ما الذي سيراقبه الأخ الأكبر الآن؟
يحيل العنوان الثاني أعلاه إلى ما كان متداولا من قبل في زمن يبدو سحيقا حسب ما استحدثته التكنولوجيا الرقمية، كتعبير يحذر به البعض الآخرين بضرورة توخي الحذر عند الكلام وعدم الخوض في البوح الذي قد يؤدي إلى الهلاك. الثورة بالمعنى الذي أورده الفيلسوف ميشيل سير عند حديثه عن الثورات الثلاث التي عبرت بالإنسانية من مرحلة إلى أخرى، فالثورة الرقمية جاءت بعد ثورتين: الثورة التي حدثت بفضل اكتشاف الكتابة والثورة التي أعقبت اختراع المطبعة. إذن يظهر جليا أن جملة ” للحيطان آذان” فقدت كل فاعلية في ظل الرجة المعلوماتية والانفجار الهائل الذي أبانت عنه الشبكة العنكبوتية عبر ما اصطلح عليه بالسوشيال ميديا من فيسبوك وتويتر ولينكدان ويوتيوب وواتساب وأنستغرام وسنابشات… هذه السوشيال ميديا التي يتم تعريفها ببراءة نظرية عجيبة على أنها “جماع الخدمات التي تمكّن من تطوير الحوارات وتمكّن من تقوية التفاعل الاجتماعي بواسطة النت أو في وضعية حركية”.
هي تجربة علائقية بالأساس تفترض لزوما كما في أيّ علاقة إنسانية حوارية التعريف بالذات قبل كل شيء. غير أن الأمر يتجاوز التعريف الكلاسيكي بما أنه يتناول علاقات حوارات ممتدة في الزمن والمكان، وليست مرتبطة وجوبا بمن نعرفهم لحما وشحما.
وبالتالي فكل شيء صار متاحا بشكل واسع، ومستباحا على نطاق لا يثير الكثير من الحيطة، بل لا يثيرها إطلاقا لدى شريحة كبيرة من الناس الذين يستعملون النت في كل ثانية وفي أيّ بقعة من الأرض. وهذا الاتساع الهائل، ثم هذه الاستباحة المستمرة، لهما طابع ديمومة لا تنتهي. طبعا الحديث هنا يتعلق بالخصوصيات الفردية وبالحميميات الشخصية والعائلية والمهنية، وأيضا تلك المتعلقة بالمحيط بدءا من الحي السكني إلى الوطن الجامع، أي أن هذه المواقع صارت مسرحا لحياتنا اليومية.
وبالتالي لم يعد السرّ سرّا، كما قال الكاتب الفرنسي باتريك موديانو الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1914 “لقد غزت مواقع التواصل الاجتماعي الجزء الحميمي والسري من حياتنا الذي كان إلى وقت قريب ملكا لنا. السر الذي يمنح عمقا للناس ويمكنه أن يكون موضوعا روائيا”. ويبدو الأمر أكثر إدهاشا واتساعا من ناحية سلبية بكون هذين التوصيفين لا جغرافية محددة لهما، بما أن العالم الذي تصفه شبكات النت ذو صبغة افتراضية ورقمية.
الغريب أن هذا الافتراضي مبنيّ ومؤسس على الواقع الحي الملموس وعلى الجغرافية الفعلية إلى حد أنه صار “هو الواقع الحقيقي” كما قال الفيلسوف الفرنسي ليك فيري، وذلك بما يعقبه من آثار وأفعال من طرف جماعات كاملة في مجتمعات دون أيّ تمحيص أو تحقق مما ينشر. وهو ما يثير القلق حتما وبشكل مشروع، فلا محدودية الافتراضي تتغذى مما تنهله أو “تمتصه” دون توقف من الواقعي الذي “يتحكم” فيه إراديا طبعا وظاهرا الانسان من خلال ما يأتيه من سلوك وتصرف لم يجبره أحد على فعلهما، وذاك عندما يدلي بكلام ويرسل صورا ويسجل حديثاً ويملأ استمارة شراء أو طلب عمل أو انخراط أو أداء، وعندما يحكي أو يطلب أو يشكو، أي كل الأفعال التي تدل على المشاركة التي تبدو بريئة ومجانية وغير ذات أثر غير تنمية الذات وإشهارها وإعلانها لنفسها على نطاق يريد أن يكون أوسع إلى أكبر حد ممكن.
هذا ما دام هناك من يمنح إمكانية ذلك. أي وجود هذه الشركات المنضوية حتى مسمى السوشيال ميديا المذكورة أعلاه. فكيف لهذا الإنسان الذي كان يتحصّن خلف الجدران ويتهيّب من نشر ما يتعلق به على الملأ وفي الفضاء العام الذي انتقل إلى آلة بحجم الكف يفعل ذلك طواعية؟ بطريقة سهلة ويسيرة التناول في كل مكان وفي أيّ لحظة؟
فالسؤال الذي وجد جوابه فيما بعد، والمتعلق بمآل كل ما ينشره المرء عن نفسه من كمّ هائل من المعلومات، ما الفائدة التي تحوزها مقاولات الاتصال العنكبوتية من تقديم خدمات بلا مقابل مادي ما. هذه المجانية التي أثارت الاستغراب في البداية، قبل أن يكتشف مستخدمها الفَرِحُ بها وبما تمكنه من تحقيقه بأنها مجانية ظاهرية، فـ”المنتوج الذي تبيعه هو هذا المستخدم ذاته”. منتوج/مستخدم مكنها من التوفر على مواقع حصينة قوية في البورصة الأميركية، بما أنها أميركية؟ هذه الأميركا التي نعرف أنها وقبل الثورة المعلوماتية كانت دائما سباقة بشكل لا يضاهى عالميا إلى حيازة المعلومة في كل أقطار العالم ولو كان جزيرة مفقودة في المحيط الهادي. المعلومة التي تساهم في بسط سيطرتها اقتصاديا على نطاق واسع.
الفائدة هي هذه: لم تعد هناك حاجة إلى التنقل، المعلومة تأتي بنفسها. الأداة فقط هي التي تغيرت وصارت ذات فعالية قصوى وتتميز بتحقيق نتائج في اللحظة والحين. الأداة التي طوّر العلم من أدائها عبر برمجة تخزين المعلومات وترتيبها وتبويبها وتقسيمها وتحديد ما تتضمنه لكي تُستعمل لاحقا اقتصاديا وبالتالي سياسيا وإن بشكل مباشر.
ويتكثف هذا العرض أكثر ولا فكاك منه بتاتا مادام أن الارتباط بمواقع التواصل الاجتماعي ضرورة حياتية لا محيد عنها في العصر الحالي. هي جزء من النسيج الحياتي اليومي لكل إنسان في أيّ مكان، خاصة وأن لها ايجابيات قوية لا يمكن التغاضي عنها بما توفّره من خدمات على جميع المستويات.
الأخطار والاختلالات
هي علاقة خدمة مقابل خدمة، لكن مع اختلال أول بميل توازن قوي لجهة مواقع التواصل الاجتماعي بطبيعة الحال. إن المستخدم الذي يفصل “كرونولوجيا” متجددة حول ما يتعلق بشخصه بجعلها عمومية وتغذي الموقع الاجتماعي المُدمَن عليه أو المُستعمل بشكل أولوي خاصة حول اهتماماته والأشياء التي يفضلها وما يثيره وما يعجب به، أي كل تلك المعلومات التي يمكن توظيفها من طرف شركات اقتصادية تسعى للحصول عليها وتؤدي الثمن اللازم لذلك. هذا دون طلب الإذن بشكل من الأشكال، رغم ميثاق الحفاظ على الخصوصية الذي تلتزم به هذه المواقع الاجتماعية المشهورة.
ورغم تأكيد هذه الأخيرة بوضوح في صفحاتها، خاصة موقع الفايسبوك، على ملكيته لكل ما ينشر صورا وكتابة وصوتا، وعلى حقه في بيعها لمن يريدها. إنها تملك حسب ما أعلن عنه على “ملفات رقمية” جاهزة للتوظيف والاستغلال. الأخطر أنها تظل لمدة طويلة ولا تندثر قط.
واختلال ثان يمس الخصوصية والحميمية كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفا. وهنا يكمن الخطر الذي تخفيه جاذبية إرضاء الذات التي لا تقاوم ولا تردّ والتي تمنحها مواقع التواصل الاجتماعي. فهي قد تسرّع الانهيار العصبي، والقلق الحاد من جهة. ومن جهة ثانية فهي قد تشجع بكل سهولة التحرش المرضي من طرف أشخاص ذوي نوايا سيئة أو فقط في أنفسهم مرض. هذا مع ما قد ينتج من الاستخدام والمبالغة فيه حد الإدمان من فقدان الثقة في النفس وفي القدرات الشخصية وفي أهمية الفعل الذاتي عبر ما ينعكس من ردود عقب الصورة الذاتية المراد تسويقها للآخرين. هي أخطار حقيقية تدعو للكثير من التساؤلات التي تجب الإجابة عنها.
محك للأخلاقي والثقافي
ومن المنطقي حد البداهة البليدة أن الأمر لا يخص هذه الشركات، بل يمتد إلى الأقرب الأقربين وإلى البعيدين، من هؤلاء الذين كانوا يطلقون الآذان والذين لم يعودوا في حاجة إلى الاتكاء إلى جدران، بل فقط الدخول إلى حساب الشخص المراد تقفّي حياته وتتبع مساره، تبعا لحساب شخصي محض بعد “أن منحت مواقع التواصل الاجتماعي الحق في الكلام للأغبياء كي يدلوا بدلوهم في نفس مستوى شخص حائز على جائزة نوبل” كما باح بذلك في تعبير صار شهيرا الكاتب الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو. كما تبعا لحساب جمع خاص أو حكومي مثلا كخدمة مطلوبة لذاتها لا تتوخى الربح المادي أساسا بل السيطرة على الفرد الموضوع تحت المراقبة.
لا يقتصر الأمر هنا على النرجسية فقط التي تميز الإنسان كطابع، والتي تظل طبيعية ومشروعة إن بقيت في حدود معقولة، ولا على الاستعراضية التي تجعل الفرد يتوق إلى أن يكون معروفا بهذا القدر أو ذاك وينال التقدير. فحين يظل هذان المظهران في نطاق المقبول والمعقول، يبقيان سلوكين إنسانيين، في ظروف عادية.
لكن مواقع التواصل الاجتماعي بقوة جاذبيتها مسحت وأزالت الحميمية، فمنحت مساحة المبالغة في الأمر بشكل “طبيعي” إن صح التعبير. خاصة وأن الأمر لا يتطلب مجهودا كبيرا ويتم في الخفاء: نشر خصوصيات الذات في المقام الأول ثم مقارنتها في المقام الثاني مع خصوصيات الآخر عبر آلية التلصص، بشكل إرادي أو لاإرادي. إنها عملية سلوكية تتم باستمرار وبسرعة فائقة بسبب الاتصال الذي لا ينقطع عبر النت، وهو ما لا يدع كثير وقت لما يشبه التقييم أو لأخذ مسافة أو مهلة كي يحصل تدارك التفكير إيجابيا وتقدير المحصلات السلبية.
التلصّص بمعنى الفضول الذي يتجاوز حدوده المعرفية والاستطلاعية ليُصْبَغ بما يقترب من الهوس الإدماني. وربما هذا ما عنته الكاتبة الفرنسية كارين تويل التي أغلقت كل حساباتها في المواقع الاجتماعية بدعوى “أنها تفشي الأسوأ فينا”. وهو ما لا يتفق معه كتّاب مشهورون وجدوا في المواقع الاجتماعية ما يحقق لهم نفوذا واسعا ولا يجدون حرجا في استعمالها مثل الأميركيتين جويل كارول واتس وباتي سميث والبرازيلي باولو كويلهو.
ما الذي سيراقبه الأخ الأكبر الآن؟
كل ما ذكرناه أعلاه يؤدي إلى حقيقة لا مراء فيها: كل شخص مرتبط بموقع من المواقع الاجتماعية أو بأيّ تطبيق كما كان نوعه يترك أثرا لا يمحى ولو أغلق كل حساباته الإلكترونية، لسبب وحيد هو أن ما نشره في النت أو في متاهات الشبكة العنكبوتية يتناقله الآخرون الذين يوجدون في إحدى لوائح علاقاته برضىً منه أو دونه. أي أن له “وجودا رقميا” فعليا ومتفاعلا ولو دون أن يبغي ذلك. وهذه الآثار المخلفة تعرّضه بطبيعة الحال للمراقبة والتتبع في أغلب الأحيان.
وهكذا تحققت بشكل واسع تنبؤات الروائي الإنجليزي جورج أورويل صاحب رواية “1984” الذي جعل من “الأخ الأكبر” أسطورة حية دون أن يدري أنها ستتجسد مستقبلا بطريقة مختلفة وبأثر جد كبير. فاثنتان من هذه التنبؤات أصبحتا ملموستين بشكل من الأشكال. الأولى تتعلق بخلق مجتمع المراقبة الكليانية الشاملة، والثانية هي اختلاق اللغة الجديدة المخادعة، أي تلك اللغة التي تتقلص عبر كلماتها مساحات التفكير.
قد يبدو هذا الأمر مبالغا فيه، وهو كذلك حتما، لكن التشابه ما بين عوالم قُطر “أوسيانيا” الوارد في الرواية وعالمنا الرقمي المعاصر وارد بوضوح مع قياس الفارق طبعا. لكن هذا لم يمنع الباحثين من استحداث أوجه التشابه. هذا ما ورد مثلا في ما اصطلحت على تسميته الكاتبة والباحثة الأميركية شوشانا زيبوف بـ”رأسمالية المراقبة” في كتاب معروف لها أثار نقاشات واسعة، والذي قامت فيه بتحليل أثر المواقع الاجتماعية على مستقبل الناس في الغرب خاصة، ومن ثم على التصوّرات والأساسيات التي قامت عليها المجتمعات الغربية: الاستقلالية الذاتية والسيادة الديمقراطية، مادامت هذه المجتمعات قد غزتها قيم السوق الرقمي المسيطرة بشكل لصيق وحثيث من خلال ليس الأخ الأكبر الذي “يراكم” بل ما سمته بـ”الآخر الأكبر”.
والحق أننا لا نستطيع سوى أن نلاحظ أن الرقمي هو قدر لا فكاك منه، هو المرادف الواجب والشرط الأساسي للعيش في عصرنا الحالي، بسلبياته وإيجابياته. في هذا الإطار نورد تعبيرا قديما آخر لتوصيف ما نحن بصدده: الفأس وقعت في الرأس.