ما فرّقه المسرح لن يجمعه إلا الله
إنّ قبولنا بواقع أن الشعر يكرّم ويرتقي مؤخراً بفعل الجوائز الأدبية، (جائزة نوبل كمثال في السنوات الأخيرة) ليس إلا إقراراً منا بواقع أن تلك الجوائز بالفعل هي الفيصل والمؤشر الصادق في تفاضل الفنون الأدبية في عالمنا المعاصر، وفي ذلك حكماً تجاهل كبير لصوت البشرية الشامل من القراء والمقتنيين للأعمال الروائية، فالمفاضلة بين الشعر والرواية كانت ولا تزال مسألة شدّ وجذب منذ عشرات القرون بين النقاد والفنانين وصناع السرد والنثر والشعر، فمنذ انفكاك الرواية المسرحية عن الشعر، بعد أن كانا يندرجان في صنف واحد هو المسرح، الذي كان يُكتب في عهد اليونان الإغريق والرومان وحتى الإنجليز الإليزابيثيين وصولاً إلى ملحمة فاوست التي كتبها الأديب الألماني غوته ونظم تراجيديتها في فصول من الشعر مثله مثل الكاتب الإنجليزي ذائع الصيت وليم شكسبير الذي كتب أعماله التراجيدية بالكامل في صورة أشعار أليكساندرية متنقلاً بين بحور الشعر الإنجليزي، لتشكل أعماله أحد أهم الروايات التراجيدية والكوميدية في التاريخ.. فمنذ انفكاك الشعر عن الرواية المسرحية، بات الصراع محموماً لإثبات أيهما أقوى وأيهما أبقى وأفضل.. في تناحر عاشقين انفصلا وبقيا يناكفان بعضهما البعض.
إنه زمن الرواية، دون أدنى شك، الرواية التي باتت ديوان الشعوب، ومرآة صورتهم في أوراقها، فمن فصل الرواية عن الشعر، لم يكن يفعل سوى أنه بسّط السرد ليجعله أقرب إلى الناس، ولم يكن يفعل سوى أنه نزع عن اللغة مجازيتها وصورها الرمزية من أجل أن يطلق العنان للفكرة على حساب الزخرف اللغوي والإيقاع الشعري والقافية المتحكمة بالشكل والصورة.. الرواية هي ملحمة البسطاء حيث لا مكان للاختزال، وملحمة المهمشين والمهزومين التي يحتاج شرحها لتفاصيل وفيرة، وما أكثرهم في زمن العولمة المعاصر، حيث لا رفاهية لدى المهمّشين لفك طلاسم الشعر وضبط ايقاعه ووزنه.. رغم أن الزمن هو زمن السرعة والمعاني السريعة، حيث لا وقت للإطالة، لكن العشاق يجدون وقتهم في تفاصيل الرواية مثلما يجدون الوقت للوقوف ساعات طوال أمام المرآة بحثاً عن شعرة بيضاء في الشعر أو اللحية أو حاجب غير منتظم في الوجه، الرواية هي سردنا في مواجهة حياتنا.. كل تلك التفاصيل تفتح الباب لمبيعات هائلة للرواية في مقابل اضمحلال الشعر في منطق السوق.. فالأدب كبضاعة تسويقية في زمن العولمة لا يؤمن سوى بالأرقام، وكم يجد الشعراء من صعوبة في نشر ما يكتبون، حول العالم بينما تنشر سنوياً ملايين الروايات/المرايا باحثة عن وجوه أصحابها المتناثرين حول العالم.
مذ انفصلت الرواية عن الشعر فوق خشبة المسرح لم يلتقيا مجدداً ومضى كل منهما في طريقه، طريق للنخبة الشعرية، وطريق للجماهير الضائعة الباحثة عن معنى لوجودها، ومنذ سقطت التراجيدياً بسبب فناء البطل التراجيدي في عالمنا المعاصر، بسبب التطور العلمي وتقدم علم النفس والتكنولوجيا، حيث بات صراع البطل التراجيدي مع الآلهة ضرباً من السذاجة لانتفاء الإله على الطريقة النيتشوية، وبات سقوط البطل التراجيدي الذي لم يعد موجوداً في زمننا الحديث، بفعل الشك العلمي الذي قتل كل روحانية الغيب وخضوع للضعف البشري أمام الخالق، وربما تحديه.
من تلك النقطة تلاشت التراجيديا في القرن العشرين أو تضاءلت حتى اقتربت من العدم، وانفتح الباب للرواية النفسية التي غاصت في ثنايا الإنسان البسيط، وليس ذلك البحث في حيوات الملوك وحاشيتهم والآلهة وأنصاف الآلهة. الرواية هي ديوان الشعب ديوان الإنسان العادي ومرآته، والشعر هو ديوان المسترخين.
ومع انتفاء التراجيديا، وجد الشعر نفسه وحيداً، لا يمكن له الاندماج مع الرواية المعاصرة، السريعة النفسية، ذاتية أو الوجودية، أو الوصفية. فاندفع القيمون على الثقافة من أجل دعم ذلك الفن النبيل الذي أنشده الأنبياء وارتقوا به وصولاً إلى الحكمة والدين. اندفعوا لدعمه وتدعيمه في مواجهة حركة السوق القاسية ضده.. من أجل هذا لا بد من التدعيم النفسي له بالجوائز.
وهذا لا يعني أن الشعر منزل ذو حائط منخفض، ولا يعني أن رواج الرواية يعني عدمية للشعر، بل وبكل تأكيد فإن الشعر العالمي وصل إلى مطارح هُلل له فيها لدرجة البكاء، ووصلت تصاويره إلى بقاع غير مسبوقة، ولكن يبقى لكل مقام مقال، ولكل عصر ديوان.