتطبيق يوتيوب الذي يجعلك تحضر محاضرة ثقافية أو تستمع لدرس يهمك أو تلتقي بكاتب أو فنان تتابعه في وقتك الخاص، وكل الكتب الإلكترونية التي تصلك بضغطة زر، وغيره من التطبيقات التي تحتوي على قائمة لا نهائية من الكتب المسموعة.
لم نعد نخاف العزلة وهذا الجهاز معنا، فأنت على بعد شاشة من الوصول إلى حيث تريد صفحة كتاب أو لوحة فنان، أو قصيدة تقرأها أو تسمعها بصوت الشاعر ربما، ولم تعد بحاجة إلى انتظار إصدار كتاب معين أو مجلة ثقافية أو تتكبد عناء البحث في المكتبة أو الموسوعات الثقافية، فالخيارات الثقافية أصبحت متاحة أكثر والاجتماع بمن يشاركك الاهتمام سهل جدا في مجموعات مختصة تلتقي بها على الأون لاين، في الوقت الذي يناسبك وتختاره أنت.
هذا الجهاز الذي أصبح حقاً بديهياً لكل إنسان، لا سبيل لرفضه أو استنكاره، شغل أوقاتنا عن الكثير من الاهتمامات ومنها القراءة، فنظرة إليه قد تأخذ وقتك ما يزيد عن الساعة دون أن تشعر، وكانت تلك الأوقات مخصصة للقراءة والاطلاع على الكتب، ولكن هذا العذر غير مقنع عند الكاتب الفرنسي دانيال بناك حيث قال “لم يكن لدي الوقت للقراءة، لكن أبداً لم يستطع شيء ما أن يمنعني من إنهاء رواية أحببتها”.
لا نستطيع أن نلقي اللوم على هذا الجهاز البريء من تهمة الاستيلاء على أوقاتنا واهتمامنا، فتطبيقاته المفيدة أكثر من أن يتم حصرها، هو توجهنا الشخصي وأسلوب استخدامنا، وجل ما أتمنى أن يتم إبعاده عن الأطفال تحديداً لما ثبت علمياً من مضار استخدامه لمن هم دون سن معينة، كما أن الهاتف المحمول حرمهم متعة اللعب والخيال والانطلاق، وجعلهم فقط متفرجين ومسحورين بسحره.
نظرة سريعة إلى محتوى هذا الجهاز وأنواع التطبيقات التي يحتويها تنبئك بشخصية حامله، من خلال الصادر والوارد في الرسائل، من خلال المواقع التي تدخلها باستمرار ومَن تتابع، وكما قيل “قل لي من تصاحب، أخبرك من أنت”، وهذا الجهاز بات يصاحبنا أكثر من أصحابنا أنفسهم.