لن يختفي الشعر إلا باختفائنا
الشعر، أجل الشعر مجدداً، الشعر دائماً وأبداً.. وهل كان من المفترض أن نصدّق أنّ الشعراءَ كانوا قد غادروا الزمن الذي نعيبه مراراً وتكراراً ودفنوا كل مُترَدَّمٍ من القول تحت ردمٍ مما تهدَّمَ في الزمّن؟ القيم، الجمال، الذوق.. وإن كانت الأزمنة كلها معيبة، ولا يهمّني كثيراً سبب العيب الذي يعتريها، أفلم يحضر فيها الشعر جميعاً؟ ألم يَعلق على جدرانها المتهالكة المتآكلة كالطحالب الخضراء وهو “الجيفة الخالدة”؟
يبدو زمننا متفرّداً على كل حال. صحيح أنّ الهمجيّة والظلم والاستعباد ما فارقوا حوادث التاريخ قطّ، ولكنّ البشرية منذ بدأت مداخن الإمبراطوريات المترهّلة تنفث دخان صناعاتها المستجدّة والعالم في تسارع مستفزّ. ثمة منحنى لا يكفّ عن الصعود، قد تفيدنا الرياضيات المجرّدة بإمكانية استمراره بالصعود إلى ما لا نهاية، ولكن كوكبنا الأزرق محدود الأبعاد على اتساعه فقيرٌ على امتلاء حسابات مصارفه بمليارات المليارات. هنا بالذات تكمن أزمة الشعر إذن. الشعر فقط؟
نعم ولا. إذا نظرنا إلى الشعر على اعتباره جنساً أدبياً سيبدو لنا الشعر تحديداً ضحيّة لطبع ما من طبائع عصرنا الراهن أو ربّما لجملة طبائعه وسماته. السرعة، الاستهلاك، الماديّة، إلخ… ولكننا لو فكّرنا فيما يجعل الشعر شعراً، تلك الخاصيّة السحريّة العصيّة على التوصيف والتحديد، فلتكن شعرية الشعر، نعم: الشعريّة، فإنّ ما ينتابنا من قلق على الشعر سينسحب على كل فنّ وعلى كلّ تصرّف وعلى كلّ طقس.
يشعر المرء أننا في عالم ناقص الشعر والموسيقى والأدب والفن عموماً، وكذلك، الفلسفة والأخلاق والدين، ربّما ناقص الإيمان، أيكون قبل ذلك كله ناقصَ المعنى؟ أزعم ذلك. السرديات الكبرى دينية كانت أم لا دينية تكلّست أو باتت معروضة للزوار في متحف الشمع. الأيديولوجيا؟ رؤوس أقلام وشخصيات بهلوانية وشعارات فضفاضة، تسويق انتخابي في ربع العالم وطبل أجوف في ثلاثة أرباعه المتبقية. هناك فنّ وأدبٌ ونضالات على أيّ حال، هناك دراسات اجتماعية، لا أنكر ذلك، لكن ثمة ثابت ناقص لتستقيم المعادلة بثوابتها القليلة ومتغيراتها الكثر. ثمة تصحّر على مستوى المعنى، هناك في الينابيع. وما علاقة كل ذلك بالشعر؟ أقول: وهل مثل الشعريّ في توليد المعنى وإثراء الواقع المسطّح الأجرد بما يمكن ذكره؟
أستطيع تلخيص انطباعي عن العالم بهذا النقص نقص المعنى، نقص الشعريّة. وإذا اعتبرنا جائزة نوبل معبِّراً عمّا يجري في بعض مواطن هذا العالم، وسيلة قياس، وغيرها الكثير من الوسائل، فقد يكون احتفاء الجائزة الأكثر شهرة و”بريستيجا” مؤخراً بشاعراتٍ وشعراء مؤشّراً يجدر أخذه في الحسبان. أمّا عربيًّا فلا بدّ من مراجعة المقولات القديمة والمعاصرة على إيقاع المخاضات المتعاقبة محلياً وكونياً. هل نفهم جميعنا مصطلح الشعر المتضمن في عبارة “الشعر ديوان العرب” بنفس الطريقة؟ ليس عندي شك في امتلاك الكثير من شعر التراث شعريّة عالية عنت لناس الأمس ما تعنيه الشعريّة لنا اليوم، ولكن ليس كل ما سُطِّر في ذلك “الديوان” العظيم بجميع المقاييس يمكن النظر إليه كما ننظر اليوم إلى الشعر. في قصيدة الأمس شعريّة وصحافة وأخبار وحكمة وسياسة وحرب وسلام ومناسبات اجتماعية وكل شيء، وأخال عبقرية العبارة التي رُددت كثيراً تكمن في تعبيرها عن هذا الاحتواء العام.
أظنُّ استبدال الصيغة السابقة بالصيغة المحدّثة “الرواية ديوان العرب” تنطوي على مأساة هي مأساتنا منذ تغيّر سَمْتُ هذا العالم. من الواضح والمفهوم أن يلعب شعر الأمس كل تلك الأدوار وأن يحتوي بين دفتيه الشعريّ وسواه. كان من المفترض أن تحمل الحداثة لربوعنا الحريّة، فضاءات جديدة وميادين تسرح فيها خيل الفنون العصيّة على الترويض كيف تشاء. لا يمكنّ للصورة أن تكون على هذا المستوى من التفاؤل على كل حال، حتى في أكثر الدول نجاحاً، فسريعاً ما يتولّى صاحب رأس المال مهمّة تحويل الروح الإنسانيّة إلى سلع شتّى، فَلْأكُن أكثر دقّة وواقعيّة ولْأتكلّم عن الهوامش بدل الميادين، حيث “لا عرشَ لنا إلّا الهوامش”. المهمّ أنّه ليس من المفترض بعد أن طرأت الحداثة أن يتابع فنّ من الفنون مهمّة احتواء كلّ شيء. لا أنتقص بذلك من قدر روايات عظيمة كتبها أدباء كبار، الفكرة هي أنّ اختناق المجال العام وحرمة السياسة وصعوبة التأريخ والتوثيق قد تكون أدّت بمجملها لرواج “سوق الرواية”.
أمّا المشهد الشعري العربي اليوم فيجعلني متقلّباً تماماً بين ندب واحتفاء وتعاسة وحبور. مزيج عجيب، وهذا جيد على كل حال. تتعايش مفاهيم قديمة وحديثة، شعر ونظم، شعر وهذيان، منصات تقليدية ومنصات جديدة، هوامش، شعراء كبار من أجيال مختلفة، أدعياء من كافّة الأجيال أيضاً، باختصار هو ليس بهذا السوء.
هل يعودُ زمن الشعر إذن؟ وهل كان غادرنا أصلاً؟ لا أظنّ. المسألة مسألة مفاهيم، وجهات نظر. أبشّر بالشعريّة لا بجنس الشعر؛ الشعر كمعنى وكأسلوب حياة ولا يمكن لهذا أن يغرب عن سمائنا، لأن الإنسان يولد في مدّ الشعر أما جزره فسيحدد تاريخ ولادة عصر الروبوت. ما دمنا بشراً فلنعلم أننا بصحبة الشعر، سيكون هناك شعر في مكان ما. وبهذا المعنى فإننا لن نسمع أبداً بذلك اليوم الذي يختفي من تفاصيله الشعر، لأننا ببساطة لن نكون موجودين.