مجرات القرون الباردة

حسب الشيخ جعفر - قصائد مختارة
الاثنين 2021/11/01
تخطيط: حسين جمعان

هبوط أبي نواس

جنان انتظار جنان اندحار

جنان انتحار فكن يا ابن هانيَ ما شئتَ، كن حجراً أو نديماً

يقيء انكساراته ضحكاً أسود، كن طريقاً

إلى حانة، والمقرب في المحفل الببغاء. انسحاب

العباءة موحلة في الأزقة رايتك

المستباحة، مرمية في الحوانيت، مهملة

آخر الليل منكفئا في توسلك الغيمةَ اللؤلؤيةَ

عند الحوائط تستل خيط الدنان السرابي

حولك صرعى الندامى وخفقٌ من الفجر في وجهك

الزقّ خالٍ وثوبك بالٍ

ونجمتك البابلية دون التماعتها الباب والعلج، بكرٌ

مكورة الثدي من عهد نوحٍ،

معاً نقتفي أي لمع ونهبط سلمنا الرطب

تخبو على الحجر المتآكل منها الخطى،

أيهذا المدى المتباعد قل أي شيء سوى الرجع!

في كل أرض جنان وفي كل ومض

فكن يا ابن هانيَ

كن صخرة أو صدى

كن مدى أو ندى في انتظار الهوادج،

والجرةُ الملتقى وارتجلْ في

غبار السنابك طرديةً وانتظر خلعة أو عقارا

(أعددت كلبا للطراد سلطا مقلداً قلائداً ومقطا ……………)

أعد يا ابن هانيَ في القدح الصرف وجه

يطاردنا والبراري السرير،

الصبا عَرْفُها والربا رِدفها

والسبيل الى المشتهى الباب والثقفي

اقتلعنا عن البصرة القدم المتشبث لكننا

حين قلنا: ابتعدنا اقتربنا وأمسى التلفت

شيمتنا والتوجس في كل حان جنان

وفي كل بان أفق أيها المتكوِّم في فجر

خمارة: عندنا نبأ عن جنان

معاً نقتفي ركبها المتراقص

غيمة من غبار

وما اقترب الوجه من وجهها في طوافك

لكنه الوهم ديدننا ناحلاً يترصده في

الليالي بصيص من النار:

باب إلى حانة

أيها المتعثر في الطرقات، التوهج في الحان

عارِضُها والمجوسيّ كان ابنَ هانيَ فاشرب

جنانك وارهن خِلْعة القزم

ما كنتما اثنين

إذن، فلن تكونا واحداً،

فالزمن الدائر غير عابئ يعيد هذا اللهب

الآكل في جلدك وانفلاتها منك، فما

تحظى بها غير انتظار باطل، ونظرة يصيبها

كل خلي عابر، غير صدى من نغم في قاعة

تخلو وغير كومة تزيحها عما قريب خادم عابسة

ما كنتما اثنين، إذن

فلن تكونا واحداً يوماً،

ويخبو الذهب الآفل، يخبو وجهها عبر

زجاج باصك المندفع الأخير، عبر غبرة

يثيرها القطين في ارتحاله،

فيا أبا نواس!

(تمناه طيفي في الكرى فتعتَّبا

وقبلْتُ يوما ظله فتغيبا

وقالوا له إني مررت ببابه

لأسرق منه نظرة فتحجبا)

وتهبط سلَّمك الملتوي إلى

قبو خمارة، باحثا في الكوى الحجرية عن

خفق نجم، وفي القدح الصرف عن وجهها

المتجدد، يعلو الحوائط ظلُّكَ جنيّ ليل

إلى الفجر، ممتقعاً في أصابعك الطين

والنار تصنع دميتك الهشة

المادحون

استقرت بهم في البلاط النوى،

كلما افتضَّ

كفك دنّا تأبطتَهُ في الزوايا دليلاً إلى

حكمان الجوى،

كلما قيل: آتية..

* * * * * *

السهرة

أيّها الطارقُ بابَ الراحلين

لن يرُدّوا. مَنْ تُرى يسمعُ قَرْعَ الغائبين؟

إنّني أَعدَدتُ شايا

بلْ صَدى شايٍ خفيف

فليجئْ مَنْ يرتضي

فإذا شئتمْ نبيذاً أو عَرَقْ

فلديّا

كلُّ ما يُرضي الصحارى

كنتُ أنوي بيعَها الخمّارَ تِلقاءَ زجاجة!

فاستريحوا فوقَ هذي الكنبة

وليَطِرْ مَن شاءَ منكمْ

عالقاً بالمروحة

     أيلول 2021

* * * * * *

هيَ

أنا لَم أنلها، مَرّةً، إلّا سَرابا

إلّا دُخاناً أو ضبابا..

هيَ أجملُ امرأةٍ أرَدتُ

هيَ أوّلُ امرأةٍ أرَدتُ

هيَ آخرُ امرأةٍ أردتُ

فإذا سُئلتُ فلا أرى

في مِحنتي إلّا خرابا.

أوَلا يُحِبُّ الخائفون

الخِنْجَرَ الدامي، الصقيل؟

أوَلا يُحِبُّ الخائفون؟

     أيلول 2021

********************

ليلةُ الزِفاف

أنا لم أجدْ يوماً سيبيريا

إلّا عَروساً مِن بَني الغاباتِ ترفِلُ بالفَراء

كانت نصيحتُها: (اعتَصِرْ يا صاحِ منها حفنةً

ستُحِسُّ بالدفءِ الوثير)

وتناولَتْ مَلءَ اليَدينِ الثلجَ ضاحكةَ المُحيّا:

(فإذا التقينا مَرّةً أخرى ستملأُ لي يديّا

وبما أشاءُ، بما أشاء)

مَرَّ النهارُ مؤرَّقاً وأنا أحوك

قِصصاً عن الليلِ البهيج.

وأتَتْ عروسُ الثلجِ آخذةً إليها

بذراعِ طفْلة.

ما كانَ حفلُ الليلِ إلّا فِلمَ أطفالٍ ضحوك.

     أيلول 2021

* * * * * *

الحجرُ الكريم

حجرٌ كريم

في عُمقِ زُرقتِهِ ابيضاض

طيفُ ابيضاض

مِن جَدّتي كان الهديّةَ والتميمة

في يومِ عيد.

وقد احتفظتُ بهِ طويلا.

العارفاتُ يَقُلنَ:

(مِن أحجارِ سَيّدنا

ابنِ داوودَ الحكيم)

وأضَعتُهُ فأنا أُفيق

في الليلِ مِن نومي العميق

وأنا أُحدِّقُ في الزوايا المظلمات

من غُرفتي

فأرى الحجرْ

في هيئةِ امرأةٍ جميلة

ترنو إلَيّا

يَعلو ابتسامتَها عِتاب

طيفُ اكتئابٍ أو عتاب

في مِعطَفٍ يبدو عباءة

أو في عباءة

هيَ معطفٌ ضافٍ طويل.

فإذا هَمَمتُ بها توارَت كالسَراب

أو كالضَباب

لا بُدَّ مِن أن ألتقي

هذي المُعانِدَةَ الخفيّة

وأضُمّها امرأةً صفيّة.

وأتتْ إليّا.

كانت تُحدّقُ في ملامحيَ الغريبة

كالمُستريبة.

ومضَت كما جاءت بلا صَوتٍ، بلا ظِلٍّ لها

تحتَ اشتعالِ الضوءِ في الممشى الطويل

ولَحِقتُها وسَبَقتُها

ووقفتُ مُنتَظِراً: فمَن ذي؟

هيَ شَيخةٌ تَرنو إليّا

وكأنّني طِفلٌ غريب.

     أيلول 2021

* * * * * *

آخر الطريق

أعلنتَ يا شيخي الرحيلَ عن (النصوص)

وبلا التفاتٍ أو (نُكوص)

فلِمَ التلبّثُ ها هنا أو ها هناك

أوَ لستَ تخجلُ من تسلُقِكَ السلالمَ والرُبى

ومنَ (الرجوعِ الى الصِبا)؟

يا شيخُ رفقاً بالوصايا

ما للشيوخِ وللمرايا؟

كَمْ قد نُصِحْتَ وكم أبَيتْ

فيما سواها والتقيت

حُمرَ اللحى، صُفرَ الحَدَقْ

يعلو أكفَّهمُ، ويَختمرُ الدَبَقْ.

يا شيخُ دعْ عنك الحروفْ

أو لا فتلكَ هي الجروف

فاشدُدْ إلى العُنقِ الرَحى

وقُبيلَ مقتبلِ الضحى

فإلى القرارةِ و(القرارْ)

وبلا انتعالٍ أو فِرار

ويهزُّني التلفونُ هزّاً بالنقيقْ

فإلى الطريقِ، إلى الطريقْ

وإلى انتظارِ البنتِ عند السينما.

     أيلول 2021

* * * * * *

قطر الندى

ناطورةً كانت تنام

في الليلِ، فوقَ البيدرِ العالي، الكبير

قالتْ: (أخافُ النومَ وحدي في الظلام

فاذهبْ وقلْ لذويكَ إني خائفة

وتعالَ وارقُدْ، في الأمانِ، الى جِواري)

أنا لم أكن إلا صبيّا.

كانت عباءتُها (الحريرُ) فراشَنا

كان الإِزارُ غطاءَنا

والبيدرُ العالي السرير.

كانت تَقُصُّ عليّ عن نَسرٍ أحبّ أميرةً،

وعن اختطاف.

وهَجَعْتُ، وهي تضمّني ضمّاً اليها

وأفَقْتُ وهي إلى جواري

تغفو كطفلٍ نائمٍ

في الفجرِ ضاحكةَ المحيّا.

     أيلول 2021

* * * * * *

العروس

تِلكَ الصبيّةُ، ما اسمُها؟ فالا؟ بهيّة؟

كانَت ثلوجُ الليلِ تَنهمِرُ اتّقادا

فَوقَ (النجومِ الحُمرِ) أخضرَ، أصفر.

والريحُ في بستانِ نخلٍ كالسبيّة

ملءَ الفَمِ الدامي تَنوح

تِلكَ الصبية

هي قُبلتي الأولى، ومحنتيَ الخفية.

في الليلِ تقتربُ ارتيابا

مني وتلمسُني وتضحكُ أو تقبّلني ارتياحا

فإذا همَمتُ فلا أرى إلّا يديّا.

وتعودُ كالخجلى مراودةً، وتكمُنُ في المرايا

ومع انبلاجِ الفجرِ تخبو أو تذوب

قطراتِ طلٍّ أو دموع

سأصيدُها.. أو لا تُصادُ القُبَّرات؟

ونشرتُ عَبْرَ نوافذي شَبكاً خفيّا

حتى إذا جاءت، ومرَّ الليلُ،

كُنتُ أنا المُعلَّقَ في شِباكي.

     آب 2021

* * * * * *

شيء

ألقِ ما في الجيوب

تلقَ حكمتَها الآمنة

ألقِ ما في اليدينِ الى الأرض

تبقَ الأخاديدُ، تبقَ الخطوط..

هو شيءٌ من (النقدِ) يُنفقُ أو يتبدّدُ

كالماءِ بين الأصابعِ،

بين الندى والسقوط

برهةٌ، ويمرَّغُ أو يتأرّجُ أعجوبةً ثامنة..

هو شيءٌ ويُطرحُ للخبزِ والخمرِ،

بعدئذٍ تترقّبُه

مثلما يترقبُ في القفصِ الطيرُ نقطةَ ماءٍ،

ولم يدرِ هل أقفرَ البيتُ؟

أم اقفرت كاليدين المدينةُ؟

شيءٌ من (النقدِ)؟

أم قطرةٌ تتسرّبُ بين الثقوب؟

(كلُّ بيتٍ الى الهدمِ..)

ما استوطنته السُنونو

وما التفَّ فيهِ (أوناسيسُ) مبتدأً أو خبر!

فتهجَّ الشروحَ الآخَر

وعسى أن تلُمَّ النُخالةَ أيدي النُحاة!

* * * * * *

كانديد

ألدورادو! لا علا وجهَكِ ذامُ

كُلُّ ما دبّجت الأقلامُ طفلٌ يتسلّى

أرهقتهُ لعبةُ الطينِ وأعياهُ الفطامُ

فانزوى في الشمس شيخاً يتفلَّى.

***

الحصى الأصفرُ في واديك أو في الطرقات

بعضُ ما يلهو به الأطفالُ ركلاً وانتهابا

جَرَّ (عيسى) عبئه كي يعتلي منه الفُتات

قحفَ مملوكٍ، وتؤوي قُبَّةٌ منه القحابا.

***

هل رأى سقراطُ في الكأسِ الزؤام

غيرَ ظلّ منك.. أو أغفت عَميقاً دزدمونه

دون أن يخفق في أهدابها طيفُ يمام

آمناً، في وكرِ نخلٍ، في براريكِ الأمينه؟

***

ألدورادو! لا عَلَتْ وجهكِ غبره

لم تزل تصفرُّ في الناسِ المسرّه

     * من ديوان “أعمدة سمرقند”.

* * * * * *

مَن جاءَ؟ أو مَن قد يجيءُ؟

تخطيط: حسين جمعان
تخطيط: حسين جمعان

لم تبرحِ (الخطواتُ) ملءَ جيوبِها

فإذا انفتَقنَ، فلم يحِنْ، بعدُ، المجيءُ..

***

طفلاً أعِدْني، يا إلهي

ليلاً الى تلك المراعي

أغفو، و في سمعي احتلابُ (المطفلاتِ) من الشياهِ..

***

كانت تخوّفُنا امّهاتُ

ببناتِ آوى

الآنَ، بالمنفى تُحبّذُنا الفتاوى..

***

قلتُ: ارتحلتُ كأيِّ طير

فأنا، على جنباتِها، أتنقّلُ

وصحوتُ ملءَ حقيبتي (أتقلقلُ)..

     * من ديوان “أنا اقرأ البرقَ احتطابا”.

* * * * * *

في المركب الغريق

غَرِقتْ أغانيهم، وأسرجَ فوقها البحرُ الأُجاج

أفراسَه المتصافناتِ، وأغرقَ البحارةُ المتبحّرون

أتراحهم في راحهم، وتغوّرَ الأفقُ الزُجاج

فأخذتُ أسألُ شيخهم عن يقظةِ الدمِ والجنون.

***

قالَ: (إتئدْ في الخطو و اجتنب التوقّفَ في الزوايا

الليلُ أوشكَ أن يشِجَّ عروقَه المتورّمه

فإذا تمطّتْ في الرؤى الغرقى الحدائقُ و الصبايا

وعلَتْ خُوانَ الزادِ أحراشُ الجذى المتفحّمه..

***

فأزحْ خِمارَ الكوّةِ المتلاصفه

ستلوحُ عن غربيِّ هذا المركبِ الثملِ الجزيره

فاركبْ إليها القُفَّةَ المتراجفه

واقرأ أنينَ الطين تبرحْ بقعةَ الضوءِ الأخيره..).

***

الشيخُ أغفى وانطوى البحارة المتكومون

عبثاً أُهدهدُ طفلةً شاخت واحتلب السكون!

     * من ديوان “أعمدة سمرقند”.

* * * * * *

الطائر المرمري

ها أنا أبحثُ عن طير الرمادْ

في لهيب الجسد الفاني وأدغال السهادْ

هذه الخصلةُ من شعركِ ريحٌ وشرارْ

هذه الكأسُ التي كانت تُدارْ

ها أنا أشرب من فخّارها الأخضر نارْ

ما الذي يحرقني حياً ويبقي الروح خيطاً من حريرْ

طائراً من مرمرٍ أخضر لا يطوي جناحاً أو يطيرْ؟

كلُّ شيءٍ منكَ، غير الألق العاري، أراهْ

بين كفَيَّ حريراً أو لهيباً في الشفاهْ،

أيها الحبُّ الذي أشعل أجفاني بشمسٍ من سهرْ

من ترى ألبسني في الكوكب المهجور تاجاً من ترابْ؟

ها أنا أركب أقمارَ الحجرْ

ملكاً أغزو فضاء البار،

لا أبصر وجهاً غير وجهي في الشرابْ،

أيها الحبُّ الذي أشعل أجفاني بملحٍ وسرابْ

خلّني ألمس وجه الألق العاري المذابْ

في مياهٍ أحرقتْ كفَيَّ عاماً بعد عامْ،

لأغني كوكباً يغرق في حانة طينٍ وظلامْ،

لأصلّي وأنامْ..

(صيفُكَ المترعُ في الغابات، والسُّحْبُ التي تلمسُ

أطرافَ الشجرْ

وأريجُ الليلكِ المبتلّ، والضوءُ غمامْ،

وذراعاي يشدانكَ، والرعدُ على مقربةٍ منا انفجرْ

فدخلنا الشجر الملتفّ كالكهف القديمْ

وافترشنا الورق اليابسَ والعشب الهشيمْ،

شعرُكَ الأصفرُ كالحنطة، مبتلاً، على وجهي انهمرْ،

وعلى المرمر برقٌ ومطرْ..)

حَطّ بي فوق تراب المائدة

مركبٌ دار وراء الألقِ العاري المذابْ

في مجرات القرونِ الباردة،

أيها الحبُّ الذي أشعل أجفاني بملحٍ وسرابْ

غرق الكوكبُ في نومٍ طويلْ

فلماذا لا يزور النومُ لي جفناً كطيرٍ مستحيلْ

(إنها الآنَ، وفي مشربها العاجِ لُفافة،

تشرب القهوةَ أو تجلس عند المعزفِ الضخم القديمْ،

ترتدي سروالَها الضيّقَ حتى الموتِ، تلتفّ بظلٍّ

من خُرافة

أو بحلمٍ أزرقٍ طوعُ يديها قصْرُ بلَّوْرٍ ونمرٌ وزرافة

وعلى شطآنها ينتحب الصفصافُ والطير اليتيمُ،

هاك زهرَ الشجنِ الناعس، لم يلمسه ظلٌّ أو نسيمُ،

هاك يا طفلي أقحوانة

شمعةً في كل حقلٍ تتوهّجْ،

قلتُ، لو أعطيتُه بعضَ البنفسجْ،

غيرَ أني لم أعد أملك شيئاً منه، خُذْ منّي أقحوانة..)

وأنا أبحثُ عن طير الرمادِ

في لهيب الجسد الفاني وأدغال السهادِ،

ومجراتُ القرونِ الباردة

ألقٌ يشعل وجهي في تراب المائدة..

     * من ديوان “الطائر الخشبي”.

* * * * * *

زيارة السيدة السومرية

مراتٍ في الممشى أتبيّنُ خفقَ حذائكِ سيّدتي

أتبّين صوتَكِ، مراتٍ، في ثرثرة الغُرف الأخرى

أتبين من لمحاتكِ شيئاً منفلتاً في وجه ممثّلةٍ

أو عابرةٍ عجلى، لا أعرف شيئاً عن آخر دورٍ

تمثيليٍّ كُلّفتِ به،

لا أعرف شيئاً عن أثوابكِ

فى حفلات السهرةِ، لكني في وجهكِ أقرأ

أنكِ راغبةٌ أن يجمعَنا، في المقهى، ركنٌ منعزلٌ

تتلامسُ أيدينا في البدء ونسحبها، ونُقرّب

وجهاً من وجهٍ، وتروّعنا صيحاتُ طيور البحرِ

وخفقُ الأجنحةِ البيضاءِ، ويهرب وجهُكِ

منتشراً في خفقِ الأجنحة البيضاءِ

وفى الزَّبَدِ البحريِّ الأبيض،.

سيّدتي عندي في كلِّ مساءٍ يحتفل الموتى

وطيورُ البحرِ المّيتةُ البيضاءُ،

نقرّب وجهاً من وجهٍ وأرى

عينيكِ الواسعتين مُبلّلتينِ،

( أتسمعُ في الطرق المبتلّة

وقعَ خُطى؟)

لا أسمع شيئاً حين نكون معاً،

لكني حين تدقّ الساعةُ دقَّتَها الأولى في البرج

وتصفّر في أحشاء الليل الريحُ، أُقلّب أوراقي

أو أذرع أرضَ الغرفة، مكتئباً، كالمحكومين المنفردين،

أصيخُ السمعَ: فأسمع خطوتَها البيضاءَ،

( أتخرج باحثةً

في الظلمة عن أحدٍ؟)

لا أعرف شيئاً سيّدتي، لكنى أسمع

وقع خُطّى، في البدء بطيئاً، مجهولاً يتردّد

في عمق الطرق المجهولةِ، مقترباً، وأصيخُ

السمعَ: فأسمع وقعَ خُطىَ تعلو السلّمَ، تدنو،

تتوقّفُ، تخفق في الممشى، تتوقف عند الغرفةِ،

أسمع نقراً فوق الباب وأفتحُهُ،

(هل كنتَ ترى أحداً؟)

لا أسمع غيرَ طيورِ البحر وخفقَ الأجنحةِ البيضاء

ويغمرني الزبدُ البحريّ الأبيضُ، لكنْ حين

تركتُ القاعةَ في الحفلِ السنويِّ الراقص عند

الفجر، ولم أجد المفتاحَ، سمعتُ خُطىً

كانت في غرفتي الغسقيّةِ واجمةً، تخطو

كالمحكومين المنفردين، مُتوّجةً، في زينتها الملكيّةِ،

(هل قالت شيئا؟)

(هذا آخرُ يوم ٍ

أخرجُ فيهِ

من أعماق المدن المطمورة،

لا تدنُ مني،

لن تدركني،

في الفجر أعود دخاناً أبيضَ)

كلَّ مساءٍ كنتُ أصيخ السمعَ وأفتح بابي لكني

لا أسمع غيرَ طيورِ البحر وخفقَ الأجنحة البيضاءِ،

(وداعاً،

لا تدنُ مني

لن تدركني،

في الفجر أعود دخاناً أبيضَ)

سيّدتي عندي في كل مساءٍ يحتفل الموتى

وطيورُ البحر الميّتةُ البيضاءُ،

ويهجرني بدني، يتسكعُ في الطرق المبتلّةِ مرتعشاً

كالمحكومين المنهزمين،

وتُفسح لي العلبُ المشبوهة ركناً منعزلاً،

في وجهكِ أقرأ أنكِ راغبةٌ أن نبحثَ

في الشجر العاري عن مصطبةٍ،

نلتفّ عليها حتى تُفظنا الخطواتُ الإسفلتيّةُ في مدنٍ

أخرى، في وجهكِ أقرأ أنكِ راغبةٌ أن يصحبنا

في فندقنا خدمُ الصالاتِ المبتسمون،

ندخّن قربَ ستائرَ من قصبٍ

تتلامسُ أيدينا في البدء ونسحبها، ونقرّب وجهاً من وجهٍ،

وتُروّعنا صيحاتُ طيور البحر،

ويهرب وجهُكِ منتشراً في خفق الأجنحةِ البيضاء ِ،

ويهجرني بدني يتتبّعُ وجهَكِ سيّدتي في معروضاتِ

المتحف والمبغى..

     * من ديوان “زيارة السيدة السومرية”.

* * * * * *

شيرين في المنفى

إلى عبدالوهاب البياتي

(شيرين) مركبة يدور بها الفضاء،

وانتَ تحت النخل، توقدُ في الليالي

الممطرات فتيلة،

خيطاً إلى القمر الحبيسِ،

الضاربون إلى مضارب (كندةَ)

احتطبوا، وشبَّ لهم دخانٌ…

قد تطوّح بأمرئ القيس الطوائحُ،

دارة في آخر الدنيا تدارُ بها

الكؤوس عزاء من تكبو به الطرقاتُ،

ما أدراك؟ خمرٌ أم سرابٌ؟

أم تلك (أقمار صُنعن من التراب)؟

ذابت ثلوج ضفاف موسكو مرةً

وخطتْ بك الخطوات متئداً حيال

(القصر) والكورنيش، تندى ملءَ

قبضتك البراعمُ أو تضوعُ،

وفي الرواق من البتولا

(الغادةُ المضواع).. تنحدر الخطى

بكما، القوارب هشةً ورقيةً

تدحى إلى الماءِ العباب،

فأي قلعٍ جاب منهن (اقمرار) الدجلتينِ؟

غبارُ صندوق تضيق الكتب ذرعاً

بانغلاق… الطرقُ إلى قرى نجدِ العرارِ،

وفي القرار من البحارِ الكهفُ والمفتاحْ

من أغلق الصندوق؟

من أغلق الدنيا؟

من أطفأ المصباحْ؟

 

قصيدة من أربع قصائد مهداة إلى الشاعر عبدالوهاب البياتي كتبها في عمّان سنة 1998.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.