مأزق سؤال الغياب
عندما يُطرح سؤال غياب المرأة الناقدة تمتد حمولاته الثقيلة إلى أبعد من التفَقُّد والقلق واستقصاء الأحوال؛ هو سؤال يستبطن اتهاما بالقصور في أسوأ الاحتمالات، وبالتقصير في أفضلها. لذلك فالسؤال يضع المُجيب عليه على مستوى التحدي، ويجعله يتصدى جاداً لمهمة دفع التهمة عن المرأة، قاصرة أو مُقصّرة. أما وقد تم الاستدراج إلى خط الدفاع، فالمسار أمامه ذو اتجاهين، إما أن يستحضر نماذج نسائية كثيرة ويحشد رده بأسمائهن ونشاطاتهن النقدية وكأنه يكتب ورقة بحثية راصدة أقرب ما تكون إلى موسوعة بيانات، أو أنه ينجرف إلى سرد تبريرات الغياب المعتادة التي تـُذكّر بالتاريخ التغييبي المشين وتستعرض الهيمنة الذكورية التي أقصت المرأة واحتكرت المشهد الفكري والثقافي، بل وجميع امتيازات الفضاء العام على مرّ العصور. في هذا الاتجاه يتواطأ المجيب على سؤال الغياب مع معطياته ويُسلّم بالغياب، فورقته التظلميّة تهدف إلى رفع أصابع الاتهام من وجه المرأة، ثم إلقاء عبء اللوم على رأس الرجل، لكنها في ذات الوقت تعترف بالغياب.
وبعيداً عن الرصد أو التظلم، تجنح هذه الورقة إلى مسائلة السؤال ومجابهة منطلقاته ودوافعه، بدءاً من مسألة الغياب في حد ذاتها والتي هي بحاجة إلى الضبط والتدقيق. عندما يُطرح سؤال غياب المرأة الناقدة -وكثيراً ما يُطرح-، نجد التعبير عنه متفاوتاً في قياسه، فهو يتدرج من الغياب إلى شبه الغياب، ومن الندرة إلى القلة، ومن الحضور الخجول إلى الحضور الباهت، ومن العدمية إلى التغليب، حتى أننا في نهاية الأمر نستطيع أن نجزم بأن غياب المرأة الناقدة المقصود ليس انقطاعاً، وأن السؤال لا يشير إلى قطيعة بينها وبين الحضور، ولا إلى تقاعسها عن ممارسة النقد إلى حد يستدعي طرح السؤال.
ثم إن هذا السؤال الذي يفترض غياب المرأة الناقدة لا يُحدّد له مكان ولا شكل، أي أنه لا يذكر أين تم رصد غيابها ولا عمّا تغيبت. هل تغيبت عن الساحة النقدية والثقافية، أم أن إنتاجها هو الذي تغيّب؟ منطقياً، المرأة الناقدة موجودة في أماكن النشاط النقدي، ألا وهي الأندية الأدبية والمؤتمرات والمنتديات والملتقيات والصالونات الثقافية، كما أنها حاضرة في الجامعات كمتخصصة في المناهج والأدوات النقدية أكاديمياً وتنشر أعمالها في الدوريات العلمية والمجلات الثقافية، وهي حاضرة في الأنشطة المصاحبة لمعارض الكتب حيث تعرض على أرففها كتبها هي أيضاً. من هنا نستخلص أن السؤال يستقصي حضوراً من نوع آخر، ألا وهو البروز والشهرة، ذلك الضجيج الإعلامي حول أسماء نجحت في لفت الانتباه وشد الجماهير، وليس الحضور بمعنى الإسهام الجاد في التيارات النقدية العربية المعاصرة.
هناك بالفعل ناقدات معروفات اسما وعملاً، لكن السؤال يظل يتردد في كل مرحلة زمنية وكأن هؤلاء النساء ما هن إلا استثناءات الحضور لقاعدة الغياب. لا يبدو أن هناك نقطة في الزمن يختفي منها السؤال تأكيداً لحضور متوالٍ، فبعد أن تسجل مجموعة من النساء بصماتهن على تاريخ النقد والفكر في الأربعينات من القرن الماضي، يطرح السؤال على نساء الخمسينات، فإن أثبتت المرأة قدراتها ومكانتها في الستينات، عاد السؤال ليؤرق ناقدات السبعينات. وهكذا، تواجه المرأة الناقدة سؤال الغياب في كل مرحلة كسؤال ضاغط ومُحبط لها يرفع وتيرة التحدي وهو يعبر عن تسببها في انتكاس لمسيرة النساء السابقات، لأن السؤال يتكرر على صيغة واحدة: أين المرأة الناقدة بعد أن كانت هناك أم جندب زوجة امرئ القيس بن حجر وسكينة بنت الحسين وولادة بنت المستكفي وعقيلة بنت عقيل ابن أبي طالب؟ ولماذا خفت صوت المرأة الناقدة بعد أن كانت هناك مي زيادة وملك حفني ناصف وماري عجمي؟ ولماذا اختفت المرأة الناقدة بعد أن كانت هناك عائشة التيمورية ووردة اليازجي ولطيفة الزيات وسهير القلماوي؟ وما سبب تضاؤل عطاء المرأة الناقدة من بعد أن جاءت نوال السعداوي وغادة السمان، وسلمى الخضراء الجيوسي؟
سؤال الغياب المُستحْضَر بشكل دوري في كل الحقب الزمنية يسجل شهادة بحضور ولمعان أسماء نسائية ذات عطاء مهم في مراحل سابقة، لكنه أيضاً يضع المرأة الناقدة على مفرزة المقارنة مع الناقدات السابقات، ويومئ إلى حتمية التمثل بهن والحذو حذوهن. وهنا يظهر عائق الريادة الذي يغفله السؤال، فالناقدات الأوائل قد أحرزن قصب السبق ونلن مفخرة البدايات، وحتى إن كان إنتاج المتأخرات أقوى وأقيم إلا أنهن يبقين المؤسِّسات للنقد النسائي. هذه العقلية الماضوية التي تحكم الثقافة العربية بشكل عام تعطي الأفضلية والأستاذية لمن بدأ، وإن كان من تلاه أنضج وأعمق.
المقياس إذن هو مسطرة مستحدثة لقياس النشاط النسائي بعضه ببعض، بمعنى أن الناقدات لا مجال لمقارنة أعمالهن بالناقدين، فالسؤال الذي يضع النماذج النسائية السابقة كأمثلة للناقدة الحديثة يرتكز على اعتقاد راسخ بأن النساء يقاربن النساء، وأن حركة النقد منشطرة ما بين نقد نسائي محشور في زوايا ضيقة، وآخر رجالي منفتح على الساحة النقدية بكاملها، أي بين الهامش والمتن. من المستحيل أن يُطرح سؤال الغياب بصيغة تستحث الناقدة لتلحق بركب النقد العام، مثل أن تُسأل: لماذا لا تكون من بين الناقدات ناقدة مثل الرافعي، والسبب في ذلك هو الاعتقاد بأن ما بين النساء والرجال بون شاسع والمسافة بينهما يستحيل اجتيازها، وتأتي غزارة الإنتاج والتفوق العددي الرجالي أدلة قاطعة على التمايز في حقل النقد بينهما. ومن هذه الزاوية فإن المرأة لن تلحق بالرجل أبداً بمحض الأسبقية التاريخية، ولكنها يجب أن تنخرط في كفاح مستمر بلا توقف وإن لم تجن ثمرة مرضية من وراء كفاحها، سوى أن تثبت حضورها، وإلا وُصمت بالغياب.
وهذه الوصمة في حقل النقد خطيرة إلى حد الموت. في حقل النقد، النتاج يعني التفكير، والتفكير مؤشر امتلاك عقل يمارس وظيفته. لذلك لو توقفت المرأة الناقدة عن إنتاج ما يعلن حضورها فالتهديد بتكريسها لمقولة “العقل ذكر، والعاطفة أنثى” جاهز، والحكم بالقصور العقلي قد يصدر مرة أخرى في أيّ وقت، وهي قد تفقد الاعتراف الذكوري باكتمال عقلها كإنسان. تجد المرأة الناقدة نفسها داخل دوامة صراع وجودي والسؤال الغيابي يلاحقها ويتهمها بشبه الغياب، والحضور الباهت، والتضاؤل إلى درجة مرعبة، وهي لا بد أن تثبت باستمرار أنها ما زالت تفكر لتستحق أن تكون موجودة، وإن لم يكن هذا التفكير منظوراً ومسموعا ومطبوعا ومنشورا ومطابقاً لمواصفات الحضور التفاعلي الكامل المشهود له، فالمرأة على وجه العموم سترتد إلى وضع عدمي بابتعادها عن “العقلانية”.
مقارنة بالنساء، كل النقاد حاضرون وإن تميز من بينهم عشرات، ومقارنة بالرجال كل الناقدات غائبات وإن تميز من بينهن عشرات. لذلك فإن سؤال الغياب لا يطال الرجال وإن كان من بينهم نقاد لا يكاد يراهم أحد، لكنه يطال النساء لأن امرأة واحدة لا تشفع، ولا اثنتان ولا عشر، فليس للنساء كوتا واضحة يصل إليها عدد الناقدات لكي يسجلن حضوراً مميزاً لا تغفله عين أحد. إن حضور ناقدة واحدة مهما بلغ تفوقها وسط عشرة نقاد يضعها تلقائياً في زاوية التمثيل النسائي، زاوية تجعل حضورها رمزيا لأنها تتقلص من ناقدة ضمن نقاد إلى عنصر نسائي أوحد ينوب عن حضور بنات جنسها.
إن نسبة الواحدة لعشرة تحكم حضور المرأة مهما تزايدت أعداد الممارسات للعمل الثقافي لأنها لم تنعتق بعد “من شرنقة الوجود الاجتماعي كجنس آخر”، كما تقول فاطمة المرنيسي، ويتضح هذا جيداً في ظاهرة احتكار الرجال للصدارة والأولوية ومرتبة كبار النقاد والصفوف الأولى في جميع مواقعها، ففي مرحلة الاصطفاء والتمثيل الرسمي والدعوات التحكيمية والمناصب التشريفية يتقدم الرجال وتُصبح المرأة الناقدة نسياً منسيّـاً، وهذا غياب ملحوظ لا ينكره أحد.
يفقد سؤال الغياب النسائي عن الدرس النقدي مشروعيته بعد تفكيك مضامينه ومنطلقاته، ونكشف بهذه التساؤلات عن وضع المرأة كحاضر غائب، تتحدث فلا يُنصت لها، وتقدم عطاءاتها فلا تُرى، فهي تعمل في مجال يتعالى عليها، فيفتح لها باب الإنصاف في منحها فرصة تكافئية للمشاركة، لكنه لا يقدّر ملكاتها ولا يعتبر قولها النقدي إضافة قيمة لمشروع نقدي مشترك وموحد يمركزها في بنية الجماعة النقدية.