مأزق اسمه الفكر النقدي
لنفترض جدلا أن العقل الغربي الذي قاد الثورة الفكرية والعملية التي أوصلتنا إلى العصر الحديث كان قد قرر الاستكانة والابتعاد عن الفكر النقدي. يمكن بسهولة لأي باحث أو مطّلع أن يقول إن العالم الذي نعيشه كان سيصبح شيئا آخر، مظلماً ربما أو منكسراً، أو فقط استمراراً لعالم القرون الوسطى.
هذا لا يعني فناء البشرية، وإن كانت قد اقتربت من الفناء مرات بسبب الأوبئة. لكن شيئا ما مفصلياً كان سيتغير في قدرة الإنسان على النظر إلى واقعه بمسعى الرغبة في التغيير. من دون عين ناقدة، تبقى الأمور كما هي ويخنق السكون حياتنا.
يبدو العالم اليوم على الطريق السريعة نحو المستقبل. تتزاحم الإنجازات التقنية والابتكارات. هناك 120 دواء أساسياً رخيصاً، تنتج في أنحاء الأرض وقادرة على شفاء 99 بالمئة من الأمراض. المزارع ملأت بطون البشر بوفرة الإنتاج.
العقول متخمة بالمشاهد التلفزيونية والنصوص والصور. التقدم في العلوم الفيزيائية والبايوتقنية جعل مفكرين كباراً يتراجعون عن نظرياتهم حول استقرار مسيرة التطور.
هذا التقدم فتح الباب أمام آفاق جديدة غير مسبوقة للبشرية. دواء مضاد للكآبة يستطيع تغيير حياة مئات الملايين من البشر في العالم، مثلما يقدم هاتف ذكي فرصة التواصل للمليارات، كما لم يحدث من قبل: كم كلمة هالو تقال يوميا الآن؟
مشكلة هذا التقدم المذهل تكمن في قدرته على أن يصبح أساساً للارتداد. قبل الحديث عن واقع عربي، يمكن النظر إلى ما حدث في الغرب أولا. التغريدات التي تستفيد من قمة التقدم التقني يمكن أن تكون فرصة لصعود شخصية عبثية على شاكلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
الصحف البريطانية التي عُرفت بجرأة تناولها للموضوعات الداخلية الساخنة، صارت اليوم تقف عاجزة أمام اكتساح الأخبار الملتوية التي تروج على الشبكات الاجتماعية. كل ما بناه السياسيون والمثقفون والصحافيون، والأهم الاقتصاديون ورجال الأعمال، من عمارة الانتماء البريطاني لأوروبا، تم هدمه بالتلفيق والدعاية.
انتهت بريطانيا تتلمس -عمياء تقريبا- طريقها خارج أوروبا. الصمود الألماني في مواجهة حملات الأفراد والمجموعات التي تدعو إلى طرد الأجانب من ألمانيا وأوروبا يستحق التقدير، لكنه يعود إلى أسباب تاريخية وإلى عقدة الذنب أكثر منه إلى وعي جماعي بأهمية الدماء الجديدة التي تأتي مع المهاجرين، حتى اللاجئين منهم.
الفكر النقدي الحداثي الذي شكل الغرب المعاصر، ومعه العالم بشكل أو بآخر، يقف مرتبكا أمام مد الشعبوية، شعبوية يحملها التقدم نفسه على ظهره. إلا أن ما يبعث على الاطمئنان هو أن هذا الفكر الحداثي الغربي سيتجاوز الردة الشعبوية بمرور الوقت وبفعل التجربة لأنه، بالحد الأدنى، يدرك إلى أين ستقوده فوضى اللانقد.
الوضع في الشرق مختلف تماما. فاجأنا التطور. كان البناء الحديث في بداياته. توفر الغذاء، مثلا، لم يدفع أوروبا إلى تغييرات سكانية عددية كبيرة، رغم أن الغرب هو المنتج الأول للغذاء في العالم. لكن هذه الوفرة تحولت في عالمنا العربي إلى زيادة سكانية مفرطة استهلكت معظم الموارد.
منظومة المجاري في القاهرة تئن قبل أن تئن الصفوف المدرسية من عدد الطلاب، أو الشوارع من السيارات. تساوت أدوار انعدام الفكر النقدي في تنظيم الحالة السكانية، على سبيل المثال، مع استسلام الدولة العربية لغيبيات رجال الدين، أو ترك الأب والأم يجرِّبان الإنجاب لحين ولادة الولد الذكر، وأخيه وأخيه وأخيه بعد أخته وأخته وأخته.
انظروا ماذا حل بتعاملنا مع التقنية. ولَّدت الثورة المعلوماتية في عالمنا كتلة حرجة للتمرد. مجموعة المفكرين العرب، ممن كان في صميم مسؤوليتهم نقد حالة الفوضى، انساقوا بعيدا في مجاراتهم لهذه الفوضى، وركبوا موجة الاضطرابات بكل انتهازية، من دون التوقف عند العواقب.
بعضهم رمى أدواته النقدية واستقر مفاوضاً سياسياً في قاعة من قاعات جدل، أو مفاوضات النزاعات العرقية والطائفية والدينية التي اشتعلت تباعا في منطقتنا. التقنية فضحت مثقفنا قبل أن تتسبب بالانقلاب على سياسيينا.
هو منتقد وشتَّام أكثر منه ناقداً أو مفكراً. الفكر النقدي في عالمنا العربي، الذي كتبنا عنه الكثير، لم يسقط في امتحان بناء الوعي فقط، بل فشل فشلاً ذريعاً في الحضور الفاعل في قضايا مصيرية. الفكر النقدي، الذي هو في صميم الحداثة، صار أداة تفسير وتبرير لصراعات أخذت تستمد شرعيتها من حقائق، أو أوهام عمرها قرون.
الفكر النقدي في عالمنا العربي عنوان مأزق خطير. اسمه “فكر” وصفته أنه “نقدي” ويمارسه “مفكرون” و”نقاد” ويقرأه الناس على أنه فكر ونقد، ولكنه يخلو حتى مما ينتمي إلى اسمه. إنه نزعة ارتدادية تقود إلى السكون بدلا من أن يكون محرك التغيير.