ما أزعمه، ويليه يأس الشِّعر!
(1)
دائمًا ما سألتُ نفسي مثل هذا السؤال المُركّب الملتبس، ويزداد إلحاحًا عليّ كلما تقدّمْتُ في العمر. لكن يظهر– على الأرجح – أنّي عندما نزحتُ أنا وقريني اليتيم من قرية نائية ذات غروب، وأنا أحمل معي أصداء الغياب الكبير وشهواته المُدْماة. كلّ كلمة أزرعها الورقة هي، بمعنى ما، أليغوريا عن استعادة فجر مأمول من وراء الأكمات.
بعد ثلاثين سنة من النظر ومن ملاحقة الأحلام، وبعد ضياع الوقت في اللعب بأطراف النسيان، أعتقد أنّ مدى الغبش الذي حولي يعطي معنىً لما أكتب؛ كأنّي أحاول صقل منظر الغروب، وأنّي أثأر لحياةٍ صغيرةٍ مُغرَّر بها وأوهامٍ بالكاد تخطو لِمُجرّد أن تخطو. حياتي في الشِّعر؛ حياتي الداخلية، وحياتي في ليل الكلمات، وحياتي على شفا وَرْدٍ كثيرٍ.
هل ضروريُّ أن أقول ذلك؟ إذا لم يَكُ المُسمّى “شعرًا” هو وَهْمي الذي أتعكّز عليه، فأين الضروريّ إذن؟
عدا تماريني الأولى التي نثرتها هناك وهناك، وأحلام اليقظة التي كذبْتُ بها على نفسي في مرحلة الشباب، وقبضات الزُّؤان التي أطعمتها صغار الشبّوط الذهبي تاليًا؛ بعد انحدار الحماس، والتي تبدو كما لو كانت صدى لحقولٍ من الغناء الجريح، كنت دائمًا أحاول أن أقنع غيري بأنّ رهان الكلمة هو وصل ما انْقَطع ليضيء أكثر، إلى أن أخذتُ أُضحّي بأشكالٍ من الغرور والرضى عن النفس لأقنع ذاتي بالعمل في السرّ والغموض؛ كما لو كان درس عزاء عن ذكريات جميلة ولّتْ، وإصغاء لما هو آتٍ، ومحاورة مع أطياف الصمت.
هذا هو “مشروعي الشِّعري” – في ما أزعمه – عبر سلسلة خيبات وكوابيس وقطائع، وقد تَحوّل من شبه المطوّلة التي تدّعي قول “كلّ شيء” إلى الشذرة التي تتعلّم كيف تقول “أبعاضي” وتكتب هشاشتي. وهو ليس ذا بالٍ “جماعيٍّ” بالقياس إلى تأثيره وجدواه من عدمهما، فما حملتُ عليه نفسي في كتابة القصيدة هو ما يُرْشدني إليه الشّعر لأتعلّم منه لهُويّتى وشكل إقامتي المتحوّلَيْن، وقد أحرقتُ إليه قِطَعًا من مركبي المترنّح بين الأيّام، بعدد الأوهام الجميلة لا بحظوة الألقاب وعمى الحقائق المزعومة.
(2)
أعتقد أنّ أيّ نقد مأمول لشعري، ينبغي ألا يحيل على “خارجه” ليفهمه، أو على “مثاله” ليشدُّ ندوبه إلى بعضها البعض، بل عليه أن يكتشف خَيْطًا “ناظِمًا” ما زال ينحدر، منذ ذلك الوقت، من مشهد الغروب، ويعاني الدوران من نجمة تُطلُّ وأخرى تتوارى على غرار لعبة مُركّبة بين يدي طفل أو ألبوم صور في حِجْر ثَكْلى.
بهذا المعنى، لو أتيح للنقّاد الاطّلاع على مجاميعي الشعرية لأمكنهم الانتباه إلى هذا الخيط الذي “يقولني” ويلتمُّ على شظاياي وأصداء إيقاع حياتي الداخلية وموقفي من العالم الذي أحياه وأسعى إليه، فيما هي تتجاوب مع بعض البعض، وتتصادى ليس فقط مع ما قُلْتُه لذكرى أو موقف أو حالة مرّتْ، بل حتي مع ما لم أَقُلْه وظلّ حبيسَ نسيانٍ ما، ومتفلّتًا باستمرار.
وإذًا، فليست تلك المجاميع، في نهاية التّطواف، سوى كتابٍ واحِدٍ. ما كان يتغيّرُ هو علامات الترقيم وآثار عقدة الإيقاع على غير عدّ، ثُمّ التجويف الذي يلزم لشاهدة القبر، ولأصيص الأزهار إذا وُجدت.
(3)
في بداياتي الشّعرية كنت ضيفًا في مقصورة الرومانسيّين، ثُمّ فردًا في جمهرة “التمُّوزيين” حين كان الهتاف وكان العصر يُلْهينا بالإجماع الكاذب، ثُمّ منصرفًا إلى يتامى الطريق وشُذّاذ آفاق الرؤيا والقلق المكين، دون أن يصل الأمر إلى حدّ الهوس أو العدوى، وإلا لكان ما كتبتُهُ من شعر إلى اليوم ليس لي إلا على سبيل الادّعاء. لكن تعلّمْتُ – وما أزال – من تجاربهم ومن تجارب غيرهم من أصقاع وأزمنة متباعدة ما هو شخصيٌّ ومتعذّرٌ تحقيقه ضمن الجوهر الإنساني الهشّ، والتقطتُ من مغامراتهم ورؤاهم الإيكاروسية وسط مشاهد الخراب ما يمكن أن نسمّيه بسياسات الشعر؛ حيث اهتديتُ بعماي ويأسي، وعبر رهان الغيريّة، إلى متنبّ آخر، وشابّي آخر، وسيّاب آخر، ولوركا آخر، ودرويش آخر، وماغوط آخر، و”موريسون” أخرى.. إلخ؛ فأنا أقرأ وأعاود. كما انتبهتُ إلى أنّ لا معنى للالتزام خارج الشّعر أو لا يشرط بنداء كينونته الخاصّ، بل لا شِعْرَ بعين واحدة للشِّعر نفسه.
(4)
الخطر الوحيد على الشِّعر هو الشعر نفسه، عندما يصير ضَرْبًا من الموضة ورجم الغيب. لقد ضاق الأفق ببريق الحوادث والألغاز والألعاب النارية والفذلكات الحاذقة ونداءات الباعة تحت هذا المُسمّى أو ذاك، وضجّتْ بالشعراء أسواق التكنولوجيا، وأفواههم على كلّ باب. لكن الشِّعر لا يخطئ مواعيده التي تأتي في وقت الندرة، ويتلألأ من أمكنة العزلة الباهظة التي يمتحنها شعراء بهم تزهو الشعريّة العربية بين الشِّعريات، بقدر ما هم يزرعون في عروة الزمان منحة الجمال، ويقتسمون الإنساني الهشّ والمنبوذ في أوقات اليأس، بل يضيفون إلى شرط الكلام ما به يظلّ ضرورةً وسط موجات الأصوليّة العنيفة من كلّ مَذْهبٍ ونِحْلة.
هؤلاء الشعراء – يجدر بي أن أسمّي عشرةً منهم- قد نَفّسوا عن العربية وأنقذوا عبرها وادى عبقر الذي ما زال يتدفّق منذ عهد طويل. لكن ما يلفتني في شعرهم أنّ المخيّلات التي تُحرّكه وتستضيء به لا تصدر أزيزًا، وليست مأخوذة بالهتاف والبُهْرج البرّاق؛ فهو شْعْرٌ استراتيجيٌّ، وخفيض النبرة، ومسكون باللامرئيّ، وجوهره يتوالد دائمًا من صميم مآزق الوجود وأنقاض الواقع، ومن سياساته التي لا تخذل، هنا والآن.