لن يكتب الأدباء الجزائريون اعترافاتهم
حتى ولو أن الأمر قد يبدو مثيرا لعاطفة بعضهم فإني أقدّر أن الأدباء الجزائريين ـمن حرب التحرير إلى الآن 2017ـ لم يستطيعوا تحرير ذواتهم من القيد المضْفُور بيد العائلي القبلي والإتني والأخلاقي والديني والتاريخي والسياسي والقانوني.
فتلك عواملُ مجتمعةً تشكل، لدى الجماعة، قوة ردع قاهرة لكل تفكير، لدى الكاتب، في تجاوز الموانع التي رسّمتها. إن عيونها وآذانها تراقبه حتى حين يتخيل لعموم القراء؛ فما باله إن كان تجرأ على محاولة فصل ذاته عن دائرة الجماعة وبها واجهها فانكشف من خلالها ما يتم إسكاته في الوعي الفردي لديه تجاه العلاقات الجنسية والإيمان والإلحاد والأخلاق العامة والسياسة والروابط الأسرية والمدرسة والتاريخ… وغيرها مما إن كُتب حبرا على ورق كشهادة على ذات مفردة ـ في تناقض غالبا مع قيم المجتمع المرسخة بالعوائد والتقاليد والقوانين والشرع ـ سيُعدّ خرقا؛ ومن ثمة وجبت مجابهته؛ بدءا بالعائلة وصولا إلى بقية السُّلَط.
لذلك، في تقديري، لن يطل برأسه في الزمن القريب كاتبٌ جزائري، من كُوة السور الديني والأخلاقي والقانوني، ليكتب مذكراته: أي حياته عارية من كل الأسمال التي، خشيةً من الرقيب، تَدثر بها في مساره ككاتب، مراعيا أن لا يخدش أنواع البرانيق التي تستخدمها أيادي النفاق والخداع والتلصص في تلبيس الحياة اليومية بما يظهرها منسجمة في كامل تناقضاتها وإكراهاتها.
فالكاتب الجزائري، الآن وفي المستقبل القريب، لن يكون قادرا على تنزيل فلسفته، التي خيّلها في كتاباتها، إلى الواقعي كما عاشه، كما حلم بأن يعيشه في أقصى درجات حقيقته.
إني أعتبر ما قدّمه بعض الكتاب الجزائريين ـ بصفته مذكرات ـ لا يعدو أن يكون ما أسميه شخصيا شذرات انطباعية؛ إن لم تكن حواشيَ على مدونتهم الإبداعية. وهي أيضا أقل قيمة من السيرة الذاتية. وكذلك سيكون الأمر، بالتأكيد، مع من سيقدّمون لاحقا ما سيُعتبر مذكرات.
إني أزعم أن كتابة مذكرات تفرضها بعض العوامل الذاتية؛ من بينها:
حمولة تجربة الكاتب الحياتية ـ لا الإبداعية ـ؛ أي الأثر الشخصي الذي تركه أو سيتركه كإنسان بوزنه على مجريات واقع بلده وفي علاقاته مع الأشخاص ذوي الحضور المتعدد المستويات والاختصاصات.
وكذا درجة الشجاعة في مَوْضَعة ذاته قياسا إلى من عاصروه من الكتّاب أنفسهم؛ الأمر الذي سيفرض عليه أن يقدّم شهادة على عصرِ كتابةٍ كامل؛ هو جزء منه وليس هو كله! من هنا ثقل المسؤولية، ومن هنا محكّ النبل. وكل محاولة، خارج هذا الشرط، ستبدو باهتة ومدعية.
قد أردّ زعمي هذا إلى قراءتي بعضَ مذكرات كتّاب عالميين كبار؛ هم، فعلا، عاشوا أو يعيشون، في أوطان لا تتسلط فيها الموانع والإكراهات، كما هي حالنا في العالم العربي كله، ولكنهم هم يظهرون في مذكراتهم على وعي نافذ إلى دلالة كتابة المذكرات ووظيفتها الاجتماعية والتاريخية؛ فإني لن أبالغ إن قلت إني تصورت بعضهم، وأنا أقرأ مذكراته، منارة في مركز دائرة مجتمعه.
ثم إنهم كتّاب غالبا ما قاوموا، في صف شعوبهم، الظلم والاستعباد. وناهضوا أنظمتهم القمعية. وكانوا، بكتاباتهم أيضا، من أكبر المدافعين عن حرية الرأي والتعبير.
إذاً، كتابة مذكرات ليست نزوة ولا تأكيدا لمجد أو تكريسا لشهرة ولا طمعا زائدا في تحصيل مال أكثر تدرّه مبيعات المذكرات نفسها؛ لأن هذا الناشر أو ذاك أغرى الكاتب.
كتابة المذكرات أرهق ما يمكن أن يتعرّض له الكاتب في مساره كله. إنها كتابة فوق الإبداع بلغة الإبداع نفسه.
وأمام هذه الإكراهات والمتطلبات، أجدني بعيدا، بمسافة كبيرة جدا، عن التفكير حاليا في كتابة أيٍّ من هذه التي سميت في الجزائر مذكرات.