لوك فيري خلاص علماني
“لا تهتم الفلسفة بشيء غير محاولة إيجاد معنى للحياة، وقد أمضيت قرابة الأربعين عاما وأنا أبحث عن هذا التعريف، تقول، ولهذا السبب، فهو التعريف الأقرب إلى قلبي”. هل تفضلت بشرح هذا الاكتشاف؟
فيري: يلتقي التلاميذ في فرنسا بالفلسفة في نهاية المرحلة الثانوية، في السنة النهائية تحديدا، كما تعلم. وحينما ندقق النظر في الكتب المدرسية والمقررات البيداغوجية المخصصة لهذه المادة نجدها تقدم أساسا عن طريق كلمات مفتاحية ثلاث: التفكير،البرهنة، النقد. والفكرة المركزية التي يدور حولها تعليم هذه المادة هي عرض الفلسفة على أنها ضرب من التفكير أو طريقة في التفكير موجهة لمساعدة الشبان والشابات على الوصول إلى نوع من الاستقلال الفكري وتمكينهم من الوصول إلى التفكير بأنفسهم. وإن كانت هذه النظرة جديرة بالتقدير وقد تكون حتى مفيدة من زاوية “التربية المدنية”، فإن هذا التصور لا علاقة له إطلاقا بالفلسفة كما كانت في القديم وكما لا زالت في الحاضر. وأنا أعي ما أقول. ولا يختلف اثنان في أن كل فيلسوف بأتمّ معنى الكلمة يفكر ويبرهن ويستعمل العقل النقدي. ولكن من لا يفعل ذلك؟ كثيرون..
هل تعتقد، عن جد، أن عالم بيولوجيا أو فنانا، أبا أو أما لعائلة، لا يفكرون ولا يقدمون أدنى حجج؟ الكل يفكر ويملك عقلا نقديا ويحاول البرهنة على ما يقدم من أطروحات، حتى رجال السياسة والإعلام. ومع ذلك، وهذا أقل ما يمكن قوله، فهم ليسوا بفلاسفة! وهذا هو السبب الذي جعلني أقترح تعريفا آخر للفلسفة، كتعريفها بأنها “مذهب خلاص” علماني، يدخل في تنافس مع الديانات الكبرى. فكل الفلسفات الكبرى، دون استثناء، هي مذاهب خلاص دون إله.
هل تصبح الفلسفة عقيدة بدورها؟
فيري: في والواقع وعلى عكس الديانات الكبرى، تعِدُ الفلسفة أولئك الذين يريدون تكريس حياتهم لها بأنهم سيتمكنون من إنقاذ أنفسهم بأنفسهم وعن طريق العقل في حين أن الأديان الكبرى تعد الإنسان بإمكانية الوصول إلى الخلاص ولكن عن طريق الآخر، الله (وليس بنفسه) وعن طريق الإيمان (وليس العقل). وهنا يكمن في رأيي الفرق الحقيقي الوحيد بين الفلسفة والدين.
ولكن السؤال الذي يطرح رأسا هو المتعلق بمعنى ذلك الخلاص.. نتخلص من ماذا؟
فيري :“الخلاص، تقول المعاجم، هو فعل النجاة من خطر كبير أو مصيبة كبيرة”. وجاءت كلمة “خلاص” في اللغة اللاتينية واليونانية من فعل “أنقذ”. ولكي نذكر فيلسوفين يونانيين أساسين إبيكتيت وأبيقور، فمن أيّ خطر أو من أيّ مصيبة أراد المفكران إنقاذ تلامذتهما وأتباعهما وهما المختلفان جذريا؟ أولا من الخوف الذي يهدد وجودنا ويحاصره، وربما نحسن القول إذا قلنا من ذلك الخوف الذي يعكّر صفو حياتنا ويمنعنا من الحركة. فالرغبة في الحكمة، ونشدان السكينة، تلك هي الترجمة الأحسن والأقرب لكلمة فيلو-صوفيا. هي القناعة بأننا ما دمنا مطوّقين بالخوف فمن المستحيل أن نصل إلى “الحياة الطيبة” ومن المستحيل بلوغ السكينة ومن هنا فمن المستحيل أن نكون أحرارا في نفوسنا وأن ننفتح على الآخر وأن نتمتع بأريحية ما: حينما نخاف نكون مضطربين، متلعثمين، بمعنى نكون غير أحرار ومتقوقعين على ذواتنا في آن. لكي نصل إلى السكينة، من الضروري التغلب على خوفنا وهواجسنا، وخلافا للديانات التوحيدية الكبرى، تعدنا الفلسفة بأننا نستطيع وبأنفسنا وعن طريق العقل بلوغ تلك السكينة، وليس عن طريق الغير أو الإيمان.
من أين يمكن أن يستمد المرء الطاقات لبلوغ “حياة طيبة” وهو يعيش في قارة عجوز لم تعد تؤمن بنفسها؟ “أنا أورو- مركزي”، هكذا تقول، فهل شرحت لنا أكثر؟
فيري: كثيرا ما أسمع وعلى الخصوص على لسان رجال الدين والمتدينين عموما أن مجتمعاتنا الأوروبية العلمانية وبما أنها بعيدة بل محرومة كثيرا من البعد الروحي، فهي قد استسلمت إلى وهم “أنا بدون النحن” الغارق في أنانية مفرطة. ولأنها مجتمعات تعيش قطيعة شبه كلية مع المطلق، فستسقط في نسبية يائسة. ولئن كان العالم الإسلامي يعيش فائضا في مجال المقدس، فمن المؤكد أن الغرب يعاني نقصا فادحا في الأمر. فالأول عامر أكثر من اللزوم والثاني فارغ إلى أقصى حد. وتحليل كهذا يجد صدى كبيرا لدى كل الذين، سواء كانوا مؤمنين وغير مؤمنين، من اليسار أو من اليمين، والذين لم تفلح مجتمعاتنا الليبرالية في إرضائهم. وشخصيا لا أتفق مع هذا التحليل فحسب بل أذهب مذهبا مضادا له تماما.
كيف ولماذا؟
فيري: أولا، نحن لا يمكن أن نطلب من الديمقراطيات العلمانية والتي هي من اختراع الحضارة الأوروبية، الشيء ونقيضه، فلا يمكن أن تكون هذه الديمقراطيات عامرة وخاوية في نفس الوقت، فبطبيعة تكوينها وبنائها هي تشكل إطارا ليس من مهمته إعطاء معنى وفرضه كأيديولوجية رسمية، وإنما هي بناء من أجل تنظيم التعايش السلمي بين الأفراد فقط. فأن نطالب من مجتمعاتنا أكثر من ذلك فهذا لعمري التناقض بعينه. وقليل من الناس – وعلى الخصوص أولئك الذين استبدلوا الروحانيات التقليدية بديانات الخلاص الأرضي والذين لا يزالون ينتظرون من الدولة يائسين أن تحدد غايات جليلة للجميع – هم قادرون على فهم وهضم الفكرة الأساسية التالية: بما أن بنية الدولة الليبرالية علمانية في جوهرها، بمعنى محايدة، فلكل منا والحال هذه أن يعطي معنى لحياته بطريقة فردية. والفردية لا تعني هنا أن يكون الفرد منعزلا عن الآخرين، “دون الآخرين” وإنما “دون الدولة”. إذ يمكن بناء علاقات لا متناهية مع الآخرين، عاطفية وثقافية وعائلية وجمعوية أو سياسية، سُمح بها في مجتمع مدني مسالم وضعت فيه العلمانية حدا للحروب الدينية وباتت تحترم فيه حقوق الإنسان ويحترم فيه الغير. وعلى أيّ حال، فالدولة الليبرالية لا تهمل أبدا أو تتجاهل الجانب الجماعي، وإنما فقط يعود للإفراد أنفسهم نسج علاقات خصبة، وإعطاء معنى لوجودهم وبناء ذواتهم بذواتهم، وهو أمر أصعب بكثير من ترك الأمر لأيديولوجية دينية رسمية. يجوز للدولة أن تحدد المبادئ العامة للقانون وضمان السلام الاجتماعي ولكن لا يمكن أن تذهب إلى أبعد من ذلك، فما بعد ذلك لا يخص سوى الإفراد وحدهم.
لنعد إلى مسألة المقدس في أوروبا إذا سمحت، أنت تعتقد بأنه لم يختف، كيف؟
فيري: من يزعم بأن المقدس قد اختفى من المجتمعات الأوروبية الحديثة يرتكب خطأ مزدوجا: فأولا تبقى الديانات في هذه المجتمعات حاضرة بالمقدار الذي يحبذه الأفراد، وثانيا توجد رموز غير دينية فيما يخص العلاقة بالمطلق إذ المطلق ليس هو المقابل للدنيوي فقط بل هو أيضا ما يمكن أن نضحي بحياتنا من أجله، ولا نحتاج أن نكون مؤمنين لنقدس أوطاننا أو ببساطة الأشخاص الذين نحب مثلا. وبعيدا عن السقوط في خواء روحي بسبب عدم وجود ما فيه الكفاية من الدين، فعلى العكس تماما، فمجتمعاتنا الأوروبية هي أول المجتمعات المعروفة التي أصبحت حرة وأكثر أخلاقية في نفس الوقت من كل المجتمعات المعروفة حتى الآن في التاريخ كما في الجغرافيا. يريد البعض أن يوهمنا بأن أوروبا هي الاستعمار وتجارة الرقيق والإبادات الجماعية فقط!
ولكن تلك حقائق لا ينبغي نكرانها.
.
فيري: الحقيقة أن قارتنا هي بالأحرى من ألغى العبودية ولم يكن ذلك الإلغاء مفروضا بالقوة وإنما جاء نتيجة الأنوار الأوروبية. ويقال أيضا إن شعوب الجنوب لم يعد يغريها النموذج الغربي الذي هو في سقوط حر! وألاحظ العكس تماما وخير شاهد على ذلك الآلاف من المهاجرين الذين يقصدون قارتنا اليوم مضحّين بحياتهم أحيانا. وعلاوة على ذلك، لقد مال كل شيء في العالم لصالح القيم الديمقراطية في السنوات الخمسين الماضية، في الشرق كما في أميركا اللاتينية بل حتى في الصين التي تسير بخطى سريعة نحو التغريب. ويبقى العالم الإسلامي الاستثناء الوحيد.
وبالنسبة إلى أوروبا لا انحطاط ولا شيء من هذا القبيل في رأيك؟
فيري: إذا كان هناك انحدار ما في أوروبا اليوم فهو على المستويين الاقتصادي والاجتماعي فقط. ولكن لا يعود ذلك أبدا إلى انعدام المبادئ الأخلاقية وإنما على العكس من ذلك، إذ قيمنا الإنسانية، الأخوة والتضامن والحماية الاجتماعية.. هي التي خلقت دول العناية والرفاه وهذا لعب دورا سلبيا ضدنا في إطار المنافسة المعولمة إلى درجة أصبح وضعنا صعبا أمام عدد الوافدين الجدد. ولهذا ينبغي أن نحافظ على نموذجنا الاجتماعي أكثر من أي وقت مضى.
في كتابك ” الإنسان المؤله أو معنى الحياة “، تتابع تطور الأفكار التي انبثقت عن علمنة المجتمع الأوروبي، ونفهم انطلاقا من تحليلك أن القيم الأخلاقية تحل محل الدين أكثر فأكثر، وأن دليل الإنسان غدا مع مرور الوقت أخلاقية مؤسسة في جزء كبير منها على مبادئ حقوق الإنسان.. فهل هذه السيرورة قابلة للتعميم على العالم كله؟ وهل يمكن أن تحدثنا عن خصوصية الحضارة الأوروبية وتأليهها للكائن البشري؟
فيري: مثل الفيلسوف هيجل الذي وصف الوعي الشقي وصفا جيدا، لا يريد عدد كبير من المثقفين والنقاد في أوروبا الليبرالية والديمقراطية إدراك سوى ما ينهار ويموت في التاريخ، وتقريبا لا يرون أبدا ما ينبثق ويبدأ في الحياة. ومن هنا تلك النزعة التشاؤمية التي كانت قوية إلى درجة أطلقت العنان للفكر السلبي. ومن هنا أصبح التفاؤل يبدو سذاجة والتشاؤم ذكاء. وفي حقيقة الأمر أصبح هذا التشاؤم مرض العصر. ولم تعد تحصى الكتب التي تعلن انحطاط أوروبا، انهزام الغرب وسقوطه، اضمحلال المجتمع المدني، فشل الليبرالية المؤكد وغير ذلك من التكهنات التي نقرأ على طول صفحات تلك الكتب التي لا ترى مصير القارة العجوز سوى مأساويا. أحسن إجابة ربما على هذا الزعم مقولة جورج برنانوس الشهيرة “إذا كان المتفائل غبيا سعيدا، فليس المتشائم سوى غبي شقي”.
كلمة جميلة وعميقة ولكن ماذا تقصد من ورائها هنا؟
فيري: يجب أن نعترف ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين أن الأنماط التقليدية للتضحية الجماعية، العنيفة وواسعة النطاق قد تم تجاوزها تماما. فمن يرغب اليوم، على الأقل في أوروبا، أن يموت في سبيل الله، أو من أجل الوطن أو الثورة؟ لا أحد أو تقريبا لا أحد. وعلى عكس الكآبة السائدة، أعتقد بأن أهم خبر سار ليس بالنسبة إلى القرن العشرين فقط وإنما بالنسبة لألفية كاملة هو انتهاء الحروب الوطنية. كيف يمكن أن لا أعتز وأبتهج بهذا السلم، أنا الفرنسي الذي درس الفلسفة بألمانيا التي كان أبي في حرب معها في الميدان؟ أما في ما يخص هراءات الماوية القاتلة التي خلّفت عشرات الملايين من الضحايا في ظروف فظيعة، فاستثناء بعض المثقفين الطاعنين في السن المسكونين بحب الظهور، فلا مثقف لا يسره تصفية هذه الماوية وذهابها إلى غير رجعة.
وفي ما يخص الحروب اليوم؟
فيري: هي مقرفة تلك الحروب الدينية التي تلطخ العالم بالدماء اليوم! ولكن هل هذا يعني ويكفي للقول بأننا نعيش في عصر الخواء، إزاحة السحر عن العالم، والهروب المدني؟ لا أرى ذلك إطلاقا. بل ذلك هو وهم الوعي الشقي النموذجي الذي لا يحبّ أن يحبّ. ما نعيشه ليس إجهازا بأيّ حال من الأحوال على المقدس أو كسوفا للقيم وإنما هو تجسيد جديد لها في وجه جديد، وجه الإنسانية. اطرح على نفسك بكل أمانة السؤال التالي: من أجل من أو ماذا أنت مستعد للتضحية بحياتك؟ بكلمات أخرى، ما هو الشيء الذي تعتبره كمقدس، كجدير بالتضحية؟
سأعيد توجيه السؤال ذاته إليك..
فيري: سيكون الجواب بالنسبة إلى أغلبيتنا الساحقة في أوروبا: الإنسان هو المقدس القريب والبعيد وليس التجريدات الفارغة للدين والسياسة التقليديتين. وبفضل هذه الليبرالية المفترى عليها كثيرا، نحن نعيش ولادة وجه إنساني جديد مغاير لإنسية فولتير وكانط وحقوق الإنسان والعقل وتلك الأنوار التي كانت حقا حاملة لمشروع تحرر واسع بيد أنه قاد أيضا إلى الامبريالية وإلى الاستعمار. ما نعيشه هو على النقيض من ذلك: إنسية ما بعد كولونيالية وما بعد ميتافيزيقا، إنسية تعال وحبّ وغيرية. ينبغي علينا ابتداع مقولات فلسفية جديدة من أجل التفكير في إشكاليات هذه الإنسية الجديدة والآمال المعلقة عليها. وأقل ما نقول هو إنّ هذا الرهان يستحق كل اهتمامنا.
هل لديك فكرة عن الفلسفة العربية اليوم وهل تعتقد أن هناك فلسفة غير غربية؟
فيري: يبدو من تعريف الفلسفة الذي اقترحت منذ قليل أنها لا بد أن تكون علمانية أو لا تكون. وبطبيعة الحال يوجد علماء لاهوت ومفكرون كبار في مجال الدين كالقديس توما الإكويني وباسكال لدى المسيحيين وابن سينا وابن رشد في العالم العربي الإسلامي. فكتاب “فصل المقال” لابن رشد هو عمل رائع حقيقة ومؤلفه شارح عظيم لأرسطو وكان له تأثير كبير جدا على العالم المسيحي وآدابه. ولكن مهما كان الفكر عميقا، فإن ذلك لا يجعل منه فلسفة إذ لا يمكن التفلسف دون التحرر نهائيا من قبضة الدين.
يقدم أندري كومت سبونفييل نفسه على أنه فيلسوف مادي مأساوي بينما يرى ميشال أونفري نفسه فيلسوفا متعويا.. فكيف يصنف السيد لوك فيري نفسه؟
فيري: كإنسي (هومانيست)، بطبيعة الحال، بالمعنى الثاني للكلمة الذي حدثتك عنه سابقا، إنسية الحب التي أحاول تشييدها منذ مدة من كتاب إلى آخر.