ماذا يتبقى من ثورة أكتوبر
لو أجملنا الرأي في هذا الحدث لقلنا إنه، باختصار، انقلاب عسكري سرعان ما تمخض عن أعتى الأنظمة الشمولية في القرن العشرين. ولو فصّلنا القول لأضفنا أنه انقلاب على ثورة حقيقية سبقتها، تلك التي قامت في شهر فبراير 1917 بالتقويم اليولياني (أي مارس بالتقويم الغريغوري الغربي)، حين ثار سكان بتروغراد مع بعض الجنود، بعد أن أرهقتهم الحرب المتواصلة منذ 1905 وتقنين المواد الغذائية، ودفعوا بالقيصر نيكولا الثاني إلى التنحي.
هذه الثورة الجماهيرية، التي حملت تطلعات الإنسان الروسي إلى الحرية والإخاء بعد قرون من الاستبداد والسلطة المطلقة، أثارت هبّة سياسية رائعة. ورغم عدم الاستقرار الذي كانت تعيشه البلاد، توصل الليبراليون والاشتراكيون إلى تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة ألكسندر كيرنسكي، وسن قوانين غير مسبوقة كإلغاء الرقابة، وحرية المعتقد، وحق النساء في التصويت، ولكن واجهتها سلطتان منافستان هما “الدوما”، البرلمان الرسمي الذي تأسس عام 1905، و”السوفييت” أي المجالس الشعبية المنتخبة المكونة من عمال وجنود، وكانت الأغلبية فيها للمنشفيك، الذي يعتقدون ألا سبيل لثورة حقيقية دون إقرار الديمقراطية. أما البلشفيك، المنشقون عنهم، فكانوا أقلية.
هذه الأقلية هي التي سيستند إليها لينين لإعلان انتفاضة في بيتروغراد، لم يكتب لها النجاح فاضطر زعيمها إلى الفرار إلى فنلندا، تاركا مهمة تنظيم الصفوف لرفيقه تروتسكي. في بداية سبتمبر حاول جنرال من أتباع النظام القيصري يدعى لافر كورنيكلوف الاستيلاء على السلطة، ما أجبر كيرنسكي على الاستقواء بكل الأطراف وتسليحها دفاعا عن الثورة، بمن فيهم البلشفيك، الذين أشاعوا بين جنود بتروغراد بروباغندا فعّالة تقوم على ثلاثة نقاط: إقرار سلام فوري (وكانت روسيا لا تزال في حرب ضد ألمانيا والنمسا المجر)، الأرض للمزارعين، والسلطة للسوفييت كوسيلة مثلى لديمقراطية تمثيلية.
فكانت فرصة أمام لينين، الذي عاد من منفاه، ليدبر انقلابا أسماه “ثورة الجماهير” ما بين 24 و25 أكتوبر بالتقويم اليولياني (أي 6 و7 نوفمبر بالتقويم الغربي)، وتمثلت في سيطرة أنصاره في بضع ساعات على أهم النقاط في موسكو، كقصر الشتاء مقر إقامة القيصر سابقا الذي تحول إلى قصر للحكومة، والجسور، ومحطات التوليد الكهربائي… ولم ينجم عن تلك العملية سوى مقتل بضعة جنود حسب المؤرخين السوفييت أنفسهم. فقد ذكر ليون بولياكوف في كتابه “توتاليتاريات القرن العشرين” أنه “لم يسبق أن نجمت عن معركة صغيرة الحجم لم يرح ضحيتها سوى عشرة أفراد عواقب عظيمة”. وبذلك انتقل الحكم إلى البلشفيك الذين استولوا على كل المراكز الحساسة، حتى لجان السوفييت. وفي ظرف وجيز أغلقوا صحف المعارضة، وأنشؤوا جهاز “تشيكا”، البوليس السياسي الذي سيصبح فيما بعد جهاز المخابرات السوفييتية “كا جي بي”. وفي نوع من الوفاء لوعوده السابقة، سمح لينين بانتخاب مجلس تأسيسي في شهر ديسمبر، غير أن النتائج خيبت ظنه، إذ لم يحصل البلشفيك إلا على 168 مقعدا من جملة 709.
ولم يكتب للمجلس أن يجتمع سوى مرة واحدة، في شهر يناير، قرر النظام الجديد إثره إغلاقه نهائيا في مساء اليوم نفسه. وأصدر لينين قرارا عيّن نفسه بموجبه رئيسا لمؤتمر السوفييت ذي الأغلبية البلشفية، معلنا عن قيام النظام السوفييتي، وبذلك فتح عهدا من الاستبداد، سوف يسحق الشعب الروسي، وسائر الشعوب التي سيخضعها هو بالقوة، ثم ستالين من بعده، للهيمنة باسم “دكتاتورية البروليتاريا”.
ولا يختلف المؤرخون في اعتبار لينين مبتكر التوتاليتارية في العصر الحديث. يقول ستيفان كورتوا المؤرخ الذي يدير مجلة “شيوعية” والذي أشرف على إعداد “الكتاب الأسود للشيوعية” عام 1997 “كان لينين يعرف الثورة الفرنسية معرفة جيدة، وكان يستحسن منها الرعب، والراديكالية في تدمير مجتمع تلك الفترة بمكوناته الأساسية، أي المُلكية والأرستقراطية والكنيسية الكاثوليكية، بيد أنه أضاف إليها ثلاثة عناصر جوهرية أسست للتوتاليتارية. أولها الأيديولوجيا الماركسية التي قدمها بوصفها “علم التاريخ”، فكان لتلك العلموية (scientisme) أثر كبير في عدد من المثقفين والنشطاء، لأن ادعاء معرفة التطور التاريخي أمضى أثرًا من حكم فضيلة روبسبيير. وثانيها أنه أوجد حزب الثوريين المحترفين الذي يخضع أفراده له مباشرة، وكان أداة سياسية أكثر نجاعة من نادي اليعاقبة. وثالث تلك العناصر أنه طبق الشيوعية تطبيقا واسعا، حين عمد خاصة إلى إلغاء الملكية، كوسيلة راديكالية لإخضاع الشعوب.
هذه الثورة الجماهيرية، التي حملت تطلعات الإنسان الروسي إلى الحرية والإخاء بعد قرون من الاستبداد والسلطة المطلقة، أثارت هبّة سياسية رائعة. ورغم عدم الاستقرار الذي كانت تعيشه البلاد، توصل الليبراليون والاشتراكيون إلى تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة ألكسندر كيرنسكي، وسن قوانين غير مسبوقة كإلغاء الرقابة، وحرية المعتقد، وحق النساء في التصويت،
انهارت الدولة إذن عام 1917، فنهض البلشفيك لإعادة بنائها على أعمدة أساسية، كما تصورها لينين، فالبلشفية النظرية في تصوره هي تفاعل قوي بين العسكري والسياسي: بناء جيش أقوى من الجيوش الأخرى وأكثر فاعلية، إنشاء أجهزة قمعية ذات نفوذ واسع، وفتح المجال لعناصر من النظام القديم ومنخرطين في اللجان دون أن يكونوا بلشفيين في الأصل. وبذلك شهدت روسيا شيئا فشيئا صعود الطبقات الشعبية إلى جهاز الدولة، وهذا هو التحول الحقيقي في نظر المؤرخ مارك فيرّو المتخصص في التاريخ السوفييتي. ولو أنه سوف يخلق مشكلا فيما بعد عندما اكتشف ستالين عام 1930 أن نصف إطارات الدولة من خبراء النظام القديم ومن الضباط القيصريين، إلى جانب تلك الطبقات الشعبية التي لم يكن لها تصور اجتماعي ديمقراطي ولا اشتراكي، بل كانت مدفوعة بإرادة إحداث تغيير جذري، لأنها لم تكن تقبل بأن تقاد على الطريقة القديمة.
ومن ثمّ تنامى كره النخب، العسكرية والثقافية منها على وجه الخصوص. وقد تميزت هذه اللحظة الفارقة أيضا بظهور خطاب علموي عن تطور المجتمعات. وكان لينين إذا اختلف مع رفاقه، سواء حول معاهدة بريست ليتفوسك (التي أبرمتها الجمهورية الروسية الفتية مع حكومتي ألمانيا والنمسا المجر في 3 مارس 1918) أو سلطة الحزب، ينصحهم بأن يبحثوا لأنفسهم عن علاج. بمعنى إذا كان العلم أساس السلطة، فإن من يختلف معها مريض نفسيا.
وهو ما دفع البلشفيك الجدد إلى الاعتقاد بأن من يقودونهم “هم الذين يعلمون”، وأدت علموية الخطاب السياسي تلك إلى قناعة لدى سائر الأحزاب الشيوعية فيما بعد بأن “الحزب على حق دائما” فأوجدت عمى مذهبيا عامّا لم يشذّ عنه أحد إلا متى انسلخ عن الرفاق. والمشكل، كما يعتقد المؤرخ نيكولا فيرت مدير البحوث في معهد تاريخ الزمن الحاضر، راجع بالأساس إلى غياب رابط بين النخب المتعلمة والأوساط الشعبية، لأسباب تاريخية عميقة، ولم تعالج الثورة ذلك الغياب إلا بالتعويض، فخلقت نخبا جديدة لم تكن تحرص على ترك مسافة بينها وبين السلطة، وهو ما يقتضيه التصور الثقافي، بل خضعت لها كليا بوصفها مدينة لها بترقيها الاجتماعي.
كان البلشفيك يتخذون من الثورة الفرنسية مرجعا تاريخيا، وكانوا يقارنون ثورتهم بتلك الثورة التي جمعت بين المدى القصير والمدى الطويل ولم تحقق أهدافها إلا عام 1870، ويتساءلون هل يمكن النظر إلى الثورة الروسية بنفس الطريقة، والحال، كما يقول المؤرخ سيرج فوليكوف، المتخصص في التاريخ السياسي للحركات العمالية، أن الثوار في فرنسا تمت تصفيتهم، بينما هم في روسيا في هرم السلطة. أي أن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية بنى دولة جديدة باسم الثورة.
ولكن عيبها الأكبر في نظر فوليكوف هيمنة الذهنية المذهبية، أي مقاربة المجتمعات انطلاقا من تخطيط نظري مسبق يتم فرضه بطريقة متعسفة على الواقع، حتى وإن خالف ذلك الواقع النظرية. ويضرب على ذلك مثلا بلينين عندما سخر من البرجوازيين الذي كانوا يساعدون المعوزين خلال مجاعات 1891، فقد صرح أن ذلك نفاق لا يجدي نفعا، لأن الجوع سوف يدفع بأولئك المزارعين نحو المدن، لينمّوا البروليتاريا، ويساهموا في التعجيل بالثورة.
فلا يهمه بؤس الحاضر ما دام المستقبل الذي يحلم به يسير في اتجاه التاريخ. وبذلك صارت الأيديولوجيا الماركسية هي المحرك: ما دمنا نعرف قوانين التطور البشري، وما دامت هندستنا الاجتماعية ترتكز على معرفة مطلقة بتطور المجتمعات، فلا يمكن أن نخطئ. وهو النهج الذي سار عليه ستالين حيث أمعن في القيام بتجارب أيا ما يكن ثمنها، ولو كانت أرواحا بشرية.
أما العنف فله وجهان يقعان بين طرفي سنة مفصلية هي 1930 كما كتب بعض المؤرخين. فأما ما حدث قبل ذلك التاريخ الذي ترافق مع تأميم الأراضي، فقد عدّوه عنفا ثوريا سُمح خلاله للمزارعين بالاعتداء على المالكين والاستيلاء على أراضيهم. وأما ما جرى بعد ذلك، خاصة في سنتي 1937 و1938، فكانت تصفية منظمة، وعنفا بوليسيا ممنهجا استهدف كل ما يشتبه في عدائه للنظام، وحبس أثناءه مليون ونصف المليون شخص في ظرف لم يتعد ستة عشر شهرا، وأعدم منهم ثمانمئة ألف.
كان البلشفيك يتخذون من الثورة الفرنسية مرجعا تاريخيا، وكانوا يقارنون ثورتهم بتلك الثورة التي جمعت بين المدى القصير والمدى الطويل ولم تحقق أهدافها إلا عام 1870، ويتساءلون هل يمكن النظر إلى الثورة الروسية بنفس الطريقة، والحال، كما يقول المؤرخ سيرج فوليكوف، المتخصص في التاريخ السياسي للحركات العمالية، أن الثوار في فرنسا تمت تصفيتهم، بينما هم في روسيا في هرم السلطة
وقد فسر بعضهم عنف النظام بهوس ستالين بتشييد دولة قوية وحديثة قادرة على حماية نفسها من تسرّبات المجموعات الخارجية، وبشبح الحرب ضد النازية والرأسمالية العالمية، وأعداء النظام في الداخل والخارج، فخلق على نطاق واسع نوعا من الشيزوفرينا اختلط فيها عنف العلاقات السياسية والاجتماعية بشكل من الاستسلام لدى الضحايا، وقبولهم بالأمر الواقع، وكأن الدفاع عن الدولة يمكن أن يعطي العذاب والآلام معنى. أي أن التعلة في شتى الظروف كانت الدفاع عن الاتحاد السوفييتي.
والغريب أن المثقفين الروس لم يشاركوا في الثورة الأولى ولا في الانقلاب البلشفي اللينيني، فقبل 1917، كانوا يساندون التحركات التي تدين النظام القيصري، ويحلمون بثورة تغير الوضع القائم. ولكن العنف الذي استشرى منذ مطلع القرن العشرين وتحول إلى حرب أهلية، دفع جانبا من الأنتليجنسيا إلى الانكفاء على نفسها وهي تستشعر كارثة تجرف كل شيء.
ومن ثَم لم يبرز من المثقفين من اقترح برنامجا سياسيا، فدوستويفكسي كان يتهيب الثورة ويتوقع انهيارا شاملا في حال حدوثها، وتولستوي كان يقنع بالتذمر مما آل إليه الوضع، حتى أن لينين كان يعتبره بكّاءً، وتشيخوف كان مجهولا تماما خارج الدوائر الأدبية، فيما هاجر آخرون، مثل مكسيم غوركي، قبل أن يقرّروا العودة، ولكن أغلبهم وقف مذهولا أمام البلشفيك حتى وإن كان مع الثورة أخلاقيا أو وجدانيا. فلا وجود لفلاسفة مهدوا للثورة على غرار فلاسفة الأنوار، وإنما كان الاستناد كله إلى الماركسية التي تطرح نفسها كنظرية علمية.
لقد مثلت ثورة أكتوبر لحظة هامة في تاريخ البشرية، لأنها مهدت لقيام قوة عظمى نازلت الولايات المتحدة قيادة العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط جدار برلين. ولكن رغم ظهور أحزاب شيوعية في أغلب الدول الغربية، لم تجد تلك الثورة صداها إلا في البلدان المستعمَرة، ذلك أن عددا من حركات التحرر في العالم الثالث اتخذت الأنموذج الثقافي لأكتوبر مرجعية لها لبناء قواها السياسية الثورية، فاستغِلّ مرة في حشد الجماهير للانقلاب على السلطة، ومرة في رسم تصور لدولة جديدة تدّعي الاشتراكية.
غير أن ما خلّفته تلك الثورة من دمار في روسيا وبلدان الكتلة الشرقية الدائرة في فلكها، يفوق كل تصور، وحسبنا أن نقرأ ما دونته سفيتلانا ألكسيفيتش في كتابها “نهاية الإنسان الأحمر” لنقف على الآثار العميقة التي تركتها “الثورة العالمية المجيدة” في نفوسهم. وليس أدل على إنكار الروس أنفسهم تلك اللحظة أنهم لم يحتفلوا بمئويتها هذا العام، وأن المؤرخين بدؤوا يتحدثون عن جيل جديد يعرف بـ”ما بعد السوفييتي