لم يبق في الشوارع إلا جدران الغرافيتي
شوارع العالم الفارغة والحجر الصحيّ جعلانا جميعاً كبشر نعيد النظر في أولوياتنا، سواء على المستوى الشخصيّ والحميمي أو ذاك العلني والسياسيّ، الشوارع والفضاءات العامة التي كانت مساحات صراع، أًصبحت خالية بسبب الخوف من العدوى والإجراءات الاستثنائية التي فرضتها الحكومات على مواطنيها حفاظاً على حياتهم وصحتهم، وشكّل منع التجمّع والتلامس أزمة لا ندري إلى الآن درجة جديّتها وأثرها. المثير للاهتمام أن كل هذه القوانين والأزمات أيقظت فناني الشارع أولئك الذين في الأصل تناصبهم السلطة العداء وتسن قوانين لاحتواء “أثرهم” بوصفهم مُخربين. هؤلاء الفنانون المجاهيل في العديد من الأحيان وجدوا فرصة سانحة لجعل أصواتهم أشد مرئيّة ووضوحا، ليكونوا الأشد تماساً مع ما يشهده العالم، فحرفياً أًصبحت كل الشوارع الآن قماشاً بانتظار بخاخات فناني الشارع وريشهم، الذين حولوا الجدران إلى مساحات لإعادة النظر في الفضاء الخاص وطبيعة الإنسان و تاريخ الفن نفسه.
يعكس الغرافيتي أشد الهواجس الآنيّة بصورة ساخرة، مُتحرراً من ضرورة الصوابيّة السياسيّة ومنتقداً السلوك البشري في ظل فقدان الناس لملكيّة الفضاء العام، وتحول مساحات التجمع إلى ما يشبه مساحات القتال، وهذا ما نراه في الأعمال التي تصور “سميغل” الشخصية الشهيرة من سلسلة أفلام “Lord of the rings”، الذي عُرف بسعيه المُستميت لأجل الحصول على الخاتم، هذا السعي الذي أفقده عقله وأنهك جسده، كون الخاتم غرض فيتشي وموضع رغبة لا يمكن الاستغناء عنه مُعمياً الأبصار عن كل شيء آخر، لكن الاختلاف أننا نرى سميغل يحمل “ورق الحمام”، بوصفه حرفياً ذاك الغرض الذي تقاتل الناس عليه في أنحاء العالم، فالبعض يرى فيه جزءاً أساسياً من الفضاء الداخلي والحد الفاصل بين المتسخ والنظيف، والسعي في سبيله يعني في بعض الأحيان معركة مع “الآخرين”، الأعداء المحتملين الذين يريدون ذات “الغالي” حسب تعبير سميغل، وهذا ما يجعل فن الشارع مثيراً للاهتمام في ظل الحجر الصحي كونه استهدف مكونات الفضاء الداخلي ومحتويته وحولها إلى قضية عامة ومرئيّة، اختبرها الكثيرون ويختبرونها وذلك في سخرية ومباشرة مما شهدته المحلات التجاريّة، فورق الحمام، هذا الغرض الحميمي والساخر في ذات الوقت، يعكس هشاشة الفضاء الداخليّ وطبيعة علاقتنا مع المنتجات الاستهلاكيّة التي نظن أنها متوافرة دوماً، واختفاؤها قد يعني الوصول إلى العنف والأذى الجسدي.
عنف “الداخل” الخفي
أخطار الداخل التي تكشفت نتيجة الحظر المنزلي ظهرت أيضاً على الجدران، وهذا ما نراه في عمل يُمثّل امرأة معنّفة تضع إصبعها على فمها صامتة، فمشكلة العنف المنزلي تفاقمت في الفترة الأخيرة بسبب التواجد الدائم للأزواج في المنزل، وتطابق زمن الزوجين الاقتصادي والخاص، والمثير للاهتمام أن الجداريّة تصور الصمت، أي ذاك الاتفاق الاجتماعيّ على عدم الحديث عن هذا الموضوع مهما تفاقم، والاكتفاء فقط بالإشارة إليه دون حتى وضع كمّامة، فهذا العنف يضرب في عمق المنزل ويهدد مفهوم الاستقرار والأمان الذين يؤمنهما الفضاء الخاص، وكأن الحجر الصحي وما نتج عنه من تعطيل للزمن الاقتصاديّ، أعاد توزيع “العنف”، فعوضاً عن أن يمارسه الزوج أو الشريك مع الآخرين في الخارج ضمن صراع اقتصاديّ وسياسي وثقافيّ، أصبح هذا العنف في الداخل مباشراً يطبّق على جسد المرأة المحكومة ثقافياً بأنها أضعف، خالقاً عُطباً عميقاً في مفهوم الأسرة من جهة، وحق المرأة في الدفاع عن نفسها من جهة أخرى، فالصمت والسبابة المنتصبة بوجه الشفة هي نتاج ثقافة متكاملة، الصمت فيها عدو المرأة على مستويين، الأول عبر إقناعها بأن “طبيعة” الرجال عنيفة، والثاني يوظف فيه الصمت بوصفه وسيلة لحماية منزلها الذي قد تفقده إن هي تحدثت، وكأنه لا مشكلة في مرئية آثار العنف، المشكلة فقط في الحديث عنه.
ضد الانتقال
ربما تحقّق الآن حلم السلطات الأشد دكتاتوريّة، ألا وهي تكديس المواطنين في منازلهم و”استغلال” فقط أولئك الذين يشكلون طاقة العمل، صحيح أن الكثير من الدول تحاول تفادي الانهيار، لكن على مستوى مفاهيمي منحرف، هناك مفارقة توظفها السلطة، الجميع يحاول تفادي الانتقال وخائف، وكل من هم في الخارج “مقيّدون” وهذا ما نراه في واحد من أعمال الغرافيتي التي تشابه أسلوب بانكسي، إذ نرى فرداً مقيداً بسلسلة وعوض عن أن تكون نهاياتها كتلة حديدية كتلك التي تستعمل لمنع السجناء من الركض والهرب، هناك الفايروس ذاك الكائن المجهري الذي تحوّل إلى قيد شلّ حركة الناس، وإن هم خرجوا وقرروا مجابهته، فحركتهم بطيئة ومدروسة، فهناك التباعد اجتماعي والمحال المُغلقة والكل يحدّق بالآخر خوفاً من لمسة طائشة، خصوصاً ولمفارقة تراجيديّة، الأسلوب الـناجح لمجابهة الفايروس يعتمد “اللاحركة” (Demobilization) أي الاكتفاء بالوجود في المنزل والتحرر من كل قيود الخارج الخطر الممنوع عدو البشر.
جنود مجهولون
في المعركة التي تخوضها البشريّة ضد هذا الفايروس، ولو تبنينا مصطلحات الحرب السياسية، هناك جنود على الصفوف الأولى، أولئك الذين هم على تماس مباشر مع المرضى الذين لا فقط يحافظون على “الحياة” بل يشهدون أيضاً على الموت اليوميّ، هذه الكتلة البشريّة تتمثل بالممرضات والممرضين، الطبيبات والأطباء الذين تمتلئ الشاشات برسائل الشكر والامتنان لجهودهم، لكن هناك شكل طاغ لهؤلاء “الجنود” نراه في أحد الأعمال الذي يبدو للوهلة الأولى شديد الواقعية، ممرضة أو طبيبة ترتدي الكمامة، نرى عينيها فقط، إذ تكفي فقط إشارات إلى الزي الطبي لترسم أمامنا هالة “المُنقذ”، فلا فرادة هنا لأيّ أحد، نحن لسنا أمام مُخترع أو قائد عسكريّ، بل كتلة بشريّة متشابهة، صحيح أنها تواجه قراراً سياسياً يرتبط بالحياة والموت، لكن يجمعها هاجس واحد هو الحفاظ على الحياة بالشكل الأقصى، جهود الأطباء حولتهم إلى “أبطال” دون اختلاف أو تمييز بينهم، هم بشكلهم العادي وزيهم المهنيّ المسؤولون عن استمرار النوع البشريّ.
أين البطل الخارق؟
شكّل الوباء الحاليّ تحدياً للثقافة الشعبيّة والمتخيلات التي تقدمها عن البطولة، فالشخصيات التقليدية كسوبر مان وسبايدرمان وغيرهم من الأبطال الذين يواجهون الشرّ والأخطار التي تهدد مصير البشرية يبدون شاحبين، يشبهوننا، قدراتهم “الخارقة” لا تحمل أيّ جدوى، بل يكتفون مثلنا بوضع الكمامات، والتجول في الشوارع الفارغة، فالخطر هذه المرّة لا يحتاجُ قدرة على الطيران أو تسلق الأبنيّة، بل يتطلب هدوءا وتركيزا عاليا، وتجارب مخبرية طويلة كي ينجح تصنيع الترياق. فسيناريوهات نهاية العالم التي تصدى لها الأبطال الخارقون تبدو ساذجة أمام ما نشهده، فقدراتهم على الانتقال السريع وحل المشكلات الآنية لا قيمة لها، وكأن الوضع الاستثنائيّ الحاليّ لا يتطلب قرارات أو مهارات استثنائية وخارقة، بل يُنتجُ أبطاله الخاصين، أولئك الذين تحولت وظائفهم ومهماتهم العاديّة فجأة إلى أسلوب لضبط تدفق الموت والحياة، ولا يمكن إنكار أن هذا يحوي مُفارقةً ساخرة، كل ما قدمه القرن الحادي والعشرون من هيمنة رأسمالية وتقنيّة وتكنولوجيّة ومتخيلات عن البطل الخارق فشلت في التنبؤ بالحل في حال حصول وباء عالميّ، فلا جنديّ خارقا ولا درونات ولا سايبورغات، بل أطباء بمعاطفهم في مختبراتهم يعملون بصمت ولساعات طويلة، لا نعرف أوجههم ولا أسماءهم، وهذا ما نراه في أعمال الغرافيتي التي يختفي فيها وجه “الطبيب” ويتحول زي البطل الخارق إلى تنكر خارجيّ يحتفي وراءه زي الطبيب.
إعادة النظر في تاريخ الفنّ
تحولت الكمامة الآن إلى علامة فارقة في تاريخ البشريّة، هي ليست قناعاً بالمعنى المسرحيّ للكلمة ولا رمزاً دينياً، بل علامة سياسيّة – ثقافيّة تفصل بين الأصحّاء والمرضى، بين من يشكّلون الخطر وبين أولئك “الآمنين” لفترة مؤقتة، فنانو الشارع لم يفوّتوا فرصة تحويل الكمامة إلى عنصر بصري يزيّن لوحاتهم، وعبرها أعيد النظر إلى تاريخ الثقافة بوصفه ناقصاً، بلا كمامة، لتظهر في معظم الأعمال مزينة الأوجه كغرافيتي يمثّل لوحة المرأة ذات القرطين اللؤلؤيين. فكما استفاد فنان الشارع من علبة كهرباء ليستبدل قرطيها وضع على وجهها كمامة قماشية كبيرة وكأن ما نشهده الآن يتطلب منا إعادة النظر بكل المسلمات السابقة، حتى تلك الفنيّة والثقافيّة، ما نسميه “روائع” و”فناً جميلاً” أصبح بلا قيمة أمام الخطر الذي يواجه الظاهرة الإنسانيّة، هي مجرد علامات عن زمن نوستالجيّ أسير المتاحف المغلقة. أما التاريخ الذي قدم لنا رموزاً تواطأنا على الاعتراف بقيمتها فأًصبح هشاً خائفاً، بل ويضع كمامة، حتى قبلة الفنان البيلجيكي ماغريت، نراها أيضاً بصورة مختلفة، لا حجاب يلتحف به الحبيبان، بل كمامة تفصل الإنسان عن الطبيعة، نحن أمام ” باستيش”، أو محاكاة وتقدير للعمل الأصلي. صحيح أن عناصره أشد “إنسانيّة” لكن الكمامة هنا علامة على فشل عميق في المتخيلات البشريّة وقدرتها على توقّع ما يحصل وإنقاذ من تبقى، بل نرى أن الشيطان نفسه يقول لنا “مطهّر الأيدي لن ينقذنا”، في سخريّة من الشر الأشدّ “الشيطان” بجعله خائفاً بل ويقدم النصائح في سبيل نجاة البشريّة.