مأزق‭ ‬التغيير

الأربعاء 2015/04/01

رغم المآخذ على تصدير الديمقراطية عبر مشاريع خارجية أو عبر أشكال جديدة من الاستتباع الثقافي والاقتصادي، يتوجب على النخب العربية في المشرق والمغرب والخليج التفكير ملياً في أسباب المأزق السياسي والأيديولوجي الذي يمنع الشعوب والأفراد من التمتع بحقوقهم وعيش مواطنتهم والاشتراك في صنع مستقبلهم‭.‬

من خلال مراقبة تطور الواقع العربي في العقود الأربعة الأخيرة للقرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن، يتضح أن زعزعة الاستقرار المنتظمة التي اتسمت بها المنطقة تناقضت قطعاً مع استقرار الأنظمة التي لم تعرف غالبيتها إلا القليل من التحولات رغم تغيير بعض الأوجه القيادية فيها‭.‬ وهذا الاستنتاج يخرق “نظرية الأدوار السياسية” حيث كانت تحصل تحولات كل عقدين من الزمن، منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948‭.‬ الدور الأول لهذه التغييرات حصل مع الانقلابات العسكرية من سوريا إلى مصر والعراق في عقد الخمسينات، أما الدور الثاني فبعد هزيمة 1967 إذ شهدت سوريا وليبيا والسودان ثلاثة انقلابات وبدأ صعود منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني‭.‬ ومنذ ذلك الحين انسدت آفاق التغيير وأخذت الأنظمة تفتخر بديمومة تربّعها على مقدرات الحكم حيث أن الحصيلة البائسة والأزمات الاقتصادية والأحداث الجسام (من حروب لبنان إلى حروب الخليج والاتفاقات مع إسرائيل ومسلسل العنف الجزائري وسقوط بغداد) لم تفلح في زعزعة أيّ نظام أو إدخال تغييرات جدية على طبيعته.

منذ بداية التسعينات تأكد المأزقان السياسي والأيديولوجي في عالم عربي محشور بين أنظمته البوليسية الطابع غالباً وبين حركات إسلامية لم تعد تجسد آمال التغيير الايجابي ولو أنها حافظت على مواقعها كقوى معارضة أساسية‭.‬ وقد سهّل الاستبداد وسعي الأنظمة لاكتساب شرعية تنقصها عبر الأسلمة الاجتماعية نشوء هذا الواقع وانحسار دور القوى اللبيرالية والديمقراطية‭.‬ وفي ظل هذا المعطى تكرّس خلق الفراغ حول الحاكم والتهويل من أخطار الفوضى، بالإضافة إلى قصور التيار القومي العربي عن حمل لواء الديمقراطية وعن طرح معادلات جديدة بعدما بقي لفترة طويلة سيد الحياة الفكرية تحت حجة الدفاع عن القضية الفلسطينية‭.‬

بيد أن آلية التفسير الأقرب إلى الواقع عن سبب استمرار الأنظمة ضمن مجتمعات منهكة ومنظومة جيوسياسية مضطربة، تستند إلى علم الاجتماع العمراني وإلى الواقعية السياسية الماكيافيلية. في الكثير من الحالات تعتمد المجموعة الحاكمة على روابط العصبية بحسب مفهوم بن خلدون، في تعزيز وحدتها، وتقوم بربط القطاعات القوية في المجتمع فيها بسلسلة من المصالح، على أن يخضع كل ذلك لإشراف أجهزة أمنية تمسك بالكثير من مفاصل القرار. في الدولة البوليسية العربية- إذا جاز لنا التعبير بعدما غرر بنا طويلا بتقسيم الأنظيمة بين تقدمية ورجعية- يعتبر القائد الملهم رأس الهرم مستندا إلى عصبية المجموعة الحاكمة (الأسرة، الحزب، الطائفة، القبيلة أو المنطقة...)، ولا يستند الولاء لاعتبارات الانتماء والعصبية فحسب، بل يشترى أيضا من خلال النفعية الشائعة وتحكم طغمة مالية- أشبه بالمافيات- بمرافق الاقتصاد وبتبديد المال العام أبرز عناصر قوة المستبد للتنكيل ببني قومه. وتكتمل الدائرة في التفتيش عن شرعية قومية أو دينية مصطنعة لتبرير ضروب الاستبعاد.

بعدما بلغ السيل الزبى مع تهاوي النظام الإقليمي العربي (بدأ السقوط عام 1967 وتعمق منذ سقوط بغداد عام 2003 وبروز ثلاث قوى إقليمية هي إسرائيل وتركيا وإيران تحت ظلال العصر الأميركي) وفشل معظم تجارب دول الاستقلال، أصبح التغيير حاجة ملحة عبر إعطاء تعريف جديد للعروبة كي تكون بوتقة حضارية ديمقراطية تستوعب الخصوصيات الإثنية والثقافية والدينية‭.‬

تاريخياً، تعتبر الدولة ظاهرة القرن العشرين بامتياز وفيه تصاعد عدد الدول من 120 دولة إلى 195 دولة بعد نهاية الحرب الباردة‭.‬ ولم يشذ العالم العربي عن القاعدة

إن الدولة البوليسية العربية هي ثمرة نكبة 1948 في المشرق وصعوبات نزع الاستعمار في المغرب، ولا بد لدولة القانون (أو لدولة الحق كما يصر البعض على تسميتها) من أن تكون الدولة البديلة التي تعكس تمثيلا حقيقيا لمجتمعاتها وليس في الضرورة من خلال نموذج ديمقراطي جاهز غير متلائم مع الخصائص الثقافية لبعض المجتمعات العربية.

يعمق الأزمة القائمة البعد التاريخي للانحطاط بعد فشل أول محاولة نهضوية عربية في أواخر القرن التاسع عشر والتي أتت كردة فعل على الاستبداد العثماني، وكذلك بعد انتكاسات التيار القومي العربي الذي بلور مشروعاً نهضوياً كردّ على النكبة في فلسطين، لكن هزيمة حزيران 1967 وانعدام الحريات الأساسية قوضا المحاولة الثانية‭.‬ واليوم، بعد تجارب 2011 – 2015 ، يبرز مأزق عدم وجود ديناميكيات قادرة على التغيير، وهذا يتوجب أن يحفز على بلورة مشروع ديمقراطي عربي على ضوء المتغيرات الجديدة الآخذة في التشكل في مرحلة ما بعد أواخر العام 2010 (الحراك الثوري العربي وتداعياته) وبناء على تفاقم الوضع في سوريا وليبيا واليمن واتكاسات المراحل الانتقالية، تكتسح العواصف "الربيع العربي" ويكثر الكلام عن إعادة رسم الخرائط وعن تجاذبات أو ترتيبات دولية جديدة.‬

لكن مقابل عدم تبلور صورة المشهد الإقليمي ومصير وحدة الكيانات في مستقبل منظور، نلحظ استمرار تحطيم الدول المركزية استناداً إلى مخاطر امتداد النزاع السني ـ الشيعي في المشرق والمعطوف على صراع في سوريا وحولها متصل بمصالح إيران وإسرائيل وتركيا وغيرها من أطراف لعبة الأمم‭.‬ أما في مصر والمغرب العربي فتبرز الصراعات الأيديولوجية والقبلية والجهوية لكي تترك آثارها السلبية على وحدة المجتمعات‭.‬ كل ذلك يطرح تساؤلاً رئيسياً حول السيناريو الأكثر ترجيحاً بالنسبة إلى مستقبل نموذج الدولة القومية عبر نهايته أو تأقلمه وتحوله لدولة مختلطة تعددية لا مركزية تسمح بتلبية مطالب المجموعات الإثنية والمكونات الأقلية، مما يتيح لاحقا تحديد السمات الرئيسية للنظام العربي بشكل فيدرالي خاصة في المشرق‭.‬

تاريخياً، تعتبر الدولة ظاهرة القرن العشرين بامتياز وفيه تصاعد عدد الدول من 120 دولة إلى 195 دولة بعد نهاية الحرب الباردة‭.‬ ولم يشذ العالم العربي عن القاعدة العامة إذ أن دوله نشأت في القرن المنصرم كنتاج لتفكيك الدولة العثمانية ونزع الاستعمار الأوروبي لاحقاً‭.‬ وفي السياق التاريخي يمكننا القول إن “الصحوة العربية” المنطلقة من تونس هي ثالث محاولة نهضوية للتخلص من الانحطاط والاستبداد وبناء أنموذج سلفي أو تغييري أو حداثي جديد تبعاً لطروحات هذا التيار الفكري أو ذاك‭.‬

ومن اللافت للنظر إلى أن الانتفاضات العربية اندلعت في نطاق الكيانات، ولم تكن لها في البداية اطروحات فوق قومية أو دينية‭.‬ وبدا عامل العدوى طبيعيا ومنتظرا بالرغم من تحرك قوى الثورة المضادة من قوى إقليمية ودولية أو من قوى أيديولوجية استعجلت قطف الثمار لبناء مثالاتها في “الدولة الاسلامية” أو في الخشية على “دولة القانون” (أو دولة الحق المدنية والعلمانية الطابع) مما زاد في احتدام الصراع بين التيار الديني والتيار المدني‭.‬

وقد لاحظ الكاتب زاكروس عثمان أن “الربيع العربي كان ثورة فريدة سبقت العالم إلى إعلان انتهاء عصر الدولة، فهو ليس مجرّد تمرّد على أنظمة حكم استبدادية فاسدة، بل ثورة على الدولة الفاشلة، وقفزة نحو المستقبل لإيجاد تنظيم أوسع من الدولة التي أصبحت في حدّ ذاتها مشكلة عالمية”‭.‬ في هذه المقاربة حسم مبكّر لنتائج مخاض لن تظهر نتائجه حالاً، لكن المراقبة للمشهد العالمي تبين بالفعل أنه بعد مرحلة صعود وتضخم للدول بعد نهاية الحرب الباردة وبالتزامن مع العولمة الشمولية، نعيش مرحلة انحدار الدولة عالمياً‭.‬ مع بدايات القرن الحادي والعشرين، نستنتج تراجعا مع زيادة المناطق الرمادية ‭)‬اللادولة) وتأكد تفكك الدول من الصومال إلى كوسوفو وتيمور الشرقية والعراق والسودان‮…‬ ناهيك عن حالات تفكك ممكنة في قلب أوروبا بالذات من كاتالونيا الأسبانية إلى بلجيكا وأسكتلندا وإيطاليا‭.‬ وهكذا في مواجهة العولمة والتجمعات الكبرى، يعمل تيار ليبرالي من أجل خصخصة وظائف الدولة السيادية (الأمن والجيش) أو من أجل تذويبها نقدياً كما في حال منطقة اليورو‭..‬ وهناك أيضاً تيارات قومية أو دينية تعمل لمزيد من الانكماش وضرب أنموذج الدولة القومية الغربي المنشأ وغير الملائم حسب وجهة نظرها للتطور التاريخي الحالي‭.‬

هكذا بدل تباشير تحول عربي إيجابي كانت تلوح في أفق 2011، يبرز اليوم واقع سياسي معقد ربما يجعل مفهوم الدولة القومية متضارباً مع العالم العربي الجديد الناشئ‭.‬ لذا لا بد من مشروع ديمقراطي عربي ينهل من التراث العريق ويتأقلم مع متطلبات الشمولية في عالم تسوده التجمعات الكبرى، وخصوصا أن الحلول للأزمات ضمن إطار الكيانات لم تكن ناجعة‭.‬ إن الشرعية الدينية ليست كافية لوحدها ولا يجوز أن تطغى أيديولوجيتها على عناصر الدولة القومية الناجحة‭:‬ الشورى الديمقراطية، الاستقلال الاقتصادي، النمو المدعوم ذاتيا، والأمن السياسي داخل الحدود الوطنية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.