متى تشرق شمس الرواية البوليسية العربية؟

تسعى الرواية البوليسية إلى الإجابة عن سؤال من فعل هذا؟ وتهدف إلى شرح جريمة، تتعدد أسبابها من قتل إلى انتحار مرورا بالاغتصاب أو السرقة.. وتتلاحق أحداث الرواية البوليسية وفق تلاحق تفاصيل التحقيق، الذي يقوم به ضابط أمن هو البطل الحقيقي. وتقوم هذه الرواية على قصتين: تلك التي قادت إلى الجريمة، ويجب إعادة تشكيلها أو تمثيلها، وقصة التحقيق التي يتبع القارئ تفاصيلها خطوة بخطوة.
الاثنين 2019/04/01
لوحة محمد الوهيبي

اعتبر النقد الغربي هذا الجنس الأدبي شعبيا، في البداية، وأدار إليه ظهره. لكن هامة كتابه (آرثر كونان دويل، وأغاثا كريستي، ورايموند شاندلر، وروث راندل، وجورج سيمنون، وفريديريك دار.. )، وجرأة لغتهم (اللغة الشعبية المضمخة بشعرية اليومي وحدّة تعابيره ومكرها..)، ومقروئية هذا الأدب (نشر فريديريك دار -المعروف أيضا بسان أنطونيو- 1.800.000 نسخة من رواية “تاريخ فرنسا”)، وجهود نقاد الأدب النبهاء… أدخله إلى رحاب الجامعة. بل أصبحت تقام للرواية البوليسية ندوات برحاب الجامعة، وندوات لدراسة عالم مبدع من كتابها.. وقد عرفت الرواية البوليسية تطورا لا مثيل له تمثل في ظهور اتجاهات جديدة (الرواية السوداء، رواية التشويق، الرواية البوليسية التاريخية…) ضمن الاتجاه العام، وأعلام جدد نحتوا لهذا الجنس الأدبي أبدع الآفاق (شيستر هايمز وواقعية الإرث النفسي للعبودية، داشيل هاميت ومدرسة “hard-boiled”، باتريسيا هايسميث ومدرسة علم نفس المجرم…). كما خلقت هذه الرواية البوليسية لنفسها أعوانا من مجلات (القناع الأسود…)، وسلاسل (الرواية السوداء، المربع الأسود…). فما وضع الرواية البوليسية في العالم العربي؟ ولنتساءل لِم لَم “تولد” في العالم العربي، وما أعاق النشأة والازدهار.. وما المآل؟

إذا أمكن القول إن الرواية ديوان العرب في القرن العشرين وأخيه الواحد والعشرين، فإن الرواية البوليسية لم تعرف ولادة حقيقية ولا ترعرعت في هذا الوطن الذي ترتكب فيه الجريمة بأنواعها كما تنمو الفطر. ولا نعدم نصوصا بقلم بعض الكتاب العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية (إدريس الشرايبي وسلسلة المحقق “علي”، وياسمينة خضرا وإن عجنها ببهارات مطلوبة غربيا: “الإرهاب”). ذلك أن اللغة الفرنسية تحقق نوعا من الاغتراب، وتسمح بتناول ما قد لا تسمح به “الذائقة” الأدبية أو “الروح” الاجتماعية! من مواضيع توجه إلى القارئ العربي والمجتمع باللغة العربية.

المسكوت عنه

لعل صعوبة نشأة هذا الجنس الأدبي باللغة العربية يعود بالأساس إلى أسباب منها أن المجتمع يعاني من وجود طابوهات لا وجود لها في أوروبا. في الرواية البوليسية يتطرق الكاتب المبدع بحرية إلى القضايا الجنسية (ومنها قضايا الزوج المخدوع، والقَوّاد، والمومس..) في حين أن الكاتب في العالم العربي كان يأخذ العمل الأدبي مأخذ الجد، وفق مبدأ الرواية انعكاس للواقع، والكاتب مهندس الأرواح يربي ويهذب ويزرع القيم الوطنية في الأفئدة!… وإذا تحدث عن هذا الموضوع معناه أنه موضوع حقيقي أو تراه يشوه وجه المجتمع. لا يتحدث في العالم العربي بحرية عن الزوج المخدوع لأنه غير موجود لأن النساء لا يخدعن أزواجهن! لن تستطيع الرواية ملامسة المواضيع الجنسية لأن الكتب ستكون في متناول الأطفال، أو أفراد الأسر.. ومعنى ذلك أنه لن يبقى شيء يمكن معالجته في رواية بوليسية كموضوع للكتابة والتشويق والإمتاع. ومن ثم لا يمكن أن تكتب الرواية البوليسية إلا بلغة أجنبية، إذ يصعب أن نرى رواية بوليسية حقيقية مكتوبة باللغة العربية.. كما قال لنا ذات حوار الروائي الراحل أحمد الصفريوي.

مجون اللغة

ولما كانت الرواية البوليسية تقترب من الفئات الشعبية فهي ستغوص نسبيا في قلب هذا العالم المتنوع والمتجدد، كما تغوص في لغاته أو دوارجه. وهي دوارج ضمختها هذه الفئات بروائحها وعرقها وعريها.. ومن ثم وجب أن تعكس الدوارج طبقات أصحابها وفئاتهم.. ووجب أن تضمخ العبارات الماجنة أو الفاحشة جسد الرواية.. وهو أمر قد “يتحاشاه” الكتاب (العرب) أو “ينزهون” أنفسهم عن الخوض فيه، أو لا يعرفون تفاصيله والدهاليز. فاللغة الدارجة أو الفصحى أو الأمازيغية أو الكردية عنوان هوية الشخصية طبقيا؛ جلده الذي لا يمكن أن يتخلص منه، أو يتنفس من غير وساطته.

ويبدو أن هذه العبارات الماجنة أو الفاحشة تتضاعف دلالتها الماجنة في اللغة العربية.. دليل ذلك ما حظيت به سيرة الراحل (الخبز الحافي) محمد شكري من عناية حتى اعتبرت ظاهرة في الأدب العربي وطالها المنع أحيانا.. كما طال ذات يوم “ألف ليلة وليلة” بأرض الكنانة لمسّها بالأخلاق… بينما كتبت كتب أشد جرأة في تسمية الأشياء بمسمياتها، وأصبحت تراثية بفعل الانتماء إلى الزمن الغابر، والأسبقية.. من ذلك “عودة الشيخ إلى صباه”، و”الروض العاطر في نزهة الخاطر”… وإن لم ترتد رداء الرواية. فلم يكن هذا الجنس الأدبي قد رأى النور يومها!

ولا يعني هذا الهبوط إلى قاع المجتمع أن يلغى من الحسبان تناول جرائم ذوي الياقات البيضاء كما سماهم عالم الاجتماع رايت ميلز، وإدوين ساترلاند فيما بعد. ولا نعدم أمثلة لذلك في روايات المبدعة حقا باتريسيا هايسميث.

درجة الرؤية

لوحة محمد الوهيبي
لوحة محمد الوهيبي

قد يشكل غياب الديمقراطية سببا آخر لعدم نمو الرواية البوليسية العربية وازدهارها. ولكنه أصبح ثانويا منذ زمن ليس بالقصير. فقد أصبح الكتاب العرب والكاتبات يكتبون بحرية لا يمكن إنكارها. وبالإمكان تناول كل مواضيع الفساد، إذ لا ينكر أحد وجود مظاهر تحيل عليه.. لا يوجد نظام عربي ينكر الفساد، ولكن الاختلاف يطال الأسباب… طبعا، قد لا يجري التحقيق مع المتهم بحرية ومسؤولية، وقد يعيق التحقيق التدخل، أحيانا، والرشوة التي تكاد تصبح طبيعة ثانية للإنسان في بعض البلدان العربية.. وكل قول هو حمال استثناءات.

ومعلوم أن المتردد على المحاكم أو على صفحات “قضاء” أو “محاكم” ببعض الصحف العربية يلاحظ عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم المتعلقة بالخيانة. لكن المتابع لما يحدث داخل مكاتب مخافر الشرطة ويتابع أصداء ما يحدث بين جنبات أرجاء المدينة التي يعيش فيها ويصيخ إليها يقف على ما لا يعرض على المحاكم من قضايا الخيانة الزوجية.. ويعرف الجميع أن الأزواج يسامحون زوجاتهم بالتنازل عن متابعتهن خشية الفضيحة داخل مخافر الشرطة.. قبل تقديم الملف أمام نظر المحكمة.. وهكذا فالخيانة واقع يتكرر مئات المرات يوميا، وممارسة القوادة واقع لا مفر منه.. بل إن الناس يشيرون بالأصابع إلى “الخائن”، في المدينة، و”الخائنة”. وإلى من.. ومن.. والفيلات التي تحتضن كل هذا النشاط الإنساني يعرفها المواطنون ورجال الأمن أيضا.. لكن..

جرأة الأدب

لكن.. أسئلة عدة تجد نفسها تتزاحم على اللسان، ويجب أن يفسح لها باب السؤال: هل يستطيع الكاتب (العربي) أن يدفع بمبضعه ليشق جلد المجتمع وينقب داخل الأحشاء بل ويعكس بعض ما يصل سمعه والشم والبصر؟ وهل بإمكانه أن يحشر مبضعه بين تلافيف ما سماه القاص المغربي أحمد بوزفور بـ”الأذرع السبع للأمن القصصي” ومنها الذراع العائلية؟ هل يستطيع الكاتب (العربي) أن يكتب بعض أسرته (لنتذكر ما حدث للراحل سهيل إدريس حين كتب عن الوالد)، أن لا يخضع “لقوانين” النقد ولا يطلب رضا عنايته (وهو يتحكم في الرقاب منذ حدد “عمود الشعر”)، أن لا يمارس النقد الذاتي (بل ويجتهد فيمارس رقابة الوعي على بركة الوجدان)؟…

قال فريديريك دار ذات مرة، هو المعروف بنقل وحل المجتمع إلى سطح الصفحات ليقرأها المجتمع، بل ويدمن عليها ويتضاعف إقباله: منعت ابنتي من أن تقرأ نصوصي قبل أن تبلغ العشرين من عمرها. هو الذي لا ترف له عين ولا قلم وهو يصف علاقات الجنسين، ويراكم الأفعال والكلمات التي تحيل على ذلك “الشيء”، وينحت كلمات ويستعير أخرى من اللغة العامية الفرنسية عارية تماما.. لكن ابنته أخبرته أنها أدمنت قراءة رواياته منذ بلغت الثانية عشرة من عمرها.

وإذا كان هذا أمر رجل متحرر، في بلد متحرر يؤمن بالفردية، فما واقع المجتمع العربي التقليدي في العمق، الحداثي عبر القشور من لباس، وفاكهة استهلاك يقذف بها الغرب وتسيل اللعاب وتصيب الجيوب بالإسهال؟ لعل ذراع الأسرة والمجتمع تحول دون الجرأة على الخوض في “وحل” بعض المجتمع، وتعكس حداثة الكتابة العربية التي تستعير الاسم ولا تأخذ بالشيء.

ولما كان التغيير جارفا بسبب التأثير الخارجي، الغربي منه والآلي، فالعالم العربي مقبل على تغييرات لا قبل له بها. يبدو بعض ذلك في الأعمال الأدبية التي تشجعها جهات رسمية أو شبه رسمية للدلالة على تحرر المجتمع أو تحديثه… من ذلك أننا نشهد منذ أكثر من عقد ظهور روايات تتعرض للحياة الجنسية، للمرأة كالرجل، وأخرى حمّل كتابها وكاتباتها عناوينها أسماء بعض المتع والأعضاء.. فهل يقتحم الكاتب (والكاتبة طبعا، ومهارة السيدات الغربيات أبرز من السادة! في هذا الحقل الأدبي) العربي قلعة الرواية البوليسية ويبدع التحف؟

لعل الكتابة الحقيقية هي زحزحة بعض المتعارف عليه بين القراء، والنقاد.. خلخلة ما تمأسس وأصبح تقليدا ترسخ عبر الزمن والكسل أي التقليد.. ولعل بعض ذلك هو ما أنجزته الرواية البوليسية (الأميركية والغربية) من خلال بعض الاتجاهات المشار إليها أعلاه.. فقد شقت طريقا جديدا، وعبدته أمام القراء والإدمان، والنقاد والتقريظ، وأكسبته مشروعية الانتماء إلى قلب حديقة الأدب وأبهى جانب منها. ثم ألقت آلة السينما كل سحرها على هذا الجنس (اللطيف!) وجلبت نحوه الكائنات البشرية من كل الأعمار نحو قاعات مكيفة، وشعبية، وفتحت أمامه الآفاق لغزو كل الأفئدة.. (ولعل في الإشارة إلى أنه تم إنجاز 280 فيلما للسينما والتلفزيون انطلاقا من مختلف روايات جورج سيمنون بعضا من دليل على ذلك).

لعل الرواية البوليسية تطلب نسج التشويق نسجا، بناء النص وفق الإمساك بنفس القارئ، معرفة قاع المجتمع وطبيعة الوحل، الانفتاح على دوارج الناس ولُغاتهم… لعل الرواية الواقعية (والسيرة الذاتية) كبحر الرجز، في ذلك العصر الجاهلي؟!…

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.