ما هي الثقافة؟
وأول من استخدم مصطلح الثقافة في العربية هو سلامة موسى في عشرينات القرن الماضي كدال على النشاط الفكري والإبداعي. والكلمة «ثقف» في أصلها العربي هي إعداد أداة من مادة خام كي تكون سلاحا (لا زرعا)، فيقال: ثقّف السيف أيّ حدّه وأقامه، أو ثقّف العود ليكون سهما أو رمحا، فالأصل في المصطلح الغربي هو التربية المعرفية كتربية الزرع وهي عندنا من صناعة السلاح وفن الحرب «إحنا بدعناه يا مجاهد في سبيل الله!» بحكم اختلاف بيئي بين خصب وبداوة.
وفي علوم الاجتماع يدلّ المصطلح بمعناه الواسع على مجموع إنتاج العمل الإنساني المجتمعي المتوارث من جيل إلى جيل، وطرحت الأنثروبولوجيا نظريات حول العلاقة بين التطور البيولوجي لدماغ الإنسان وبين التطور الثقافي كما في نظرية النقطة الحرجة عند الألماني كروبير التي تذهب إلى أن دماغ الإنسان بلغ تطوّرا أوصله إلى نقطة اكتسب عندها قدرة صنع الأدوات والتحكم في أصواته ليبتكر اللغة ويعطي دلالاته الخاصة لأشياء الطبيعة وبدأت الثقافة مع هذه النقطة.
وعرّف الأميركي تايلور الثقافة بأنها المجموع المعقد والمتداخل من معرفة وعقيدة وفن وأخلاق وقانون وعادات وتقاليد كأساليب للعمل واللهو والإنتاج يكتسبها الفرد من عضويته في مجتمعه.
وفي القرن العشرين أضاف كروبير ولنتون وكلايد للتعريف أن الثقافة اهتمام بالقوالب والأشكال التي تتخذها كل ثقافة للتعبير عن نفسها بأساليب علم ونقل وحفظ يستخدمها كل مجتمع وأساليب تطورها عبر الأجيال، وهي أيضا معبرة عن نفسية الشعب صاحب الثقافة.
لكن هذه القوالب والأشكال يمكن أن تصبح قيداً يمنع التطور الثقافي خارج وعائها. ووسائل نقل الثقافة هي عملية التعلّم التي تحدّد مدى العمق نحت واتجهت نحو التجريدي النظري ومدى تأثيرها في الجهاز العصبي للمتعلم، فالتعليم الشفاهي يركّز فقط على الذاكرة وجودة الحفظ بما يؤدي إلى الجمود وكبح التطور الثقافي، بينما الكتابة تؤكد على العامل الفردي وخصوصيته فيطلق كل كاتب العنان لصفاته الفردية، والتعليم عن طريق الصور والرؤية يزيد من ملكة الخيال والقدرة على توظيفها، وبهذا الشأن يقول سول تاكس إن النشاط الثقافي «صنع الأدوات، اللغة، أسلوب التعليم، التأثر، وتنتهي النظرية إلى أنّ نوع الثقافة يتأثّر بالثقافة السّائدة، والجهاز العصبي النشط من جانب آخر ينشط الثقافة ويطورها.
وفي 1948 صاغ الأنثروبولوجي الأميركي هيرسكوفيتز مصطلح «احتواء ثقافي» للدلالة على عملية تعلّم الأفراد ثقافة مجتمعهم، عادات وأخلاق وعقائد وقيم وطقوس وذوق فني. أساليب يعتبرها المجتمع معبرة عن هويته، فيتم إعداد الفرد لتقبّل ثقافة مجتمعه حتى تصبح عضوا في المجتمع وابنا معترفا به من المجتمع. وعملية الاحتواء تلك تتم بشكل تلقائي وضروري بما يضمن للمجتمع تماسك أجياله واستمراره كمجتمع له خصوصيته الثقافية، كما يضمن وجود ثقافة مشتركة بين كل مكونات المجتمع.
ومن حقّنا هنا أن نتقدم بإضافتنا بداية من فهمنا بأن تعريف الشيء بمكوناته ليس تعريفا إنما وصف، كتعريف المطرقة بأنها خشبة وحديدة أو تعريف السيارة بأنها هيكل وموتور وكراس، والتعريف السليم يكون بالوظيفة فتعريف سيد القمني لا يكون بشكله ومنظره بل بوظيفته ككاتب.
وقد ظهرت الثقافة مع فجر المجتمع البشري بنشوء الأسرة وثقافتها مع ثقافات الأسر الأخرى المجاورة، لتكون ثقافة قبيلة ثم ثقافة مجتمع. فالأسرة من فجرها لها تقاليد وعادات يتم توارثها شفاهة وتقليدا لتحميها من الفناء. فإن لم تعلّم الأسرة البدائية أبناءها الأكل السليم وتمييزه عن السام، أو إن لم تعلمه الخوف من الضواري، أو إن لم تعلمه المعاونة في العمل، أو إن لم تعلمه إعمال التفكير في الصراع مع البيئة للانتصار عليها، أو إن لم تعلمه قواعدها القيمية ونظام العلاقات التراثي، فإنه سيهلك وتتعرض القبيلة للفناء، والفارق بين الثقافات يعود إلى عوامل عديدة أهمها الفوارق البيئية التي تسهم في التقدم أو الثبات أو التخلف.
فالثقافة هي دستور للحياة لتمكّن المجتمع من الحياة الآمنة في بيئته ومحيطه، وكل أفراد المجتمع شركاء يصنعون ما يجعلهم ينتصرون على البيئة وتسخيرها لمنفعتهم، وتضمن الوئام بين أفراد المجتمع، لذلك صنعوا اللغة ليتواصلوا بها، وصنعوا الدين لوضع نظام جزائي للجرائم التي تتم بعيدا عن عين المجتمع، ووضعوا أنظمة قانونية جزائية لمن يضبط متلبسا بالإساءة للمجتمع بالسرقة أو القتل أو غيرها، فكل ما هو فكرة تعمل على حفظ النفس والمجتمع وتطورهما هو ثقافة.
حسين جمعان
ولكل الشعوب لغات وفنون وهندسة معمار وتخصّصات وتوزيع للعمل وقواعد للإدارة ونظما للحكم وعلاقات اجتماعية منضبطة، والاختلاف بين المجتمعات يكون في تفاصيل هذه العناصر و درجة بساطتها أو تعقيدها. فاللغة تختلف لفظا ومعنى، وكذلك تركيب الجمل والقواعد النحوية والصرفية، لكنها لا تغيب عن أيّ مجتمع ولو بلغة الإشارة. فيمكن أن نجد الهندسة مع الإنسان البدائي الذي رتّب أعواد الحطب ليمرّر الهواء من خلالها ليتمكن من إشعال النار أو ترتيب أعواد الخيزران والعصي وأوراق الشجر ترتيبا هندسيا بشكل يجعلها متماسكة لتصلح سكنا آمنا يصمد أمام البيئة، وهو الفن الذي سيختلف عن بيئة الأشجار الخشبية في الغابات وعن بيئة النهر والمعمار بالطين أو بالملح أو بالثلج على حسب بيئته.
والثقافة الحالية تطورت عن سابقاتها وتستبطن في داخلها بقايا الثقافة البدائية، فالفكرة الثقافية ترفض الموت لذلك نجد الثقافة البدائية التي أنشأتها الغرائز كالمطاردة الصيادة والهرب من الأخطار تظل حتى الآن أجمل وأحلى ألعاب الطفولة بالاختفاء والمطاردة والمفاجأة، وظل الصيد ثقافة راقية ولعبة الملوك المفضلة، وتظل أكثر الأكلات بدائية هي الألذ (اللحم المشوي على النار).
وتأثير الثقافة بالاكتساب ذو اتجاهين فهو علاقة تفاعلية ديناميكية بين اثنين كليهما حيّ فاعل تأثيرا وتأثرا، وإن اختلفت قوة ذلك التأثير وفعاليته من جانب تجاه آخر، فكما تؤثر الثقافة في الفرد وتطبعه بطابعها وتضغط عليه ليكتسبها وتشكله بما يناسبها فإن الفرد يؤثر فيها إذا كان متفردا بالقدرات والذكاء بالحذف منها والإضافة إليها.
لذلك تخلق الثقافة شخصية الفرد إما عبدا أو متمردا أو مبدعا، عنيفا أو مسالما، والتطور الثقافي هو ناتج زواج الثقافات والتهجين، وأيّ ثقافة لا تموت إنما يمكن أن تتفكك لتدخل عناصرها في ثقافة أخرى، والثقافة التي لا يمكن فقدها هي التي أنشأتها الغرائز. فأساليب البقاء واستمرار النوع يظهران بدون تثقيف، أما الثقافة التي تتفكك وتدخل في ثقافات أخرى فهي المكتسبة، ولأن الثقافة بنت البيئة فهي لا تنزل من السماء حتى بفرض وجود عالم غيبي فليست هناك ثقافة، لأنه لا توجد بيئة تدفع للصراع طلبا للحياة واستمرارها.
فعدم وجود البيئة يؤدّي إلى غياب الحياة والموت، وبعدمية الموت ينعدم صراع البشر مع البيئة أو مع بعضهم لاقتسام خيرات البيئة، وفي عالم الغيب المفترض لا ثقافة ولا مدارس ولا جامعات ولا مساجد ولا كنائس ولا حلقات وعظ ولا حاجة هناك لعلوم أو فنون أو ابتكار أو اختراع، وحيث لا عمل هناك فلا مناصب ولا أحزاب ولا بيت مال ولا ضرائب فهذه كلها مخترعات صراعية لا وجود لها في عالم الغيب الذي هو والعدم سواء ليس فيه طموح ولا أمل لتغيير أيّ شيء.
وتطورت الثقافة مع تطور المجتمع البشري منذ عصر الصيد والمشاع إلى حرفة الرعي في الوعر والصحارى وحرفة الزرع في المناطق النهرية، ثم إلى المجتمع الصناعي ولكل مرحلة ثقافتها.
فالثقافة مثلها مثل البناء كل دور تعلّيه يقوم على هيكل البناء التحتي ويأخذ ذات الرسم والشكل، وظلت هذه التعليات في كل المجتمعات حتى تمّ اكتشاف المنهج العلمي في التفكير الذي صنع عصر النهضة الذي غيّر الشكل الهندسي للثقافة بالكلية وانتقل إلى وضع أساس جديد وهيكل جديد وكل جديد مخالف تماما للقديم.