ما تقوله درة الأرض
تَأْخُذُ مِقْبَرةُ الشُّهَداءِ شَكْلَ بَيضَةٍ كَبِيرَةٍ قُطِعَ رُبْعُهَا المُطِلُّ عَلَى قَاعَةِ المَسْرَحِ فِيمَا أَرْبَاعُهَا الثَّلاثَةُ المُتَبَقِّيَةُ تَحْتَلُّ خَشَبَةَ المَسْرَحِ بِأَكْمَلِهَا. تَمْتَدُّ عَلَى جَانِبَيِّ الخَشَبَةِ قُبُورٌ عَدِيدَةٌ تَأْخُذُ بِدَورِهَا شَكْلَ البَيْضَةِ، أو الجَنِينِ المُتَكَوِّرِ في الرَّحْمِ، وتَبْتَعِدُ القُبُورُ عَنْ حَافَّةِ الخَشَبَةِ مَسَافَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ لِتَلْتَقِيَ عِنْدَ عُمْقِهَا فَتُحَافِظُ عَلَى شَكْلِهَا البَيْضَاِويِّ. وثَمَّةَ في الوَسَطِ شَاهِدٌ رُخَاميٌ كَبِيرُ الحَجْمِ، قُرْمُزيُّ اللَّونِ، وضَّاءً، وكأَنَّمَا هُوَ دَمٌ تَجَمَّدَ فَصَارَ عموداً رُخَامِيَّاً لَهُ شَكْلُ المَسَلَّةَ العَالِيَةَ المُنيِرةَ، وَقَدْ كُتِبَتْ عَلَيهَا، بالْحِبْر الأَخْضَرِ الزَّيتُونِيِّ، العِبَارةُ التَّالِيَةُ:
هُنَا تَثْوي جَثَامَينُ شُهَداءٍ صَدَقُوُا مَا عَاهَدُوا
اللهَ
والإنْسَانَ
والحَيَاةَ
عَلَيهِ فَقَضَوا في سَبِيل
الْحَقِّ
والْعَدْلِ
والْحُرِّيَّةِ
والْجَمَالْ
تَغْمُرُ خَشَبَةَ المَسْرَحِ إضَاءَةٌ خَافِتَةٌ تُحَاكِي ضَوءَ شَفَقٍ مَخْنُوق، فِيمَا يُسَلَّطُ الضَّوءُ، مَعَ بِدْءِ العَرضِ، عَلَى المَسلَّةِ، حَيثُ ثَلاثُ فَتَيَاتٍ شَقِيقَاتٍ تَوائِمَ، هُنَّ أَقْرَبُ ما يَكُنَّ إلى راقِصَاتِ بَالِيه يَرْتَدِينَ زِيَّ الفَراشَاتِ (فَرَاشَةٌ بَيْضَاءُ، وفَرَاشَةٌ خَضْرَاءُ، وفَرَاشَةٌ حَمْرَاءُ)، يَقِفْنَ أمَامَهَا عَلَى هَيئَةِ نِصْفِ قَوسٍ.
تتوزَّع أَشْجَارُ الصُّنَوبرِ والسَّروِ والصُبَّارِ وجُرُودُ النَّخِيلِ وأُصُصُ الرَّيحَانِ وشَقَائِقُ النُّعْمَانِ والزَّنْبَقِ البَحْريِّ بَينَ القُبُورِ. ثَمَّةَ حَفَّارُ قُبُورٍ في مُنْتَصَفِ العُمْرِ يَحْمِلُ عَلَى كَتِفِهِ فَأْسَاً، وفي يَدِهِ قُفَّةً تَحْتَوى أدَواتِ حَفْرٍ أُخْرى، يَبْتَعِدُ حَفَّارُ القُبُورِ، الآنَ، عَنْ قَبْرٍ يَبْدُو أنَّهُ قَدْ أكُمَلَ حَفْرَهُ وتَجْهِيزَهُ لِلتَّوِّ، مُتَّجِهَاً صَوبَ مَدْخَلِ المِقْبَرةِ لِيَجْلِسَ فَوقَ الْعَتَبَةِ مُنتظراً قُدُومَ الْمَيْتِ الَّذِي مِنْ أجْلِهِ حَفَرَ القَبْرَ وجَهَّزَهُ.
بَعْدَ بُرْهَةٍ وجِيزَةٍ، تَصِلُ إلى مَدْخَلِ المَقْبَرَةِ مَجْمُوعةٌ تتكوَّنُ من خَمْسَةَ عَشَرَ شَخْصَاً مُتَبَايِنِي الأَعْمَارِ يَنْتَمُونَ إلى ثَلاثِةِ أَجْيَالٍ، ويَلْبَسُونَ أَرْدِيَةً مُخْتَلِفَةِ الألْوَانِ يَغْلُبُ عَلَيهَا اللَّونُ الأحْمَرُ البَاهِتُ، والأخْضَرُ البَاهِتُ، والرَّمَادِيُّ. تَنْقَسِمُ المجْمُوعَةُ إلى مَجْمُوعَتَينِ تَتَكوَّنُ الأُولى مِنْ سَبْعَةِ أشْخَاصٍ والثَّانِيةُ مِنْ سِتَّةِ أشْخَاصٍ، ويَبْقَى شَخْصَانِ مُنْفَصِلانِ عَنِ المَجْمُوعَتِينِ وعَنْ بَعْضِهِمَا. ثَمَّةَ ضِمْنَ المَجْمُوعَةِ الأُولى شَخْصٌ يَلْبَسُ رِدَاءً أصْفَرَ فَاقِعَ اللَّونِ، وفي الثَّانِيَةِ شَخْصٌ يَلْبَسُ رِدَاءً أحْمَرَ فَاقِعَ اللَّونِ، وفِيمَا يَخْتَصُّ أَحَدُ الشَّخْصَين المُنْفَصِلَينِ بِرِدَاءٍ أَخْضَرَ وعِمَامَةٍ سَودَاءَ، يختصُّ الآخرُ بِرِدَاءٍ أسْوَدَ وعِمَامَةٍ خَضْرَاءَ. تَعْبرُ المجْمُوعَتَانِ مَدْخَلَ المِقْبَرَةِ عَلَى التَّوالي، فَتَمْشِيانِ دَاخِلَهَا باتِّجَاهِ القَبْرِ مُتَجَاورَتَينِ، وعَلَى نَحْوٍ لا يَشِي بِوُجُودِ انْفِصَالٍ فِعْلِيٍّ بَيْنَهُمَا.
أمَا الشَّخْصَانِ الآخَرانِ، ذُو الرِّداءِ الأَخْضَرِ والعَمَامَةِ السَّودَاءِ، وذُو الرِّداءِ الأَسْوَدِ والعَمَامَةِ الخَضْراءِ، فَيَدْخُلانِ المِقْبَرَةَ بَعْدَ لأيٍّ، ويَمْشِيَانِ باتِّجَاهِ القَبْرِ، مُنْفَصِلَينِ عَنْ بَعْضِهِمَا وعَنِ المَجْمُوعَتَينِ. يَحْمِلُ كُلُّ شَخْصٍّ مِنَ المَجْمُوعَتَينِ عِرْقَ رَيْحَانٍ، بَيْنَمَا يَحْمِلُ شَخْصٌ مَا مِنْ كُلِّ مَجْمُوعَةٍ شَتْلَةَ رَيحَانٍ، وإبْرِيقَ مَاءْ، وكَذَا يَفْعَلُ الشَّخْصَانِ الآخَرَانِ.
تَقْتَرِبُ كُلُّ مَجْمُوعَةٍ بمُفْرَدِهَا، وكَذَا الشَّخْصَانِ كُلٌّ بمُفْرَدِهِ، مِنْ حَافَّةِ القَبْرِ، فَيُلْقُونَ بعُروقُ الرَّيحَانِ داخَلَ القَبْرِ فَتَخْرجْ مِنْهُ عَلَى هَيئَةِ ثَعَابِينَ سَودَاءَ تَتَمدَّدُ وتَتَلَوَّى عِنْدَ حَافَّتِهِ، ثُمَّ يَغْرسُونَ شَتائِلَ الرَّيحَانِ في أُصُصٍ صَغِيرةٍ تُحِيطُ بحَافَّتِهِ فَتَتَحَوَّلُ مِنْ فَورِهَا، في سَرِيرَتِهُمً السَّودَاءِ، إلى شِباكِ عَنْكَبًوتٍ وأَشْوَاكْ.
ومَا أنْ يَشْرَع حَامِلُو الأَبَاريق في رشِّ الماءِ عَلَى الْقَبْرِ، وعَلَى التُّرابِ المُجَاورِ لَهُ، وعَلَى ما ظنَّتْهُ سَرِيرَتُهُم اللَّزِقَةُ شِبَاكَ عَنْكَبُوتٍ وأَشْوَاكَ، حتَّى تَفُوحُ رَائِحَةُ عُفُونَةٍ لَزِجَةٍ تَزْكُمُ الأُنُوفَ، ويَنْبَعِثُ دُخَانٌ أَسْوَدُ بلا لَهِيبٍ، فَيُعْمِي الأَبْصَارَ والبَصَائِرَ. هَا هُمْ يَقْرَؤُونَ الفَاتِحَةَ بِتَعَجُّلٍ لافتٍ وخُشُوعٍّ مُصْطَنَعٍ، ثُمَّ يُسْرعُ كُلُّ مِنْهُم، مُنْفَرِداً ومِنْ فَورِهِ، إلى مُغَادَرَةِ المِقْبَرةِ مِنْ دُونَ أنْ يَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ أنَّ القَبْرَ مَفْتُوحٌ وأنَّ أَحَداً لا يُوجَدُ فِيه.
لَمْ يَشْعُرْ حَفَّارُ القُبُورِ، الجَالِسُ الآنَ فَوقَ العَتَبَةِ، بقُدُومِ أَحَدٍ أو بمُغَادَرَةِ أَحَدٍ، فَظَلَّ عَلَى حَالِهِ مُقَرْفِصَاً واجِمَاً مُنْتَظِراً، واضِعَاً ذَقْنَهُ فَوقَ يَدِهِ اليُمْنَى المَعْقُودَةِ الكَفِّ كَقَبْضَةٍ رخْوَةٍ، مُرْسِلاً بَصَرَهُ صَوبَ أفُقٍ لا يَبِينُ أَمَامَهُ ولا يَرَاهُ، رافِعَاً رَاحَةَ يَدِهِ اليُسْرَى فَوقَ جَبِينِهِ ليُمْعِنُ النَّظرَ علَّه يَرَى مَا لا يُرَى إلا فِي أَوهَامِ خَيَالِهِ الغُرابيِّ المُغْلَقِ عَلَى حُفْرةٍ بلا قَاعْ، أو يُبْصِرَ ما لا يُبْصَرُ إلا في تَصَوُّرهِ السُّكونيِّ المَسْكُونِ بأجْثَاثِ النَّافِقِينَ والمَوتَي.
يَظَلُّ حَفَّارُ القُبُورِ عَلَى حَالِهِ مُواصِلاً انْتِظَارَ ظُهُور مَا قَدْ يُنْبِئُهُ بقُدُومِ الجِنَازَةِ والنَّعْشِ وجثْمَانِ الْمَيْتِ والنَّدابَاتِ والمُشَيِّعِينَ وشُيُوخِ التَّرحُّمِ والتَّلْقِينِ.
وَمَعَ انْفِضَاضِ التَّحَرُّكاتِ السَّابِقَةِ المَصْحُوبَةِ بِمُوسِيقَى ذَاتِ أنْغَامٍ فَجْريةٍ حَزِينَةٍ تَبُثُّ إحْسَاسَاً بِتَسَلُّلِ خُيُوطِ ضَوءٍ يَشِي بِشُرُوقٍ مَخْنُوقٍ، يَتَحَرَّك الضَّوءُ المُسَلَّطُ عَلَى المِسَلَّةِ والفَتَيَاتِ الثَّلاثِ الوَاقِفَاتِ أمَامَهَا لِيَجْذِبَهُنَّ إلى مُقَدِّمَةِ خَشَبَةِ المَسْرَحِ، فَيَتْبَعْنَ مَشِيئَتَهُ ويَتَقَدَّمْنَ، كالفَرَاشَاتِ في حَرَكَةِ خَطْوٍّ وثَّابٍ عَلَى رُؤوسِ الأَصَابِعِ تُصَاحِبُ حَرَكَتَهُ، لِيَأْخُذْنَ أَمَاكِنَهُنَّ: الفَراشَةُ الأولى إلى يَسَار خَشَبَةِ المَسْرَحِ؛ والفَراشَةُ الثَّانِيَةُ إلى يَمِينِهَا؛ والفَراشَةُ الثَّالثةُ إلى وَسَطِهَا، مُحَافِظَاتٍ عَلَى شَكْلِ القَوسِ، أَوْ الْهَرَمِ المُثلَّثِ القَطْعِ ذي الرَّأسِ غير المُغَالي في عُلُوِّ يُبْعِدُهُ عَنْ أَسَاسِهِ الأَرْضِيِّ وطَرَفيِّ قَاعِدَتِه.
تَبْدَأُ المُوسِيقَى النَّاعِمَةُ الحَزينَةُ في الانْبِثَاقِ وتَتَصَاعدُ نَغَمَاتهَا في عُلوٍّ تَدْريجِيٍّ ثُمَّ تأخذُ في الخُفُوتِ لِتُصْبحَ بِمَثَابَةِ خَلْفِيَّةٍ مُوسِيقِيَّةٍ يَنْبَعِثُ مِنْ دَاخِلِهَا كَلامٌ مَحْمُولٌ عَلَى صَوتٍ جَماعيٍّ هُوَ صَوتُ الفَتَيَاتِ الثَّلاث (رُسُلُ التَّاريخ) الَّذِي سَيَنْطُقُ، الآنَ، مَا يَبْدُو أنَّ ذَاكِرَتَهُنَّ قَدْ سَجَّلَتْهُ، واحْتَفَظَتْ بِهِ طَويلاً؛ فَأَثْقلَها حَمْلُهُ حَتَّى انْقَضَى أمَدُ كُتْمَانِهِ، وصَارَ البَوحُ بِهِ ضَرورةً تَقْتَضِيهَا الحَيَاةُ، وتَتَطلَّبُهَا الحَضَارةُ الإنْسَانِيَّةُ، ويُمْلِيهَا التَّاريخْ.
رُسُلُ التَّاريخ (بِصوتٍ فَرْدِيٍّ مُتَوالٍّ، ثمَّ بصوتٍ جَمَاعِيٍّ، مُتَحَشْرجٍ وحَزِين):
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ شَتْلاتُ نَرْدٍ، وآثَارُ خَطْوٍّ، ورَشَّاتُ مَاءْ!
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ شَتْلاتُ نَرْدٍ، وآثَارُ خَطْوٍّ، ورَشَّاتُ مَاءْ!
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ شَتْلاتُ نَرْدٍ، وآثَارُ خَطْوٍّ، ورشَّاتُ مَاءْ!
(وِقْفَةُ صَمْتٍ عَنِ الكَلامِ يَصْحَبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيقَى الخَلْفِيَّة ارتِفَاعَاً تَدْريجِيَّاً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّد لمُتَابَعَةِ الإصْغَاءِ إلى أصْواتِ رُسُلِ التَّاريخِ الَّتي تَأْتِينَا عَلَى نَحْوٍّ مُتَنَاوبٍ بَينَهُنَّ)
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَحْمَر):
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ قَطْراتُ دَمٍّ
تُنيرُ الفَضَاءَ
فَتَهْمِي بأَسْرَارِهَا السَّاطِعَاتِ
غُيُومُ السَّمَاءْ!
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ أزْهَارُ "حَنُّونَ"
قَانِيَةُ اللَّونِ
مُشَبَعَةٌ بِبَهَاءِ السَّنَا
وَرَنِينِ الدِّمَاءْ!
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ أشْلاءُ حُلْمٍ نَبِيلٍ
يُحَاكِي الحَقِيقَةَ
في لُبِّ شَمْسِ الشَّهَادَةِ
عِنْدَ الفِدَاءْ!
(وِقْفَةُ صَمْتٍ عَنِ الكَلام يَصْحَبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيقَى الخَلْفِيَّة ارتِفَاعَاً تَدْريجِيَّاً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّد لمُتَابَعَةِ الإصْغَاءِ إلى صَوت إحْدَى رُسُلِ التَّاريخ)
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَض):
لوحة: إدوارد شهدة
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ طائرُ رُخٍّ رَجِيمٍ
يُوَارِي بأجْنِحَةِ القَهْرِ والمَوتِ
وَجْهَ الحَياةْ؛
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ شَهْقَاتُ أُمٍّ
وزَوجٍّ وأُخْتٍ
وإبْنٍ وإبْنَة،
وأبْنَاءِ أُمٍّ وزَوجٍ وأُخْتٍ،
وأحْفَادِ إبْنٍ وإبْنَة؛
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ زَفْراتُ جَدٍّ،
أبٍ، وأخٍ،
وابنِ ابنٍ صَدِيقٍ صَدُوقٍ،
وأزواجِ أُمٍّ، وأحْفَادِ أُخْتٍ،
وعَمٍّ، وخَالْ؛
عَلَى حَافَّةِ الْقَبرِ حُرْقَةُ قَلْبٍ،
ودَمْعٌ عَصِيٌّ،
وصَبْرٌ عَقِيمٌ،
وسُقْمٌ عُضَالْ!
(وِقْفَةُ صَمْتٍ عَنِ الكَلام يَصْحَبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيقَى الخَلْفِيَّة ارتِفَاعَاً تَدْريجِيَّاً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّد لمُتَابَعَةِ الإصْغَاءِ إلى صَوت إحْدَى رُسُلِ التَّاريخ)
رُسُلُ التَّاريخ (ذَاتُ الرِّداءِ الأَخْضَر):
جَمْراتُ أمَانٍّ مُطْفَأةٌ،
ونُجُومٌ آفِلَةٌ،
وبَقَايَا أَنْفَاسْ.
شَهَقَاتٌ، زَفَرَاتٌ،
أَشْواقٌ مُجْهَضَةٌ،
وشَظَايا حُلُمٍ مَخْذُولٍ،
ورَمَادُ طُمُوحْ.
أطْلالُ صُرُوحٍ،
وخَرَائِبُ أشْبَاحٍ،
وطَلاسِمُ،
وإطَارَاتٌ لِلْخَدَرِ المُزْمِنِ،
وخَرائِطُ تَضْلِيلٍ،
ومَرَاسِمُ،
وطُقُوسْ.
خُطَطٌ وبُحُوثٌ وبَيَانَاتٌ،
ومَرَاجِعُ وبَرَامِجُ،
ووثَائِقُ وقَرَارَاتٌ،
ومَشَاريعُ حُلُولٍ يَسْتَوطِنهَا اللُّبُسُ المَاكِرُ،
وغُبَارُ التَّدْلِيسْ،
وخَرَائِطُ طُرقٍ لا يَحْشُوهَا شيءٌ غَيرُ الإفْكِ المَدْرُوسْ.
أَصْداءُ نِدَاءَاتٍ عُقْرٍ،
وَهَسِيسُ رجَاءٍ مُنْكَسِرٍ،
وَوَمِيضُ دُعَاءٍ مُبْتَسَرٍ،
وهَواءٌ مَخْنُوقْ.
أرْوَاحٌ تَأْفُلُ،
ونُبُوءَاتٌ تَتَلاشَى،
ووُعُودٌ قَاطِعَةٌ تَقْبَعُ في الأَدْرَاجِ؛
فَيَطْوِيهَا نِسْيَانٌ يَطْوِيهِ النِّسْيَانْ!
أَسْوَارٌ تَجْثُمُ كالأفْعَى الْمَسْمُومَةِ فَوقَ الصَّدرْ،
وحِصَارٌ خَانِقُ،
واسْتِيطَانٌ مَحْمُومٌ يَخْنُقُ ضَوءَ الفَجْرْ،
وأراضٍ تُسْلَبُ وتُمَزَّقُ بالْعَسَفِ وبالْقَهرْ.
أَسْلاكٌ شَائِكَةٌ،
وحَواجِزُ،
ونِقَاطُ عُبُورٍ تَسْتَنْزِفُ كُلَّ الأَنْفَاسِ،
فَتَمْنَعُ،
بِزَفيرِ تَنَفُّسِهَا الْخَانِق،
أيَّ عُبُورْ.
وخَرَائِطُ طُرقٍ،
وإطَارَاتٌ لِلْوَهْمِ الخَادِعِ
لا تُسْفِرُ عَنْ شيءٍ
غَيرَ إحَاطَةِ كُلِّ الطُّرقِ الْمَسْدُودَة،
أصلاً،
بالْقَارِ الْحَارقِ،
بالذُّلِ الخَانِقِ،
والأشْوَاكْ!
وأَيَادٍّ بَيْضَاءُ تُصَفَّدُ بقُيُودِ مُرَاوغَةٍ،
ودَهَاءْ،
وخِدَاعٍ تَدْلِيسِيٍّ،
ونِفَاقٍ مُبْتَذَلٍّ،
وَرِيَاءْ،
ووعُودٍ كَاذبةٍ،
وسَرائِرَ سَوْدَاءْ!
(وِقْفَةُ صَمْتٍ عَنِ الكَلام يَصْحَبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيقَى الخَلْفِيَّة ارتِفَاعَاً تَدْريجِيَّاً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّد لمُتَابَعَةِ الإصْغَاءِ إلى صَوت إحْدَى رُسُلِ التَّاريخ)
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَحْمَر):
شَعْبٌ مأسُورٌ مَقْهُورٌ مُحْتَجَزٌ في أقْبِيةِ البؤسِ،
وأجْدَاثِ الآمَالْ؛
والأَرْضُ،
ورُوحِ الأَرْضِ،
سَبِيَّهْ.
طَائِرُ رُخٍّ يَحْجِبُ عَينَ الشَّمْسْ
بأجْنِحَةٍ سَودَاءَ كَمَا الدَّيمَاسْ؛
والشَّعْبُ،
وَقِيَمُ الإنْسَانِ الحُرِّ،
وأَشْواقُ الإنْسَانِ،
ضَحِيَّة!
(وِقْفةُ صَمْتٍ عَنِ الكَلامِ يَصْحَبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيقَى الخَلْفِيَّة ارتِفَاعَاً تَدْريجِيَّاً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّد لمُتَابَعَةِ الإصْغَاءِ إلى صَوتِ التَّاريخ المَحْمُولِ عَلَى أَصْوَاتِ جَمِيعِ رُسُلِهِ المبْثُوثَةِ في مَسَاحَاتِ الأرضِ وأغوارِ الكَونِ وآفَاقِ فَضَاءَاتِهِ وسَمَاواتِهِ العَالِية)
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعِيٍّ مَأْخُوذٍ بمُفَاجَأةٍ نَاجِمَةٍ عَنْ نُبُوءَةٍ حَانَ أوانُ إطْلاقِهَا فَوصَلَتْهُنَّ للتَّوِّ):
لكنَّا نَسْمَعُ صَوتاً كَونِياً يُشْبِهُ صَوتَ الوَعْدِ الصَّادِقِ
يَأْتِي مِنْ مَنْبَعِ أَصْوَاتِ الحَقِّ الوَضَّاءْ،
صَوتاً يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الشُّهَداءْ،
صَوتاً كالنَّغَمِ العَذْبِ،
كَمَا النَّسْمَةْ،
صَوتاً كَالمَرْمَرِ حِينَ يَشِفُّ ويَصْفُو كَالْبَسْمَةْ،
صَوتَاً كَرَنِينِ الْقَلْبِ الصَّافِي،
كَبَريقِ الخَيرِ الوَهَّاجْ،
صَوتَاً كَحَفِيفِ الرُّوحِ
يُعَانِقُ جَسَداً مَنْذُوراً لِلْحَقِّ
فَمَا أوقَفَهُ التَّعبُ عَنِ السَّيرِ،
ومَا مَلَّ السَّيرْ!
(تُغَادِرُ رُسُلُ التَّاريخِ خَشَبَةَ المَسْرَحِ كَالفَراشَاتِ مَحْمُولَةً عَلَى الضَّوءِ، وذَلكَ خِلال تَوقُّفٍ انْتَقَالِيٍ قَصِيرٍ يَصْحَبُهُ ارتِفَاعُ صَوتِ أَنْغَامِ المُوسِيقَى الخَلْفِيَّةِ النَّاعِمَة ارتِفَاعَاً تَدْريجِيَّاً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّدُ لانْبِثَاقِ صَوتِ رُسُلِ التَّاريخِ الآتِي مِنْ فَضَاءٍ بَعِيدٍ يُحْضُرُ في أُفِقِ الرُّؤيَة معَ انْبِثَاقِ أصْوَاتِ الرُّسُل)
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعيٍّ يَأتي مِنْ فَضَاءٍ بَعِيدٍ يتجلَّى حَاضِراً في فَضَاءِ المَسْرَحِ مَعِ انبثاق الصَّوتِ):
هَا نَحْنُ الآنَ نُعَانقُ أمْواجَ الصَّوتِ الرَّيانِ
فَنَسْبَحُ في مَاءٍ لأْلأْ يَسْبَحُ في نُورٍ لازُورْدِيٍّ وهَّاجْ.
ها نَحْنُ الآنَ زَنَابِقُ آمَالٍّ تُصْغِي لِرَنِينِ الصَّوتِ
فُتُبْحِرُ صَوبَ لُبَابِ الشَّمْسِ
لِتَصْهَرَ في ذَاكِرَةِ الرُّوحِ
كُنُوزَ الكَلِمَاتْ!
(تَوقُّفٌ قَصِيرٌ مَصْحُوبٌ بمُوسِيقَى سَمَاوِيَّة النَّغَمَات تَشِي بعَودَةِ الصَّوتِ الَّذي كُنَّا نَسْمَعُهُ إلى مَنْبَعِهِ في سَريرَةِ السَّمَاءِ؛ لُبابِ الشَّمْسِ، وتَتَوقَّعُ رُجُوعَهُ إلينَا مِنْ جَديدٍ مُحَمَّلاً بِرؤيا ونَشِيدٍ تُوحِي نَغَمَاتُهَا الرُؤيَاوِيَةُ الصَّافِيَةُ ذاتُ الأريجِ بِمَكْنُونِاتِهِمَا الإنْسَانِيَّةِ الخَيِّرةِ البَهِيجَةِ)
هَا هِي ذِي كَلِمَاتٌ تَتَهَادَى في الأَجْوَاءِ،
وبينَ الأمْوَاجِ،
تُضَوِّعُ في الأرْجَاءِ الوَاسِعَةِ
رَحِيقَ الرُّؤيا:
(يَنْطُقُ الأسْطُرَ الشِّعْريَّةَ التَّالية صَوتٌ كَونيٌّ يَبُثُّ مَا ارْتَأَتْ سَرِيرَةُ السَّمَاءِ أَنْ تُفْصِحَ عَنْهُ مِمَّا تَكْتَنِزُهُ مِنْ رُؤَىً، فِيمَا جَوقَةُ الصَّوتِ الجَمَاعِيِّ؛ جَوقةِ صَوتِ رُسُلِ التَّاريخِ السَّابِحَةِ الآنَ في الفَضَاءِ الكَونيِّ البَعِيدِ تُصْغِي، بِخُشوعٍّ، لِهَذَا الصَّوتِ الآتِي مِنْ فَضَاءٍ أَبْعَدْ)
الصَّوتُ الكونيُّ (صَوتٌ رؤياويٌّ مَصْحُوبٌ بِصَدَىً ورَجْعِ صَدَىً وضَوءْ):
لوحة: إدوارد شهدة
نَجْمُ يَبْسَمُ كالطِّفلِ
يُطِلُّ عَلَى الدُّنيا مِنْ خَلْفِ
غَمَائِمَ كَرْبٍّ مُتَّصلٍّ،
وبَلاءْ،
ونُجُومٌ تُبْرِقُ كالْهَالةِ
حَولَ النَّجْمِ الطِّفْلِ،
تَسْتَلْهِمُ رؤياهُ،
وتُلْهِمُهُ،
وتُضِيءُ عَلَى الأرضِ الوَاسِعَةِ خُطاهْ.
أَصَابِعُ أَيْدٍ أَشْتَاتٌ تُجْمَعُ في كَفٍّ،
وأكفٌّ شَتَّى تُحْزَمُ في قَبْضَة،
وأَيَادٍّ تَتَوحَّدُ في سَاعِدْ،
وسَوَاعِدُ تُضْفَرُ في جَسَدٍ واحِدْ،
وجُسُومٌ وقَرَائِحُ
وقُلُوبٌ وضَمَائِرُ
تَلْتَحِمُ فَتَبْنِي جَسَدَاً كُلِّياً
صَافي الرُّوحِ،
قَوياً،
ذَا عَقْلٍ وَقَّادٍ.
إشْعَاعُ لَهِيبٍ مِنْ حَقٍّ يَطُلُعُ مِنْ أَقْبِيَةِ الظُّلْمَةِ،
مُنْتَفِضَاً في وَجْهِ قُوى الشَّرِّ
وصُنَّاعِ الأَرْزَاءْ!
نَسْرٌ مِنْ صُلْبِ التَّارِيخِ الْحَقِّ
ومِنْ رَحْمِ الأَرْضِ الْمَسْبِيَّةِ،
يَنْهَضُ كي يَنْقَضَّ عَلَى الرُّخِّ الْمَلْعُونِ الجَاثِمِ
مُنْذُ عُقُودٍ
فَوقَ ثَرَاهَا.
أَلْسِنَةُ لهِيبٍ تَلْتَهِمُ صَحَائِفَ سُودٍ،
وخُرَافَاتٍ،
وأَسَاطِيراً يَحْشُوهَا الرِّجسُ الطَّافحُ والإفكْ.
تِيجَانٌ مِنْ قَارٍ ودُخَانٍ أَسْودَ وعُيُونِ أَفَاعٍّ،
تَسْقُطُ مِنْ فَوقِ رُؤوسٍ حَاقِدَةٍ مَحْمُومَةْ.
سَيْفٌ مِنْ نُورٍ وهَّاجٍ يَجْتَثُّ رُؤوسَ،
ويَقْطَعُ أَذْنَابَ،
ثَلاثِ أَفَاعٍّ تَتَفَاوَتُ في الحَجْمِ،
ونَوعِ السُّمِّ،
وَكِبَرِ الرَّأسِ،
فَتُرْخِي قَبْضَتَهَا عَنْ دُرَّةِ تَاجِ الأَرْضِ،
وتَسْقُطُ في قَاعِ الْوَكرْ.
شَمْسٌ مُطْفَأَةٌ تَرْتَدُّ إلَيهَا الرُّوحُ،
فَتَصْعَدُ مِنْ كَهْفِ الْعَتْمَةِ،
تَتَلَقَّى بالْعَينِ وبالْقَلْبِ،
وبالْعَقَلِ وبالصَّدْرِ،
سَنَاءَ الشَّمْسِ الأمِّ،
فَتَسْتَرْجِعُ مَرْكَزَها الْخَالِدِ في عِقْدِ الْكَونِ
كأَجْمَلِ لُؤْلُؤَةٍ تَسْطَعُ إشْعَاعَاً نُورَانِياً في أَرْوَاحِ النَّاسِ،
وفي الأَرْجَاءْ.
(تَوَقُّفٌ قَصِيرٌ مَصْحُوبٌ بِمُوسِيقَى تَتَدَرَّجُ نَغَمَاتُهَا مِنَ البَهْجَةِ إلى الحُزنِ لتُعِيدَنَا إلى المقْبرَةِ وكأَنَّنَا قَدْ عُدْنَا مِنْ حُلُمٍ سَمَاويٍّ حَمَلَتْنَا إليهِ أجْنِحَةُ الصَّوتِ الكَونِيِّ النَّاطِقِ مَكنُونَ سَريرةِ السَّمَاءِ وأَشْواقَ الإنْسَانِ، لِنُواجِهَ الوَاقِعَ المُرَّ، مِنْ جِدِيْد. في هَذِهِ اللَّحَظَاتِ لا يَكُونُ ضَوءُ الفَجْرِ قَدْ تَسَرَّبَ تَمَاماً إلى المقْبَرَةِ فَلا نَتَمَكَّنُ مِنْ رُؤْيَةِ تَقَدُّمِ شَبَحٍ ذِي رِدَاءٍ أَسْودَ مُلَطَّخٍ بِبُقَعٍ مِنْ وَحْلٍ وقَارٍ ودُخَانٍ وَدَمْ، إذْ نَكَادُ لا نَرى مِنْ هَذَا الشَّبَحِ إلا غُبَارَ حَركَةِ قَدَميهِ ونَبْشِهِمَا بَينَ القُبُورِ يَخْتَرقُ خُيُوطَ الضَّوءِ الخَافِتْ. تَدْخُلُ رُسُلُ التَّاريخِ الثَّلاثةِ إلى خَشَبَةِ المَسْرَحِ مَصْحُوبَاتٍ بالضَّوء فَتَأخذُ مَوَاضِعَهَا الَّتِي كَانَتْ لهَا قَبْلَ تَحْلِيقِهَا المُفَاجِئِ، ثُمَّ تَشْرَعُ في قَولِ ما جَاءتْ لِقَولِهِ مِنْ كَلام).
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعِيٍّ مُتَحَشْرِجٍ حَزِينْ):
قَدْ كُنَّا نَسْبَحُ في أنْوَارِ القُبَّةِ
نَتَلَأْلأُ
مِثْلَ نُجُومٍ خَضْراءْ،
تَرْفَعُنِا أمْوَاجُ الصَّوتِ
إلى لُبِّ الشَّمْسِ،
فَنَطْفُو
فَوقَ أَثِيْرِ الْكَلِمَاتْ؛
فإذا بِنِدَاءٍ بَشَرِيٍّ
مَخْنُوقٍ
تُطْلِقُهُ رُوحُ الإنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءْ،
يَسْتَصْرِخُ هِمَّتَنَا
كَي نَهْرَعَ صَوْبَ القَبْوِ الأَرْضِيِّ
لِنَدْفَعَ عَنْهُ
مُدَاهَمَةَ شَيَاطِينِ الأَدْجَاءْ،
(وِقْفةُ صَمْتٍ عَنِ الكَلامِ يُصَاحِبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ الخَلْفِيَّةِ المُوسِيقِيَّة ثُمَّ انْخِفَاضُهُ التَّدريجيُّ تَمْهِيداً لِبِدْءِ الإصْغَاءِ إلى ما سَتَقُولهُ، الآن، رُسُولَةُ التَّاريخِ ذَاتُ الرِّدَاءِ الأحْمَرِ، ثُمَّ إلى مَا سَتَقُولُهُ شَقِيقَاتُها عُقْبَ ذَلِكَ في تَنَاوبٍ مُتَتَابِعْ)
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداء الأَحْمَر):
هَا قَدْ عُدْنَا من بُرْهَةِ مِعرَاجٍ نُورانيٍّ
تَدْنُو مِنْ طَرْفَةِ عَينْ،
يَسْكُنُنَا قَلَقٌ يَنْزِفُ فِينَا جَمْراً
مِنْ وَجَعِ الأَرْضِ الْمَسْبِيَّةِ،
ومُكَابَدةِ الشَّعْبِ المَأْسُورْ.
لَكِنْ إنْ كُنَّا نَرْصُدُ،
وَنُرَاقِبُ،
وَنُسَجِّلُ،
وَنُذِيعُ عَلَى الْمَلأِ،
تَفَاصِيلَ جَرَائِمَ هَذَا الْمُحْتَلِ الاسْتِيطَانِيِّ الْغَاصِبْ،
ونَرَى لِتَخَبُّطِ أبْناءِ الشَّعْبِ،
وقَادَتِهِ،
وَقِوَاه الفَاعِلَةِ،
وَصُنَّاعِ قَرَارَاتِهْ؛
كُنَّا نتوقَّعُ أنْ يَحْدُثَ مَا يَحْدُثُ
مِنْ جُرْمٍ صُهْيُونِيٍّ مُتَمَادٍّ في سَلْبِ الأَرْضِ
وقَهْرِ النَّاسْ،
ومِنْ ظُلْمٍ وحْشِيٍّ يُشْعِلُ صَمْتُ البَشَرِيَّةِ،
وتَقَاعُسُهَا،
جَذْوَةَ عُنْفِهْ.
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداء الأَخْضَر):
لوحة: إدوارد شهدة
ذَاكَ هُوَ الهَولُ الوَحْشِيُّ نِقْيِضُ هُوِيَّاتِ الإنْسَانْ
ذاكَ هُوَ الجُرْمُ الأَعْتَى
والظُّلْمُ الأقْصَى
المُتمدِّدُ كالأفعي في شتَّى الأركانْ
والمَحْفُوزُ بجَشَعٍ بَشِعٍ،
يَأْخُذُ هَيئَةَ كِبَرٍ قَومِيٍّ،
أو يتزيَّا بِعِصَابٍّ قَبَلِيٍّ،
أو يتَوَارَى خَلْفَ تَآوِيلٍ وفَتَاوَى تَتَقنَّعُ بالدِّين
لِتُلْغِي العَقْلَ،
وتُنهي جَدْوى الإيْمَانْ؛
فَمَا هِيَ إلا مَحْضُ تَخَاريفٍ جَوفَاءْ
يَمْلأُهَا مَكرٌ ذِئْبِيٌّ ودَهَاءٌ
يَحْفُرُ بِمَخَالِبِهِ أَشْكَالَ تَوَحُّشِهِ،
ومَصَالِحَهِ،
وبَشَاعَةَ جَشَعِهِ،
في طَبَقَاتِ الأَرْضِ،
وفي شَتَّى الأرجاءْ
وفَوقَ حُقُوقِ
وأجْسَادِ
وأشْواقِ
الأغْيَارِ مِنَ النَّاس،
ليُطْفِئَ أنوارَ الحَقِّ؛ مَنَارَاتِ العَدْلِ،
ويُعَتِّمُ أضَواءَ ضَميرِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءْ!
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداء الأَخْضَر):
ذَاكَ هُوَ الخُذْلانُ إزاءَ الهَولِ المُتربِّص بالإنْسَانْ
خُذْلانٌ يَعْجَزُ عَنْ تَسْمِيَةِ الوَحْشْ،
أو هُوَ يَتَواطَأُ مَعَهُ
ويُحَفِّزُهُ
إذْ يتقنَّعُ بتَرَاتُبِ هَرَميَّةِ،
وأهميَّةِ،
مَا هُوَ أَعْلَى،
أو أَدْنَى،
مِنْ إلحَاحٍ تَسْتَدْعِيهِ شُؤُونُ السُّلْطةِ
ودَواعِي القَبْضِ عَلَى أقْدَارِ النَّاسِ
وخَيراتِ الكَونْ.
ذَاكَ هُوَ الخُذْلانُ إزاءَ الهَولْ
إذْ يتبجَّحُ بِدَوَاعِي الحِرْصِ على حِفْطِ اسْتِقْرارِ العالمِ
أو تَأْمينِ رخَاءٍ كَونيٍّ!
أوْ سِلْمٍ إنسانيٍّ أو أَمنْ،
أو إذْ يتزيَّا بِرِيَاءِ النِّسْيانِ المُتَقَصَّدِ
كي يتغافلَ عمَّا تَقْتَرِفُ أَفَاعي "إسْرَائِيلَ" المَسْمُومةِ
ضِدَّ الإنْسَانيَّةِ
في دُرَّة تاجِ الأرضِ "فِلَسْطِينْ"
مِنْ جُرْمٍ وحْشِيٍّ يَتَأَدْلجُ
بأسَاطيرٍ تَطْلُعُ مِنْ نَصٍّ دَيْمَاسِيٍّ أَسْودَ
نَصٍّ لا يَتَطَلَّبُ إلاَّ مَوتَ الإنْسَانِ
وقِيَمَ الإنْسَانِ
ليَحْيَا نَصَّاً مِنْ مَوتٍ في أقبية المَوتْ!
(مَا أَنْ تُنْهِي ذَاتُ الرِّداءِ الأَخْضَر نُطْقَ السَّطْرِ الأَخِيرِ حَتَّى يَلْتَحِم صَوتُ ذاتُ الرِّدَاءِ الأَبْيَضِ مَعَ صَوتِهَا في نُطْقِ الأَسْطُر التَّالية)
نَصٌ دَيمَاسِيٌّ أسْوَدُ لا يَتَطَهَّرُ مَعْتَنِقُوهُ
إلاَّ بالذَّبح وجَزِّ الأعْنَاقِ
إلا بالْحَرقِ وبِالْقَتلْ
إلا بالْقَتْلِ وبالْحَرقْ
وبتَصْعِيدِ دُخَانِ الأَبْرَاءِ من النَّاسِ
إلى ربٍّ جُنُودٍ مَيْتٍ
لا يَحْيَا إلاَّ بِدِمَامِ المَوتْ!
نَصٌ دَمَويٌّ حُفِرَ بأظْلافٍ وَحِيشٍ شَرسٍ
فَوقَ الوَجْهِ البَشَرِيِّ
مُحِيلاً وَجْهَ الإنسانِ إلى شَاهِدِ قَبْرٍ!
(يَلْتَحِم صَوتُ الرَّسولةِ ذاتِ الرِّدَاءِ الأحمرِ مَعَ صَوتِي شقيقتيها في نُطْقِ الأَسْطُر التَّالية التي نُصْغِي إليها مَحْمُولَةً على صَوتِهِنَّ الجَمَاعي المَسْكُونِ بِنَبراتِ تألُّمٍ فَادِحٍ وإدَانَةٍ صَارِمَةٍ في آنٍ مَعَاً)
نَصٌ منْ حِقْدٍ مَسْكونٌ بمَجَازِرِ تَطْهِيرٍ عِرقيٍّ
"لا سَامِيٍّ"
لا إنْسانيٍّ
لا يَسْتَبْقي أحداً غَيرَ عِصَابَاتِ الإرهابِ،
وغَيرَ وُحُوشِ الإنسِ وقُطْعانِ الغَابِ،
وأعمدةِ النَّارِ العَمْيَاءِ،
وأنْظِمَةِ الاسْتِبْدَادِ،
تَزُجُ الإنْسَانِيَّةَ في أفْرَانٍ عَمَاءٍ
لا تَلْفُظَها إلا مَحْضَ رُكَامٍ،
ورَمادٍ،
ودُخَانْ،
أو وُحْشَانٍ ضَاريةٍ تَأْخُذُ، زِيفَاً، شَكْلَ الإنْسَانْ!
(يشرعَ صَوتُ الخَلْفِيَّةِ المُوسِيقِيَّة في الارتفاعِ التَّدريجيِّ، ثُمَّ في الانْخِفَاضِ التَّدريجيِّ، وذلك تَمْهِيداً لِبِدْءِ الإصْغَاءِ إلى ما سَتَقُولهُ، الآن، رُسُلُ التَّاريخِ بِصَوتٍ جَمَاعيٍّ متعدِّد النَّبراتِ)
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعيٍّ متعدِّد النَّبراتِ):
هَا قَدْ عُدْنَا من بُرْهَةِ مِعْرَاجٍ أرضيٍّ
صَوبَ دَيَامِيسِ الْعَتْمَةِ،
يَحْمِلُنَا ضَوءٌ مَسْكَونُ بِنِدَاءٍ وطَنيٍّ إنْسَانيٍّ مَكْبُوحْ،
لا يَسْمَعُه مِنْ شَيءٍ أو أَحَدٍ غَيرُ عُرُوقِ الأَرْضِ
وقَلْبُ الأمِّ الْمَسْبِيَّة.
وها نَحنُ نَتُوقُ لِكَسْرِ الدَّائِرةِ المُغْلَقَةِ
عَلَى مَا حَدَثَ ومَا قَدْ يَحْدُثُ،
كي يَسْتَلْهِمَ هذا الشَّعْبُ الحُرُّ
دُرُوسَ التَّارِيخْ،
فَيَكُفَّ عَنِ السَّيرِ
عَلَى هَدْيِّ نُجُومٍ آفِلَةٍ،
أو سُرُجٍ تَفْتَقِرُ الشُّعْلَةَ،
والزَّيتَ الْوَضَّاءْ،
ويَغُذَّ الْخَطْوَ
عَلَى شَفْرَاتِ الْمِيَلادِ،
يُكَابدُ آلامَ مَخَاضٍ صَعْبٍ،
يُخْرِجُهُ من هذا الرَّكْضِ الدَّامي
خَلْفَ خُيُولٍ عَرْجاءْ،
أو يَصْعَدَ مِعْرَاجَ الْمِحْرَقِ،
كَي يَنْهَضَ،
كَالْفَينِيقِ،
قَوِيَّاً مُقْتَدِرَاً،
مَوْفُورَ الْهِمَّةِ،
مُنْتَفِضَاً مِنْ قَلْبِ رَمَادِهْ!
(وِقْفَةُ صَمتٍ عَنِ الكَلامِ يُصْحَبُهَا ارتِفَاعُ صَوتِ الخَلْفِيَّةِ المُوسِيقِيَّة تدريجيَّاً قبلَ أنْ يَشْرَعَ في الانْخِفَاضِ التِّدريجيِّ المُمَهِّدِ للإصْغَاءِ إلى رُسُلِ التَّاريخِ: ذَاتُ الرِّداءِ الأَبْيَضِ؛ ذَاتُ الرِّداءِ الأحْمَرِ، ذاتُ الرِّداءِ الأَخْضَرِ، على التَّوالي، ثُمَّ لِصَوتهنَّ الجَمَاعِيِّ المَتْبُوعِ بِتَنَاوبٍ دَوريٍّ جَدِيد).
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَض):
هَا نَحْنُ إذَنْ رُسُلٌ للتَّاريخِ،
نَبُثُ عَلَى أمْواجِ الضَّوءِ الْفَجْرِيِّ كَوَامِنَ رُؤْيَتِهِ،
وَوَمِيضَ رُؤاهْ.
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَحْمَر):
هَا قَدْ عُدْنَا نَتَرَنَّمُ بِنَشِيدٍ أُوصِينَا أنْ نَكْتُمَهُ،
حَتَّى يَتَلأْلأَ في أُفُقِ الأَرْضِ الْمَسْبِيَّةِ نَجْمٌ يُحْسِنُ إنْشَادَهْ.
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداء الأَخْضَر):
قَدْ كَانَ لَنَا أنْ نُنْفِذَ أَمْرَ التَّاريخِ الحَقِّ،
فَنُوقِفَ دَهْمَ شَيَاطِينِ الظُّلمةِ لشُمُوسِ الْقَبْوِ،
فَلا يَعْدَمُ وَمْضَ بَصِيصٍ مِنْ ضَوءٍ وسَنَاءْ.
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ مُوَحَّدٍ ذي نَبَراتٍ قَوِيَّةٍ حَاسِمَةٍ، أو مُتَسَائِلَةٍ، بِحَسَبِ السِّيَاق وفَحْوى الكَلامْ):
لَكِنْ لَيسَ لَنَا أنْ نُشْعِلَ شَمْسَاً كانَ لزُمْرةِ أَشْرارٍ،
أو ثُلَّةِ أوْغَادٍ،
أنْ تُطْفِئَهَا مِنْ قَبْلُ.
إنْ هَذا إلا شَأْنُ الإنْسَانِ الحُرِّ الفَاعِلِ في الأَرْضِ،
وشَأنُ الشَّعْبِ المَأْسُورْ،
إنْ هُوَ قَدِرَ وشَاءْ.
لَكِنَّا نَتَسَاءَلُ عَمَّا قَدْ تَرْقُبُ أَعْيُنُنَا في القَبْوِ،
وفي الْمِقْبَرَةِ،
وفي الْقَبْرِ الْمَفْتُوحِ الآنْ!
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَحْمَر):
لوحة: إدوارد شهدة
هلْ كانَ لِدَهمِ شياطينِ الأَدْجَاءِ شُمُوسَ الأرضِ الْمَسْبِيَّةِ
أنْ ينْزَعَ منْ جَسَدِ الشَّعْبِ رَحِيقَ الرُّوحْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَض):
هَلْ ثَمَّةَ مَا يُنْبِئُ بِقُدُومِ مَوَاكِبَ تَشْيِعٍ ونُعُوشٍ وجَنَائِزْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعيٍّ مَصْحُوبٍ بإيماءاتٍ جَسَدِيَّةٍ تَعْكِسُ ما تَراهُ الرُسُلُ الآنَ وتُجَلِّي تأثيرَهُ عليها):
لا ... لا
لَسْنَا نَلْمَحُ غِرْبَاناً في الأُفُقِ المَرْئِيِّ،
ولا يَتَنَاهَى لِمَسَامِعَنَا صَوتُ عَوِيلٍ،
أو ندْبٍ مَجْرُوحْ،
لَكِنَّا نُبْصِرُ حَفَّارَ قُبُورٍ
يَتَرَبَّعُ يَقِظَاً
مُنْتَظِرَاً
فَوقَ الْعَتَبَةْ،
وهُنَالِكَ في الْمِقْبَرِ قَبرٌ مُتَّسِعٌ مَفْتُوحْ!
(انْقِطَاعٌ مُفَاجِئٌ يُفْضِي إلى صَمْتٍ مُطْبِقٍ، بِلا مُوسِيقَى خَلْفِيَّة، فِيمَا رُسُلُ التَّاريخ تُرْسِلُ بَريقَ عُيُونِهَا صَوبَ مَوضِعٍ مُعْتِمٍ دَاخِلَ المِقْبَرَةِ لتَتَبَيَّنَ مَصْدَرَ حَرَكَةٍ غَامِضَةٍ وحَفِيفٍ خَافِتٍ رَصَدَتْهُمَا أَسْمَاعُهُنَّ فِيهِ، ثُمَّ تَنْبَثِقُ الخَلْفِيِّةُ المُوسِيقِيَّةُ، خَافِتةً، لنُتَابِعُ الإصْغَاءَ، مَعْ بِدْءِ انْبِثَاقِهَا، إلى أصْوَاتِ الرُّسُلِ في تَنَاوبٍ مُتَتَابِعْ).
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَخْضَر):
لَكِنْ مَنْ هَذَا الشَّبحُ الْمُتَهَادِي بَيْنَ قُبُورِ الشُّهَداءْ؟
أتُراهُ مَلاكاً يتنكَّرُ في ثَوبِ شَبَحْ؟
أمْ إنْسَاناً ذَا قَلْبٍّ حُرٍّ وضَمِيرٍ حَيٍّ،
جاءَ لِيَسْتَقْصِي ما اقْتَرفَ المُحْتَلُّونَ بِحَقِّ الإنْسَانِيَّةِ
في قَلْبِ الأرضِ المَسْبِيَّةِ،
من جُرْمٍ لا يَبْلغهُ الوَصْفُ،
فَمَا كان لِصِدْقِ الاسْتِقْصَاءِ
وهَولِ المُسْتَقْصَى،
إلا أنْ يُسْلِمَهُ لِلْغُمَّةِ والْكَرْبِ،
وضِيقِ الأنْفَاسِ،
لِيَنْحَلَ مِنْهُ الجِسْمُ،
فَيَغْدُوَ كَالطِّيفِ الْمِشْبُوحْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَض):
أَتُرَاهُ ابْنَاً مِسْكِينَاً مِنْ أبْنَاءِ الشَّعْبِ المأْسُورِ،
تَمَلَّكَهُ الفَقْرُ،
وبُؤسُ الحَالِ،
فَصَيَّرهُ الصَّبرُ العَاقِرُ ظِلَّ شَبَحْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَحْمَر):
أَتُرَاهُ ابْنَاً عَقَّ الأَبَوَينِ،
فَخَانَ الأَرْضَ الاُمَّ وخَانَ الشَّعْبَ،
وَبَاعَ إلى الشَّيطَانِ الرُّوحْ؟
أمْ هُوَ وَغدٌ مِمَّن بَاعُوا حَقَّ الشَّعْبِ،
فَأَضْحَى،
حِينَ اكْتَشَفَ الشَّعْبُ خِيَانَتَهُ،
ثُعْبَاناً يَتَخَفَّى في زيِّ شَبَحْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَخْضَر):
أتُرَاهُ زَعِيمَاً من زُعَمَاءِ الشَّعْبِ المَزْعُومِينَ،
تُرَاوِدُهُ النَّفْسُ بأنْ يَقْبُرَهَا،
إذْ فَضَحَ الزَّمنُ عَمَى قَلْبِهْ،
وفَسَادَ بَصِيرَتِهِ،
وضَلالَ خُطاَهُ،
فَأَحْنَى باللّائِمَة عَلَى النَّفْسِ النَّاهِيَةِ،
الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ،
اللَّوَّامَةْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعيٍّ تَقْريريٍّ أو مُتَسائِلٍ أو واصِفٍ، وذَلك بِحَسبِ سِيَاقِ الكَلامِ وفَحْوُاهْ):
إنَّا نَتَوَقَّعُ،
ونُخَمِّنُ ونَظُنُّ،
ونَفْتَرِضُ،
ولَكِنَّا لا نُمْسِكُ في الأَيْدٍي طَرَفَ يَقِينٍ،
حَتَّى نَتَأَكَّدَ،
فَنُسَمِّي،
ونُسَجِّل في أَلْوَاحِ التَّاريخْ؛
فَمَنْ هُوَ هَذَا الشَّبحُ
الْمُتَهَادي بِوَقَارٍ جَمٍّ
بَيْنَ قُبُورِ الشُّهَداءْ؟
إنَّا نَرْقُبُهُ الآنَ،
هَا هُوَ ذَا يَتَوقَّفُ بِخُشُوعٍ حَقٍّ عِنْدَ شَواهِدِهَا،
يَقْرَأُ فَاتِحَةَ كِتَابِ اللَّهِ،
وَيَتَرَحَّمُ،
بِصَفَاءٍ وَضَّاءٍ،
وَرَنِينِ فُؤَادٍ مَكْلُومٍ،
ورَجَاءْ.
نَسْمَعُهُ يَهْمِسُ بِسُؤَالٍ
مَا أنْ يَجِدَ جَوابَاً
حَتَّى يَنْفَتِحَ عَلَى سِلْسَالٍ مِنْ أَسْئِلةٍ
جَارِحَةٍ
تَتَوَالَدُ كَالْعَنْقَاءْ!
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَض):
لا .. لا
لَيْسَ يَعُودُ الشَّبحُ المُتَهادِي
بخُشُوعٍ حقٍّ
بَينَ قُبُورِ الشُّهَداءِ
لِهَذَا الشَّخْصِ المُفْتَرَضِ،
ولا ذَاكْ،
إنْ هُوَ إلا شَبَحٌ يَكْتَنِزُ مَلايينَ الأَشْبَاحْ،
يَتَكَاثَرُ في الضَّوءِ، كَمَا الأَسْئِلةِ،
فَيَمْلأُ عَينَ الشَّمْسِ الوَهَّاجَةِ في اللَّيلِ،
كَمَا الفَجْرِ،
كَمَا الظُّهرِ،
كَمَا الْعَصْرِ،
كَمَا الْمَغْرِبِ والإصْبَاحْ!
فَلِمَنْ يَرْجِعُ هَذَا الشَّبَحُ المُكْتَنِزُ مَلايِينَ الأْشْبَاحْ؟
رُسُلُ التَّاريخ: (ذات الرداء الأحمر):
ولِمنْ يَرجِعُ هَذَا الشَّبَحُ المُتَكَاثِرُ في الضَّوءِ،
الْمَسْكُونُ بأَسْئِلَةٍ لا تُحْصَى،
المُتَحَقِّقُ في أَعْيُنِنِا كالمُفْرَدِ في صِيغَةِ جَمْعٍ،
أَوْ كَالْجَمْعِ المُدْغَمِ في صِيغَةِ مُفْردْ،
والْمُتَهَادي بِخُشُوعٍ حَقٍّ،
وَصَفَاءٍ،
وَرَجَاءٍ،
وَدُعَاءٍ،
بَيْنَ قُبُورِ الشُّهَداءْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداء الأخضر):
وَلِمَنْ هَذَا الْقَبْرُ المَفْتُوحُ،
المُتَكَاثِرُ بِتَكَاثُرِ أَطْيَافِ الأَشْبَاحْ؟
ولِمَنْ تَرْجِعُ آثَارُ الخُطُواتِ المُتَسَرِّعةِ الشَّوهَاءْ،
المُرتَعِشَةِ فَوقَ الْعَتَبَةِ،
أو في بَهْوِ الْمِقْبَرَةِ،
وقُرْبَ الْقَبْرْ؟
رُسُلُ التَّاريخ (بصَوتٍ جَمَاعيٍّ):
فَلْنُرسِلَ إِشْعَاعَاتِ الأَعْيُنِ صَوبَ الجَدَثِ المُكْتَظِّ،
كَي نَرْقُبَ سَعْيَ الإنْسَانِ،
وإِنْبَاءَ الوَاقِعِ،
ومَآلاتِ نُبَوءَاتِ الأَقْدَارْ؟
(تَوقُّفٌ انْتِقَالِيٌّ قَصِيرٌ يَصْحَبُهُ ارْتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيَقى الخَلْفِيَّة النَّاعِمَة الحَزِينةِ ارْتِفَاعاً تَدْريجِياً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّدُ للإِصْغَاِء، من جديد، إلى صَوتِ رُسُلِ التَّاريخ الجَمَاعيِّ).
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعِيٍّ نُبُوئيِّ مُفْعَمٍ بنبراتِ تَفَاؤلٍ واقِعِيٍّ مُؤَصَّل).
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ بَسْمَةُ طِفْلٍ،
وطَلْعَةُ فَجْرٍ،
وشُعْلَةُ مَجْدٍ،
وإكْلِيلُ غَارْ.
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ أجْنُحُ نَسْرٍ،
عَزِيزٍ،
جَسُورٍ،
كَريمِ المُحَيَّا،
نَبيلِ الخِصَالْ.
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ مِعْرَاجُ بَعْثٍ،
وشَلَّالُ ضَوءٍ،
ونَجَمٌ مُضَاءْ.
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ شَتْلاتُ نَرْدٍ،
وآثار خَطوٍّ،
ورشَّاتُ مَاءْ.
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ قَطْرُ دِمَاءْ!
(بُرْهَةُ صَمْتٍ تَعْقُبُهَا مُوسِيقَى تَتَمَاَشى مَعْ تَحَرُّكِ الشَّبَحِ الَّذي يُمْكِنُنَا، مَعْ شُروعِ ضَوءِ الفَجْر في التَّفتُّح، أنْ نَرْقُبَ، بِجَلاءٍ نِسْبِيٍّ، حَرَكَتَهُ بِينَ الْقُبُورِ، وأنْ نَلْحَظَ حِرْصَهُ عَلَى الوُقُوفِ خَاشِعَاً أَمَامَ كُلِّ شَاهِدٍ مِنْ شَواهِدِهَا. ثُمَّ يَظْهَرُ الشَّبحُ مُجَسَّداً في هَيئَةِ شَابٍّ قَويِّ البُنْيَةِ، عَاليَ القَامَةِ، تَبْدُو عَلَيهِ عَلامَاتُ شَيخُوخَةٍ طَارِئةٍ، يتَّجِهُ، بِمُفْرَدِهِ، نَحْوَ فَتْحَةِ الْقَبْرِ المَفْتُوحِ الَّذِي كَانَ حَفَّارُ الْقُبُورِ قَدْ جَهَّزهُ لِلتَّوِّ، فيُرْسِلُ بَصَرَهُ الْكَلِيلَ إلى دَاخِل الْقَبْرِ مَرَّاتٍ تِلوَ مَرَّاتٍ في إطَارِ حَرَكَةٍ تَفحُّصيَّةٍ هي أَشْبَهُ مَا تَكُونُ بِرُكُوعٍ مُتَكَرِّرْ، ثُمَّ يَرْقُدُ، مَهْمُومَاً مَغْمُومَاً، عِنْدَ حَافَّتِهِ. وفي هَذِه اللَّحْظَةِ بالذَّاتِ، تَصْعَدُ إلى السَّمَاءِ رُوحٌ ذَاتُ هَيئَةٍ مَلائِكِيَّةٍ، مِثْلَ طِفْلٍّ مُجَنَّحٍ، وجْهُهُ عَلَى صُورةِ إنْسَانٍ، وَجَسَدُهُ عَلَى صُورَةِ مَلاكٍ أَثيريٍّ لَمْ تَلْتَقِطْهَا مُخَيِّلةُ إنْسَانٍ بَعْدُ، فيُتَابعُ الشَّبَحُ، بابْتِهَاجٍ دَهِشٍ يَشُوبُهُ حُزْنٌ خَفِيٌّ، حَرَكَةَ صُعُودِ الرُّوحِ وتَحْلِيقَهَا في الفَضَاءِ اللازُورْدِيِّ الشَّاسِعِ، ثُمَّ يَشْرَعُ في التَّكلُّمِ وهُوَ يَجُوسُ أَنْحَاءَ المِقْبَرةِ وَكَأَنَّمَا هُوَ يُكْمِلُ مَا بَدَأَتْهُ أَصْواتُ رُسُلِ التَّاريخ مِنْ كَلامٍ، أَوْ كَأَنَّمَا هُوَ يُتَابِعُ مُخَاطَبَةِ نَفْسِهِ، أَوْ سَرْدَ رِوايَتِهِ عَلَى أُنَاسٍ آخَرِينَ، في مَكَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ دُونِ أنْ يُسْمَعَ أَحَدٌ مِنَّا ما يُقَولُ، وَمِنْ دُونِ أنْ يَعْرفَ أيٌّ مِنَّا شَيئَاً عمَّا كَانَ لهُ مِنْ شأنٍ مَعَ نَفْسِهِ، أوْ مَعْ هَؤُلاءِ الآخَرينَ الَّذينَ كانَ يُحَادِثَهم، بلا كَلَلٍّ، قَبْلَ وُصُولِهِ حَافَّةَ الْقَبْرْ)
الشَّبَحُ (بِصَوتٍ خَافِتٍ مُتَبَاينِ النَّبَرَات).
وَعِنْدَ انْزِلاقِ الخُطَى
نَحْوَ عُمْرٍ جَدِيدٍ
مِنَ الْعُقْمِ،
والعُسْرِ،
والإزْدِرَاءِ،
وبُؤسِ البَقَاءِ،
تُرِكْتُ وَحِيدَاً،
لأسقُطَ في مِرْجَلِ الْكَرْبِ
وَحْدِي،
لِأَمْشِي عَلَى شَفْرَةِ الْقُرْحِ،
والْجُرْحِ،
والْمَوتِ،
وَحْدِي،
فَسِرْتُ عَلَى مِشْعَلِ الجَمْرِ
أَنْشُدُ في النَّارِ،
والغَارِ،
مَوتِي،
لَعَلِّي إذَا مُتُّ بالنَّارِ،
والغَارِ،
أُوصِلُ للنَّاسِ في غُرَفِ الأَرْضِ
أصْدَاءَ صَوتٍ
يُشَابِهُ صَوتي،
لعلي إذا مُتُّ في مِحْرَقِ الفَجْرِ،
أغدو جَنَاحاً خَفِيفَاً،
ونَجْمَاً مُشِعَّاً،
يُحَلِّقُ في الكَونِ بَحْثاً عِنِ الدُّرةِ المُصْطَفَاةِ،
وقَطْرَةَ مَاءٍ نَمِيرٍ
تُسُافِرُ في بَاطِنِ الأَرْضِ
تَسْقِي جُذُورَ الثَّرى،
وأَغَانِي الحَيَاةْ!
(تَوقُّفٌ انْتِقَالِيٌّ قَصِيرٌ يَصْحَبُهُ ارْتِفَاعُ صَوتِ المُوسِيَقى الخَلْفِيَّة النَّاعِمَة الحَزِينةِ ارْتِفَاعاً تَدْريجِياً يَتْلُوهُ انْخِفَاضٌ تَدْرِيجِيٌّ يُمَهِّدُ للإِصْغَاِء إلى أصْواتِ رُسُلِ التَّاريخ التي تَسْتَكْمِلُ، الآنَ، ما كانتْ تَودُّ قَولَهُ قَبْل شُروعِ الشَّبَحِ في الكَلامِ، وكأنَّمَا هي تُومئُ إلى إدْرَاكِها مَدْلولاتِ أقوالَ الشَّبَحِ، ومَعْرِفَتَهَا الضِّمْنِيَّةِ بِفَحْوى حِوارِه الصَّامتِ مَعَ نَفْسِهِ، ومَعَ الآخَرينَ مِنَ النَّاسْ).
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعِيٍّ حَزينْ):
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ شَتْلاتُ نَرْدٍ،
وآثَارُ خَطْوِّ،
وَرَشَّاتُ مَاءْ.
عَلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ قَطْرُ دِمَاءٍ؛
وَوَمْضُ رجاءْ!
(وِقْفَةُ صَمْتٍ عن الكَلامِ مَصْحُوبَةٍ بِنَغَمَاتٍ مُوسِيقِيَّةٍ تَعْكِسُ شُعُوراً بالانْهِيَارِ النَّاجمِ عَنِ الخُذْلانِ والْعَجْزِ عَنِ الفَعْلِ المُفْضِي إلى الانْتِقَال مِنْ واقِعٍ اسْتِبْدَاديٍّ قاتمٍ بَغِيضٍ قَائِمٍ الآنَ إلى واقعٍ مَرْجُوٍّ مَوسُومٍ بِحَقِ الإنْسَانِ في مُمَارسةِ حُرِّيَاتِهِ الأَسَاسِيَّةِ، وحُقُوقِهِ الإنْسَانِيَّةِ الشَّامِلَةِ، والاحْتِفَاظِ بكَرامَتِهِ التَّامة. تَسْتَمِرُّ هَذِهِ النَّغَمَاتِ كَخَلْفِيَّةٍ خَافِتَةٍ تُصَاحِبُ أقْوالَ رُسُلِ التَّاريخ).
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَضْ):
لوحة: إدوارد شهدة
خُطُواتٌ غَادِرَةٌ رَاعِشَةٌ،
أو أفْعَالٌ مُتَسَرِّعةٌ شُوْهَاءْ.
شَمْسٌ أدْمَاهَا سَوْطُ الأفْعَى السَّمَّامَةِ،
تَتَرنَّحُ مُتَوَارِيةً،
في كَهْفِ الظُّلْمَةِ.
رُسُلُ التَّاريخ: (ذات الرداء الأحمر):
فُتَّانٌ أوغَادٌ،
وتَوابِعُهُم،
سَقَطُوا في وَكْرِ الأَفْعَى،
فاتَّبَعُوا مَا اخْتُطَّ لَهُمْ مِنْ طُرقٍ مَائلةٍ عَرْجاءْ.
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَخْضَر):
حُفَّارُ قُبُورٍ،
وتَوَابِعُهُمْ،
سَقَطُوا في الدَّيْمَاسِ
فَجُرُّوا بِسَلاسِلَ جَهْلِ يَتَقَنَّع بالدِّينِ المُصْطَنَعِ
إلى أغْوَارِ الْعَتْمَةْ.
رُسُلُ التَّاريخ (بِصَوتٍ جَمَاعِيِّ مُتهكِّمٍ سَاخِرٍ يَشُوبُهُ الأَسَى):
جَاؤوا كُلٌّ بِطَريقَتِهِ،
مِنْ قِيَعَانِ الجَشَعِ الوحْشيِّ
وَأَقْبِيَةِ الْغَدْرِ،
وأوكَارِ الْفِتْنَةِ،
كَي يُلْقُوا بالشَّعْبِ المَأْسُورِ إلى هَاويةِ الأرْدَاءْ.
غَرَسُوا شَتْلاتِ النَّردِ،
ورشُّوا مَاءَ النَّارِ،
كَمَا الْمُتَخبِّطُ إذْ يَجْمَعُ بين مَضَاءِ العِزَّة وهَوانِ العَارْ.
ومَضَوا مَأْخُوذِينِ بوَهمٍ فتَّانٍّ،
يَحْمِلُهُم صُوبَ عُرُوشٍ منْ وَرقٍ،
تترنَّحُ فَوقَ قُرُونِ الْوَهْمِ الدَّوارْ!
(وِقْفَةُ صَمْتٍ عن الكَلامِ مَعْ اسْتِمرَارِ الخَلْفِيَّةِ المُوسِيقيَّة السَّابِقَةِ بِتَنْويعٍ يَتَجَاوبُ مَعْ نُبُوءةٍ تَشِي بتوفُّرِ إدراكٍ جَمْعيٍّ يُؤسِّسُ لانْتِهَاجِ دُروبٍ جَديدةٍ تُفْضِي إلى عُبورِ طَريقِ الحَيَاةِ والشُّروعِ في اسْتِجْلاءِ آفَاقِهَا: مَسَاحَاتُ عَيشٍ؛ وفَضَاءَاتُ حُرِّيَّةٍ؛ وسَمَاواتُ كَرَامَةْ).
رُسُلُ التَّاريخ (ذاتُ الرِّداءِ الأَبْيَض):
مَضَى الوَاهِمُونَ إلى مَوتِهِمْ،
كَمَا السَّائِرونَ عَلَى الْمَاءِ والْجَمْرِ في نَومِهِمْ،
فَقَدْ أطْعَموا الْقَبْرَ شَعْباً تَسَامَى عَلَى الْمَوتِ
حتَّى اسْتَفَاقَ،
لِيَنْشُدَ في القَيدِ أُفْقَ الحَيَاةْ،
فَأَلْقُوا عَلَيهِ رِدَاءَ الرَّدَى،
وخِيْلَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدْ قَضَىَ،
وما عَلِمُوا أَنَّهُ قَدْ مَضَى،
مَضَى وحْدَهُ ..
وحْدَهُ ..
وَحْدَهُ ..
بلا كَفْنٍ
ومِنْ دُونِ نَعْشٍ،
ودُونَ جِنَازٍ،
ومِنْ دُونِ زادٍ سِوَى العَقْلِ،
والْوَعْيِّ،
والحِسِّ،
والرُّوحِ،
والْفَقْدِ،
والْوَجْدِ،
والأُغْنِياتْ!
(تَوَقُّفٌ انْتِقَالِيٌّ قَصِيرٌ نُتَابِعُ خِلَالَهُ تَحَرُّكَ الشَّبَحِ في المِقْبَرَةِ، وعِنْدَ حَافَّةِ الْقَبْرِ، وكَأَنَّمَا نَحْنُ نُصْغِي إلى صَوتِهِ عَبْرَ مُتَابَعَةِ حَرَكَةِ شَفَتَيهِ ولُغَةَ جَسَدِه، وهُوَ يَسْردُ مَا قَدْ حَدَثَ مَعَهُ مِنْ قَبْلُ، ومَا يَحْدُثُ مَعَهُ، الآن، أي مُنْذُ لَحْظَةِ اقْتِرَابِهِ مِنْ حَافَّةِ الْقَبْرِ المَفْتُوحِ حَتَّى اسْتِقْرَارِه في قَاعِ هَاوِيَتِهِ العَمِيقَةِ، وَشُرُوعِهِ في البَحْثِ عَنْ مِيلادٍ جَديِدٍ يَأْخُذُهُ في طَريقِ حَيَاةٍ هِي الحَيَاةُ الإنسانيَّةُ المُتَحَضِّرةُ الَّتي ابْتَكَرَهَا أَسْلافُهُ وتَابَعَتْ أجيالُهُم المُتَعَاقِبَةُ الارْتِقَاءَ بِهَا مُنْذُ فَجْرِ تَاريخِ الإنْسَانِ وعَلَى مَدَارِ الزَّمَانِ، وَهِي الحَيَاةُ الَّتِي يُريدُهَا هُوَ، كشَعْبٍ حُرٍّ جَدِيرٍ بالحَيَاة الحُرَّة وِفْقَ يَنْبَغِي لهَذِهِ الحَيَاةِ أنْ تَكُونْ! تَتَجَاوبُ تَحَرُّكَاتِ الشَّبَحِ في المِقْبَرَةِ وفي الْقَبْرِ الَّذي يَدْخُلُهُ الآنَ مَعَ مَحْمُولاتِ الأَسْطُرِ الشِّعْرِيَّةِ فَتُلازِمُهَا مُتَزَامِنَةً مَعَهَا).
الشَّبَحُ (بِصَوتٍ خَافِتٍ، ولكنَّهُ مَسْمُوعٌ تَمَامَاً، يَأْتِي مِنْ دَاخِلِ الْقَبْرِ ولا يَخْلُو مِنْ نَبَراتٍ أَملٍ ويَقِينْ):
وعِنْدَ ابْتِعَادِ خُطَى الوَاهِمِينَ،
ومَوتِ النِّيامِ،
انْتَبَهْتُ إلى وحْدَتِي.
تَرَيَّثتُ،
ثُمَّ دَنُوتُ مِنَ الهُوَّةِ الفَاغِرة،
فَانْزلَقْتُ،
ارْتَعَشْتُ،
افْتَرَشْتُ الثَّرَى،
تَدَثَّرْتُ فِيهِ،
تَحَسَّسْتُهُ،
تَذَوَّقْتُهُ،
تَوَسَّدْتُهُ،
وأَمْعَنْتُ أسْأَلُ حَبَّاتِهِ كَيفَ لِي ..
كَيْفَ لِي ..
كَيْفَ لِي أنْ أَعُودَ
إلى
صَدْرِ
أُمِّي،
لأُولَدَ مِنْ رَحْمِهَا
مِنْ جَدِيدْ!
غزة، نيقوسيا، براتسلافا،
كُتِبَتْ مُسَوَّدات هذا النَّص المَسْرحي الأُولى خلال الفترة من تموز (يوليو) حتَّى أيلول (سبتمبر)2007
ورُوجِعَتْ في حزيران (ينويو) 2014 حيثُ اكْتَمَلت كتابهُ النَّصِّ،
وفي آذا (مارس) 2015، دُقِّق من جديد، فأدخلت عليه تعديلات بنائيَّة ولُغوية طفيفةٍ لا تَمُسُّ جَوهرَ بُنيته وفحواهُ.