متى يبدأ التنوير؟
في القرن الثاني عشر للميلاد، كتب ابن رشد كتابا سماه ” فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، وتضمن الكتاب محاولة تبيان قيمة العقل، والتي -في نظره- لا تقل في الدرجة عن قيمة الشريعة في مقاربة مسائل المعرفة، بل هي تعادلها. اختار ابن رشد مصطلح ”الحكمة” وهو المصطلح الوارد في القرآن، بديلا عن مصطلح ”الفلسفة” بسبب ما عرفه المفهوم الأخير -في زمنه- من نفور واستهجان لدى الأوساط الفقهية، وذلك بالرغم من انتشار هذا المفهوم واعتماده في الكثير من الرسائل والأعمال التي سبقته تاريخيا.
عربيا وبعد رحلة نابليون إلى مصر 1798، لم يكن سؤال التنوير مطروحا لدى كتاب النهضة، بقدر ما انصبّ الاهتمام عندهم حول كيفيات ترجمة المنتوج الأوروبي والاستفادة منه في تصحيح المسار الاجتماعي والفكري الضعيف، الذي أنتجته سلطة الخلافة. لقد كانوا في حالة انبهار بعدما اكتشفوا أن شعوبا أخرى -لا تقاسمهم المعتقد- تصنع المفاهيم والقيم وتؤسس لجمهوريات جديدة. لقد تبين لهم -فجأة- أن العقل بمفرده في مقدوره أن يؤسس المستقبل انطلاقا من حسن الاستعمال. بتعبير آخر لم يكن لدى كتاب النهضة أدنى شك في الذات المؤسسة للمعنى وغاب عنهم مساءلتها.
ثم حدث أن علّقت آمال كبيرة على الاختيارات الأيديولوجية في صناعة مستقبل جديد، وكانت الرؤية الشمولية هي المنهج لسنوات طويلة قبل أن يصطدم العقل العربي مرة أخرى بالجدار ويكتشف هزل تلك الاختيارات وابتعادها الكبير عن حل المشاكل الفعلية.
التنوير مشروع ضخم ومتشعب، من المستحيل أن تتحمله الرؤية الأيديولوجية أو تستطيع أن توفر له ما يحتاجه لارتباطها الشديد بالحاجة لا أكثر. إن أكبر عائق على أيّ مشروع تنويري هو في اختزاله ضمن سياج الرؤية الأيديولوجية كونها تتأسس على يقين زائف وعلى الوهم والإقصاء بأنواعه الأكثر تقدما. التنوير قبل كل شيء هو في شرعية السؤال وبلا قيود، هذه الشرعية هي ما لا تقبله الأيديولوجية السياسية أو الدينية.
التنوير هو في انتهاء الوصاية على الحرية والاختيار، وفي تفطن الناس إلى ما يمتلكون من قدرات نفسية تؤهلهم على تبنّي ما يحبون من دون وسيط. يبدأَ التنوير عندما يقتنع الجميع، على اختلاف انتماءاتهم الإثنية واللغوية والفكرية أنهم لا يمتلكون كل الفضاء الاجتماعي بل هم ًأجزاء فيه لا أكثر. يبدأ التنوير عندما يعيد الجميع التفكير فيما ورثوه من أحكام وقيم ظلت مترسبة في عقولهم من دون أدنى حلحلة. يبدأ التنوير عندما يقتنع الجميع بأنه لا يمتلك كل الحقيقة، بل حقيقته هو فقط.
إذا كان لوثر في القرن السادس عشر للميلاد قد أسهم في تقويض سلطة البابا على العقل والمعتقد، فإننا عربيا نحتاج إلى ألف لوثر لأن حجم مشاكلنا الموروثة عن القرون الوسطى مضاعفة مرات.
يبدأ التنوير عربيا عندما نستطيع التخلص من ثقافة القطيع وتلك الحاجة الملحّة إلى راع أبله مستبد، يجب الاقتناع بالفردية والاختلاف والحق في الحياة وقدسيتها. يبدأ التنوير عندما تقتنع الكثير من العقول أنها غير مطالبة في هذا العصر بإعادة إنتاج نفس القيم التي أنتجها الناس في القرون الماضية، بل عليها أن تتفتح وبصدق على قيم عصرنا وتعمل على تبنيها بشجاعة كبيرة ودون تردد.
إننا لا نواجه الوصاية على الفكر والمعتقد فحسب، بل كذلك الوصاية على أبسط السلوكيات والتصرفات اليومية من لبس الحذاء إلى شرب الماء. إننا ننتمي إلى مجتمعات يؤلمها رؤية الفردية ولا تتقبل الاختلاف إطلاقا، ينظر إلى الجديد بحذر وخوف شديد. وغالبا ما يجرّم الأفراد لأجل حقوقهم الطبيعية. إننا ننتمي إلى مجتمعات لم تعلمها المؤسسات الوطنية في قطاع التعليم أو حتى من خلال الإعلام الفرق بين الدين والتديّن، الفرق بين الكتاب الديني المقدس والتشريع الديني المؤقت.
هل نحن في الطريق الصحيح نحو أنوار عربية؟ لا، المسافة لا تزال بعيدة ولا شيء ينذر باقتراب الولوج الى تلك المرحلة. كثيرة هي المجهودات الفكرية التي كتبت في هذا المجال وفكر أصحابها بصدق في مشروع عربي للأنوار، للأسف هي أعمال يقرأها الأقلية ولا حضور لها إلا على الهامش في كل مجتمع.
قبل الحديث عن تجديد البنيات الاجتماعية والسياسية المهترئة ينبغي التفكير وبكثير من الصدق في تجديد العقول ومساءلة الذات وفسح المجال واسعا أمام الحرية، هي أولى الشروط التي من شأنها بناء مجتمع متنور. لقد جرب غيرنا الانغلاق عن العالم ورفض كل دخيل وعرف سلبيات مثل هذا الاختيار على الواقع الاجتماعي، فلماذا الإصرار على تكرار أخطاء الآخرين.
لا يمكن أبدا أن تسير المجتمعات نحو الأمام وتتفادى الكثير من الأزمات إلا في ظل بيئة تتوفر على قدر كبير من الحرية وتفسح المجال واسعا للمبادرات الفردية ولا تميتها باسم المحرم والمنبوذ. مشكلة المجتمعات التي ننتمي إليها أنها ترفض حتى مجرد التفكير في الاختلاف، ولا تقبل بالنجاح، بل ترى فيه تهديدا لكيانها. مجتمعات تفتقد إلى الثقة في ذاتها، اعتادت انتظار الحلول الجاهزة ولا تؤمن بقدراتها على الخلق والإبداع. مجتمعات تخاف من كل شيء، من الجديد من المحاولة من المغامرة من التميّز.
سيسأل البعض عن وضعية الدين في مجتمع الأنوار وفي ذهنه الصورة التي كونها لنفسه عن تجارب أوروبية بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر للميلاد، سيقول إننا سنفتقد إلى الاخلاق وسيتمزق المجتمع وتتفكك الأسرة، وهلمّ جرّا من مفردات صارت مألوفة في أًبجديات خطاب الإسلام السياسي. مشكلتنا أننا نعطي للدين أكثر مما هو مطلوب ونجعل منه كل شيء إلا أن يكون دينا. نجعل من الدين حلا اقتصاديا وبرنامجا سياسيا ومشروعا ثقافيا ورياضة جسدية وطريقة في الأكل والزيّ، نجعل منه كل شيء إلا أن يكون عبادة خالصة.
من المؤكد أن التنوير لن يكون إلا عبر مراحل، للأسف لا تزال الكثير من الأصوات النيرة تخوّن وتقصى وتضرب الرقابة على بيع كتبها. كنا نعتقد أن محاكمة طه حسين أو علي عبدالرازق قد انتهت في القرن العشرين وانتهت الأيديولوجية التي كانت تغذيها، ولكننا وبعد مضي كل ذلك الوقت، لا يزال ينظر بحذر كبير إلى كتب رشيد إيلال، محمد المسيح، هالة وردي، كمال داود، وغيرهم.
لا يمكن أن نبني المستقبل باليقين الزائف ولا أن نسير بثبات من دون ممارسة الشك وزعزعة كل اليقينيات بما فيها اليقينيات الدينية. يجب التخلص من ثقافة الغرور. لسنا أفضل أمة أخرجت للناس ولن نكون كذلك إلا بإعادة قراءة مشكلاتنا بكثير من الصدق..
نقدس لغة الفقيه حتى وإن كانت تافهة ومن دون جدوى، ونطالب بها لحل أبسط المعضلات. وهو ما أسهم في تضخيمها اجتماعيا وسياسيا لأننا لا نؤمن بأنفسنا، وفي المقابل نستبعد خطاب الباحث النقدي لأنه يؤذي غرورنا ويقيننا ولا نتقبل منه إلا ما يرضي الكسل والانغلاق لدينا. لا نريد أن نختبر ذواتنا خارج السياج الذي ورثناه جاهزا.
السؤال حق طبيعي، السؤال هو ما يحقق إنسانيتنا ويؤكد وجودنا. لقد تساءل المعتزلة -في الكوفة والبصرة- بداية من القرن الثامن للميلاد بكثير من الجرأة في مسائل قد تبدو لنا غريبة نحن أبناء هذا العصر. لقد كانوا أكثر تنويرا منا، ولم يكن حينها أسلوب التكفير غائبا في تلك البيئة التي عرفت بحدة الاقتتال لأجل السلطة… نسمع بآراء المعتزلة ونعجب لقراءتها ولا نسمع اليوم بمن كفّروهم في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما كنت أستاذا للفلسفة واجهت الكثير من المتاعب والتعنيف بسبب إصراري على تدريس أراء المعتزلة لطلبة الطور الثانوي، ولم تكن الوزارة الوصية -يومها- توفر أدنى شروط الأمن، خصوصا وأن الجزائر في تلك المرحلة كانت تعيش أصعب مراحل تاريخها المعاصر…
ما هو السؤال؟ السؤال هو قلق يحرّرنا ويكشف خفايا الخطاب الجاهز الذي يحبه المؤدلج، السؤال هو الإنسان فمن منا لا يؤمن بإنسانيته الكاملة. السؤال هو الأداة التي بها نتميَّز عن بعضنا البعض أو نتخاطب، نتفق أو نتخاصم، نجتمع أو نفترق، هو ما يجعل وجودنا يتحقق بالفعل. الأنوار هي الخروج من ظلمات القرون الماضية وخطابها المتجمد الذي لا يمكن أبدا تبيئته. الأنوار هي حقيقة الانسان الذي كان يعتبر رعية وغلاما ليصبح مواطنا كامل السيادة.
الأنوار هي الإبداع والثورة على المألوف والكلاسيكي، في الفن والفكر والقانون، هي الانقلاب على وضع لم يعد يطاق، وصار لا يمتلك الأجوبة. هي انفجار كبير ينبع من وسط الصخر ليسقي الأرض العطشانة. هي عقل جديد ورؤية مختلفة وصناعة لظروف أكثر ملاءمة وقادرة على تقبل اختلافاتنا من دون ضرر.
إن عقل الأنوار لا ينتظر من السلطة أن توفر له ظروف الكتابة والإبداع لينتج ما ينبغي إنتاجه… إنه عقل يولد من المآسي وفي خضم الأزمات. يولد ليقول بأنه مختلف وجديد ومبدع وثوري. هل لدى النخبة المثقفة العربية ما يؤهلها لصناعة أنوار؟ نعم، يوجد الكثير من الأقلام والطاقات الممتازة. فقط هي تحتاج إلى الإيمان بذاتها وإلى الكثير من الشجاعة. يجب أن ننسى عقدة النموذج الجاهز، ولا نحاول السقوط في لغة التقليد، لأنها قد تعمينا عن رؤية واقعنا بشكل واضح… نحن لسنا في فرنسا ولا في ألمانيا ولا حتى في أميركا. إننا أبناء مجتمع يتوسط كل النماذج، له خصوصياته الجغرافية، الثقافية والتاريخية.
تبدأ الأنوار عندما تتعلم نفوسنا حب الجمال، وتفكر في تعميم ذلك الحب ونشره قبل أن نفكر في شكل الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تخرجنا من المآزق الكثيرة التي وقعنا فيها، علينا أن نفكر في خلق عقول جديدة متحررة من العقد والتابوهات المترسبة. الأنوار ثورة والثورة يؤسسها عقل جديد.