ما العقل؟
مال العقل أجاب أرسطو عنه بكل بساطة: الإنسان حيوان عاقل، لم يكن الجواب حول سؤال ما العقل بل ما الإنسان، لكن الجواب عن ما الإنسان كان جواباً عن ما العقل.
العقل: هو الإنسان الناطق هو صاحب الكلام، التفكير العقل.
العقل= التفكير، التفكير= النطق، النطق = اللغة.
ما معنى أن أفكر؟ يعني أن أعقل العالم، عندما يميز البعض بين تفكير عقلي وتفكير لا عقلي يمنحون العقلي صفة الحقيقة والصواب، ولكن من ذا الذي يعرف مصدر التفكير اللاعقلي وأساسه.
لو سأل عددٌ من الأفراد السؤال التالي: لماذا يحل الظلام لأجابوا أجوبة متعددة: الأول يقول: لأن الشمس تغرب، وهي التي تضيء الأرض، والثاني يجيب هي إرادة إلهية جعل الليل يعقب النهار، الثالث يشرح إن الأرض تدور حول الشمس كل أربع وعشرين ساعة، وفي عملية الدوران يتعرض نصفها إلى نور الشمس والآخر لا، فيكون نهار، هنا وليل هناك، وليل هنا ونهار هناك في اليوم نفسه.
من هو الذي أجاب جواباً عقلياً، جميعهم أجابوا جواباً صادراً عن عقلهم. ولهذا إذا سألك أحدهم لطالما كان الإنسان عاقلاً فما مصدر تفكيره اللاعقلي.
لا جواب على هذا السؤال لأنه سؤال زائف ناتج عن حكم زائف.
العقل يشير إلى الكائن الذي يفكر فقط، ولا يشير إلى كيف يفكر، وما هي حصيلة المعرفة التي تصدر عنه، إلا إذا وحدنا بين العقل والمنطق، وصار يحق لنا أن نقول إن التفكير العقلي هو التفكير المنطقي بالمعنى الشامل للكلمة، وعندي أن الأمر ليس على هذا النحو، إنما الأمر هو تواضع ليس إلا، لكنّه تواضع علينا أن نمتحنه.
هب أني سألت أحداً ما السؤال التالي: لماذا يمرض الإنسان؟ فأجاب إن المرض روح خبيث يدخل الجسد من قوة غامضة، ولا يُخرج هذا الروح إلا شخص متخصص بطرد الأرواح الخبيثة؟
ما هو مصدر إجابة كهذه؟ إنه يفكر على هذا النحو، إن عقله هو الذي قدم له الإجابة، إذن هي إجابة عقلية، لكنها إجابة خاطئة، من وجهة نظر العلم وصحيحة من وجهة نظر صاحبها.
إن صاحبها لا يقول لك أن تفكيره لاعقلي، بل أنت الذي أصدرت حكماً بأن تفكيره لا عقلي انطلاقاً من اعتقادك أن العقلي هو الصحيح واللاعقلي هو الخاطئ. مرة أخرى لنسأل لماذا فكر المرء على هذا النحو بالمرض؟
ولو سألت السؤال نفسه لشخص آخر لأجاب: يمرض الإنسان لسبب عوامل كثيرة، منها الفيروسات ومنها البكتيريات ومنها أسباب نجهلها لكننا قد نعرفها، إنه رد المرض إلى أسباب واقعية، إنه من وجهة نظر العلم فكّر على نحو صحيح، لماذا فكّر على نحو صحيح وأصدرت حكماً على إجابته بأنها عقلية؟
لنؤجل الإجابة على السؤالين بعد أن نعود إلى السؤال الأصل ما العقل؟
لنقل إن العقل وحدة الدماغ والخبرة. ولقد أثبت العلم أن أي تخريب في الدماغ، وهو جهاز بيولوجي معقد، يمنع الإنسان من التفكير أصلاً وإن فكّر فقد يفكّر على نحو غير واقعي. فإذا خربت خلايا النظر فقد الإنسان النظر، وإذا خربت خلايا اللغة فقد الإنسان القدرة على الكلام وهكذا. الدماغ هو جهاز متفق على أنه جهاز التفكير، إنه مكون بيولوجياً -لدى الإنسان- ليكون مخزناً للمعلومات ومكاناً للذاكرة وأساساً للحواس، ودكتاتورياً في إصدار الأوامر للجسد كله وهو جسد.
والخبرة هي كل ممارسة عملية للإنسان احتفظ بها الدماغ في الذاكرة، من الصور والأماكن مروراً باللغة وانتهاء بالمعارف المتنوعة.
إن وحدة الدماغ والخبرة تشكل قدرة الإنسان على التفكير عبر جهاز لغوي شديد الصرامة، أهم ما فيه أن التفكير الذي هو وحدة الدماغ والتجربة، الذي هو العقل فباستطاعته إصدار الأحكام وقبلها صياغة المفاهيم.
فالعقل الذي لا وجود مادياً له، هو مفهوم يشير إلى واقع عبر وحدة الدماغ والتجربة، وعبر حضوره في العالم تعينه في السلوك، وفي القول في الخطاب، في المعرفة.
لا يستطيع إنسان أن يتخيل كائناً يفكّر بلا ذاكرة، لا عقل بلا ذاكرة، فاختزان الدماغ للمعلومة شرط أوّلي للتفكير، شرط لوجود العقل لكن العقل هذا المفهوم المجرد يعني أن له فاعلية الاحتفاظ بالخبرة والتفكير دون حضورها المباشر.
أهم حضور للعقل هو الكشف عن الترابط وإقامة الترابط، والاحتفاظ بالترابط والتفكير على أساس مبدأ الترابط، وسأكشف لماذا في معرض حديثي اللاحق. وسأتوقف عند علاقة العقل باللغة قبل كل شيء، اللغة هي العقل وقد صار كلاماً، والواقع وقد صار أسماء ومفاهيم وأحكاما حتى الأبكم يستخدم لغة إشارية. اللغة هي الخبرة وقد أخذت شكل القول، اللغة هي على هذا النحو وسيلة تفاهم بين بشر تواضعوا على دلالة الكلمات.
هنا تبدو فاعلية العقل، فاعلية التفكير: العالم صار لغةً، واللغة صارت عالماً وكل فاعلية للعقل في العالم يغني العالم لغة، وكل انغماس في اللغة، في فاعلية، يغني الإنسان المعرفة واللغة والواقع.
كل ثراء في امتلاك اللغة أسماء ومفاهيم وأحكاما ثراء في امتلاك العالم، الواقع، الوجود.. كل ثراء في امتلاك اللغة، وكل نشاط في إبداع اللغة، قدرة جديدة على التفكير، زيادة في القدرة على التفكير.
لوحة: محمد ظاظا
وقد يسألني سائل: لماذا ميزت بين الأسماء والمفاهيم؟ بسبب بسيط: كل مفهوم هو اسم ولكن ليس كل اسم هو مفهوم.
المفهوم اسم دال على صفة مشتركة بين أشياء كثيرة فيما قد يكون الاسم دالا على شيء مفرد. فالمفاهيم بدءاً من أكثرها حسية إلى أعلاها نظرياً هي صفة ماهوية أساسية مشتركة بين شيئين أو أكثر، الكأس، الترابط، الحرية هي هكذا، جميع المفاهيم ضرورية للتفكير، والمفهوم: هو بالأساس حكم في اسم، حكم عام. الاسم حكم فردي، زيادة في الإيضاح جبل مفهوم، الحكم المضمر مكان مرتفع عن الأرض، يتكون من قمة وواد مثلاً كل مكان مرتفع عن الأرض إلى حد متفق عليه متكون من قمة وواد هو جبل. أحمد برقاوي اسم، يعرف عبر المفاهيم، لأنه فرد.
الأبرز أسماء التصورات، الله ليس مفهوماً، الله تصور فكرة، لأنّي لم أجرد مفهوم الله من عدد من الآلهة، وأثبت صفة ماهوية مشتركة. فلو كان الإله مفهوماً لما عاد إله كما يتصوره المؤمنون به، لأن الإله من وجهة نظر المؤمنين به ليس كمثله شيء، وبالتالي لم يجرد ولم يعمم.
لنقل إن العقل بما هو تفكير هو القدرة على التعبير، والتعبير إنتاج عبارة، وقل العبارة حكم، كل اللغة المعبرة مجموعة أحكام بما في ذلك الجملة الفعلية. ولما كان العالم صار لغة في امتلاكي له، فالعالم في امتلاكي له أحكام، أحكام وجود، أحكام قيم، أحكام نظرية، تجريبية، جمالية، أخلاقية، عادية، جزئية، عامة.. الخ.
في اعتبار العقل لغة، في وحدة الدماغ والتجربة، فنحن لا نتحدث عن انفصال، بل عن كيف جديد لفاعلية الجسد-الكائن.
كل ما أفكر فيه، كل مشاعري وأحاسيسي، كل عواطفي وحكمتي، كل ما يطلق عليه جانبي الروحي، هو التعبير عن هذا الكيف الجديد الناتج عن وحدة الدماغ والخبرة.
ها أنا قد حررت مفهوم العقل من حكم القيمة الذي لازمه طوال عمره، فالعقل هو مصدر كل تعيناتي البشرية: العلم والجهل، الخطأ والصواب، الخير والشر، كل التغيرات المتنوعة عن وجودي، عن مواقفي.
أنا عقل: إذن أنا الإنسان الكلّي الذي يعبّر عن وحدة الجسد والعالم-الخبرة.
ويبدو العقل مستقلاً، وما هو بمستقلٍ إلا من حيث هو ظهور الإنسان مفكراً، رساماً، شاعراً، روحياً، عاشقاً عاقلاً، وما يدرون أن هذا الظهور ليس انفصالاً عن مفهومي الجسد-الدماغ والخبرة، بل هو وحدة الجسد والخبرة التي جعلتني مختلفاً عن كل أنماط الحيوانات التي دوني، وعن الحياة الأولى للنبات.
وزيادة في الإيضاح، أعلم أن كل فعل عملي أو نظري في الوقت الذي ليس هناك عمل بلا نظر ونظر بلا عمل، هو فعل عقلي، بدءًا من فعل الحمال وانتهاءً بفعل الفيلسوف.
إذا كان العقل أفكارا، تصورات، خيالات، أشكال فهم، معارف مسبقة، نظريات علمية، أساطير، أوهام، أحكام، قيم، معتقدات، سلوك، أحاسيس، مشاعر، لغة إشارية لغة كلامية… الخ، فالوجود الإنساني إذن هو عقل بالمعنى الذي حددته للعقل.
إذن كل ثمرة من ثمار امتلاكي للعالم عقل متعيّن، وكل عقل متعين ومتكون تاريخياً جزء من جهاز معرفتي بالعالم. وهناك عقل مشترك بين الناس من حيث اتفاقهم بصحة بعض الوقائع والأحكام، فما من أحد ينكر أن هناك جبالا وأنهارا وترابا.. الخ.
وما من أحد ينكر أن «كل نفسٍ ذائقة الموت»، وما من أحد لا يقر أن النار تحرق الجسد إذا ما ألقي الجسد فيها، وهكذا… لكن العقول المتفقة على أن «كل نفسٍ ذائقة الموت» تختلف في مصير الإنسان بعد الموت، فهناك عقائد وأديان وتصورات متعددة حول مصير الإنسان بعد الموت.
فإذا كان الإنسان مادياً ملحداً لا يرى في طرح السؤال أيّ قيمة: ما مصير الإنسان بعد الموت، وهناك من يرى أن الروح تنفصل عن الجسد لتعود إلى خالقها، والبعض يؤمن بالتناسخ والتقمص..
وقس على ذلك الاختلاف في أمورٍ وأشياء كثيرة، لماذا تختلف العقول؟ ببساطة لأني لست أمام شيء موجود أعطي لكل الناس اسمه العقل. بل أمام هذا المتكون التاريخي الناتج عن وحدة الدماغ والخبرة. فالخبرة هنا ليست مجرد خبرة فردية فقط، بل وخبرة جماعية طويلة تتوارثها الأجيال.
وبالتالي فالعقل بوصفه وحدة الدماغ والخبرة يتعين بأشكال متعددة وتحدد طريقة العقل في امتلاك العالم والتجوال فيه.
فالطفل يكتسب -ودون أن يعي ذلك- عالماً واسعاً وغنياً، ويظل الإنسان يكتسب حتى رحيله، فضلاً عن دوره في الإنتاج المعرفي والعملي. فالغالب عند الناس أنهم يتمثلون ثقافة وسطهم الاجتماعي الذي عاشوا فيه، وتلقّوا التربية من محيطهم الأسروي، والعلم من مدارسهم الوطنية وهكذا.
واختلاف العقول راجع إلى اختلاف العوالم، وبالتالي تختلف العقول بامتلاكها للعالم والنظرة إليه وبالسلوك.
فالبوذي لا يستطيع أن يفكّر أو يسلك إلا بوذياً، والإسلامي إسلامياً، والوثني وثنياً وهكذا، والثقافة هذه الخبرة الأعظم تصبح جزءاً لا يتجزأ من العقل الفاعل.
فاختلاف العقول بين البشر اختلاف في الخبرة التي هي الحدّ المختلف الذي يكون العقل. فضلاً عن أن الخبرة الفردية نفسها في حقل ثقافي واحد تختلف باختلاف الأفراد. وبالتالي فالأفراد الذين ينتمون إلى عالم واحد من الثقافة والتربية والعقائد يختلفون في عقل العالم انطلاقاً من خبرتهم الفردية التي تكوّنت في وسط محدد، قرية، مدينة، بداوة، ثراء، فقر.. الخ.
إنني لا أدري على وجه الدقة ما إذا كانت أدمغة البشر مختلفة في جبلتها، ولا أدري ما إذا كانت البيولوجيا مسؤولة مسؤولية مباشرة عن التمايز بين الأذكياء والأغبياء. لكني أدرك أمراً متأكد من وجوده ألا وهو أن هناك تفاوتاً بين البشر في درجة الذكاء، قد يكون مرده إلى البيولوجيا أو إلى الخبرة أو إلى الاثنين معاً.
يعتقد بعض البشر عاديين كانوا أو فلاسفة أو علماء لغة، أن الإنسان ينطوي على مبادئ عقلية مسبقة. كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ الهوية، ومبدأ السببية ومبدأ الغائية ومبدأ الثالث المرفوع، بل وصارت مبادئ المنطق هي مبادئ العقل. ولست في معرض العودة إلى النقاش العقيم الذي دار بين ما يسمى بالعقليين وما يسمى بالاختباريين، كل ما أريد أن أطرحه على بساط البحث الفرضية التالية: كل ما ظُن أنه مبادئ عقلية ليس إلا ثمرة فاعلية الإنسان بوصفه دماغا وتجربة لمعرفة الواقع، إن ما ظن بأنه مبادئ عقلية ليس إلا معرفة إنسانية وصلت حداً من اليقين صارت معها قادرة على أن تكون أساس تفكيرنا اللاحق بالعالم، إنها معرفة صارت مبادئ-وسيلة للمعرفة.
وكما قلنا إن فاعلية الدماغ هي التي تسمح له عبر ديالكتيك الدماغ والتجربة أن يستخلص استقراءً وتجريداً وتعميماً واستدلالاً مبادئ يرفعها إلى مستوى الأساس للتفكير، وهذا ما أكده «هيوم» في نظرته إلى مبدأ السببية على أنه عادة تفكير.