مجلس عزاء

الخميس 2020/10/01
لوحة: نزار عثمان

الشخصيّات

الموظّف، المستخدم، الشابّ، الكهل، الكهل 2، المرأة الأربعينيّة، العجوز

(إظلام تامّ.. ثمّ يبدأ العرض بأضواء غير منتظمة تنطلق باتّجاهات مختلفة على شكل شرارات، أو خطوط ناريّة تشبه الخطوط التي تخلّفها رصاصات البنادق في الليل. ورغم غزارة النيران فإنّ الخشبة تظلّ غارقة في الظلمة، بحيث لا يتمكّن المشاهدون من تمييز ما تحتويه. ولكن، مع تراجع غزارة هذه الشرارات، تبدأ الظلمة بالتلاشي تدريجيّاً، إلى أن تتوقّف الشرارات تماماً، وتظهر الخشبة مضاءة على نحو خفيف، لكنّه كافٍ ليتبيّن المشاهد تفاصيل المكان).

(المكان أشبه بمخزن مهجور، لكن أعيد استخدامه على عجلٍ للضرورة، دون إجراء أيّ عمليّة ترميم أو إصلاح له. يتبيّن ذلك من خلال الجدران المتّسخة والتي تقشّر طلاؤها في أكثر من موضع. السقف العالي المسودّ. الأرضيّة الإسمنتيّة العارية والتي لا تخلو من حفر وشقوق هنا وهناك. ألواح خشبيّة وصناديق وصفائح وأكياس قمامة سوداء فارغة أو نصف ممتلئة وعدد سباكة ونجارة وحدادة، متناثرة في أرجاء المكان..).

(هنالك بابان مغلقان يفضيان إلى الخشبة، أحدهما جانبيّ من جهة اليمين، والآخر أماميّ. بابان حديديّان صدئان، يصدر عنهما صرير حادّ ومزعج عند فتحهما أو إغلاقهما).

(قريباً من الباب الأيمن، نلمح طاولة وكرسيّاً بسيطين. على الطاولة جهاز كمبيوتر، وجهاز يشبه ذلك النوع المستخدم في المحلّات التجاريّة لقراءة لصاقات الباركود. إضافة إلى جهاز آخر للتعرّف إلى البطاقات الشخصيّة. على الطاولة أيضاً بعض الأوراق والسجلّات والأقلام والأدوات المكتبيّة المختلفة).

(إلى اليسار كومة جماجم بشريّة. ما يقرب من مئة جمجمة. بعض الجماجم متناثر على الأرض. يلاحظ أنّ كلّ جمجمة عليها لصاقة “باركود”).

(يسمع صرير الباب الأماميّ وهو ينفتح. يدخل منه رجلان: خمسينيّ، بملابس عاديّة، قميص وبنطال، حليق اللحية، شعره ممشّط بعناية مبالغ فيها. والآخر أقلّ عمراً. يرتدي قميصاً وبنطالاً أيضاً، لكنّه ينتعل صندلاً بيتيّاً رخيصاً. لحيته لم تحلق منذ أسبوع.. الأوّل موظّف يأخذ مكانه خلف الطاولة، والآخر مستخدم يقف بانتظار الأوامر).

الموظّف: طيّب.. نفتح الباب، لكن لا أريد أيّ فوضى. أدخلهم خمسة خمسة، بحسب أرقامهم. تأكّد من أنّهم اطّلعوا على التعليمات المعلّقة في الخارج، وفهموها جيّداً..

المستخدم:  (متّجهاً إلى الباب اليمينيّ) حاضر..

(صرير الباب وهو ينفتح. أصوات بشريّة من الخارج، يشعر المشاهد معها بمقدار ضيق الأشخاص هناك، وانزعاجهم من طول فترة الانتظار).

المستخدم: (مخاطباً الحشود في الخارج) من يحمل الأرقام من واحد إلى خمسة يدخل الآن. البقيّة ينتظرون. قرأتم التعليمات. أيّ مخالفة تعني الطرد فوراً.

المستخدم: (يفسح المجال لدخول خمسة أشخاص، بعد أن يتأكّد من أرقامهم، ومشيراً إلى المكان الذي تكوّمت فيه الجماجم) هناك.. الفوضى ممنوعة.. بهدوء رجاء..

(يتّجه الأشخاص إلى الجماجم. ثلاثة رجال: شابّ، وكهلان، وامرأتان: امرأة في أواخر أربعينيّاتها، والأخرى عجوز في حدود السبعين).

(بينما يرتّب الموظف أوراق مكتبه، استعداداً للعمل، نرى الأشخاص الخمسة وهم يبحثون بين الجماجم، ينتقون بعضها، ثمّ يتفحصّونها بتقليبها بين أيديهم والنظر فيها من زوايا مختلفة، أو شمّها، أو محاولة قياس محيطها، أو مقارنتها بجمجمة أخرى، أو القرع عليها والإنصات بعناية إلى الصوت الصادر عنها، أو رفعها إلى الأعلى باتّجاه مصدرٍ مفترضٍ للضوء كما لو أنّهم يبحثون عن شقوق خفيّة فيها.. وقد نسمع أحاديث جانبيّة مثل):

العجوز: الضوء ضعيف.. لا يساعد.. كيف سنرى؟

الكهل2: الله يرحمهم..

الأربعينيّة: ممكن تعطيني طريقاً إذا سمحت؟

الكهل: الحمد لله..

(يقطع أحاديثهم الجانبيّة صوت الموظّف).

الموظّف: ليس لدينا وقت يا إخوان.. بسرعة إذا سمحتم..

(صمت)

لقد تأخّرنا.. من الذي انتهى؟

(يتبادل الخمسة النظرات فيما بينهم، كلّ يتوقّع من الآخر أنّه قد انتهى، وأنّه سيبادر قبله.. أخيراً يتحرّك الشابّ الذي نلاحظ منذ البداية أنّه على عجلةٍ من أمره).

(الشابّ يحمل إحدى الجماجم، ويتقدّم من الموظّف. الموظّف يأخذ الجمجمة منه، ويمرّرها على جهاز قراءة الباركود، ثمّ يعيدها إليه. يأخذ بطاقته الشخصيّة أيضاً. يدخلها في جهاز قراءة البطاقات، ثمّ يعيدها إليه بعد أن يتأكّد من هويّته).

(خلال الوقت الذي يستغرقه إتمام هذه الإجراءات تقترب العجوز من الأربعينيّة حاملة بيدها جمجمة وهي تتفحّصها).

العجوز: عفواً يا بنتي.. لو تلقين لي نظرة على هذه.. ماذا ترين؟.. كم تقدّرين عمرها؟..

الأربعينيّة: (تتناول منها الجمجمة وتتفحّصها) والله يا خالة لا أدري.. لكن يمكن بالعشرين، أو حتّى أكبر..

العجوز: (خائبة) بالعشرين؟ لا.. ليست هي..

(تعيد العجوز الجمجمة إلى مكانها، وتواصل البحث..).

الموظّف: (مخاطباً الشابّ بعد أن أنهى إجراءات التسجيل) متأكّد أنّها هي؟

الشابّ: (يتردّد للحظات، لكنّه يحسم أمره في النهاية) نعم.. هي..

الموظّف: (وهو ينظر في شاشة الكمبيوتر ليتأكّد من المعلومة) أخوك.. أليس كذلك؟

الشابّ: نعم..

الموظّف: كيف عرفت أنّها جمجمته؟

الموظّف: (وقد استفزّه صمت الشابّ) يجب أن تقول لي.. هذه معلومات ضروريّة.. السيستم لن يعطينا الإذن بمنحك إيّاها ما لم تقدّم سبباً محدّداً ومعقولاً.. قرأت التعليمات في الخارج، والمفروض أنّك جاهز للإجابة عن السؤال.. لا تعطّلني رجاءً..

الشابّ: (يفكّر، ثمّ يرفع الجمجمة إلى أنفه، يتشمّمها) السيستم.. قل له إنّني عرفته من الرائحة. فيها رائحة الكولونيا التي كان يستخدمها عادةً بعد الحلاقة.. ومع أنّه أمرٌ غريب فإنّ الرائحة ما تزال عالقة فيها إلى الآن.. شمّ.. شمّ بنفسك..

الموظّف: (وهو يبعد الجمجمة عن أنفه متقزّزاً) خلاص.. خلاص.. فهمنا.. رائحة الكولونيا..

(يواصل الكتابة على الكمبيوتر) مبروك.. الله معك..

(يأخذ الشابّ الجمجمة. ويتّجه نحو الباب اليمينيّ ليغادر. يتوقّف لحظة، يتشمّم الجمجمة ثانية، ويفكّر. لكنّه في النهاية يواصل طريقه، ويغادر)

الموظّف: الذي بعده.

(تتقدّم الأربعينيّة من الموظّف الذي أخذ بتسجيل البيانات كما فعل مع الشابّ.. يمرّر الجمجمة على الجهاز.. يتأكّد من البطاقة الشخصيّة.. يكتب على الكمبيوتر).

الأربعينيّة: عفواً أخي.. هل تعرف مصدر هذه الجماجم؟ من أيّ محافظة جاؤوا بها؟

الموظّف: (بغضب) أختي، أنت قرأت التعليمات.. ممنوع السؤال عن هذه الأشياء.. أمامك الجماجم.. إذا وجدت جمجمة… من؟ من؟

(يسأل نفسه وهو ينظر إلى البيانات المدوّنة أمامه على الشاشة):

آه.. زوجك.. جمجمة زوجك.. إذا وجدت جمجمة زوجك فمبروك.. إذا لم تجديها فالله معك.. هناك دفعات أخرى على الطريق.. تأتين في وقت آخر..

الأربعينيّة: سامحني الله يوفّقك.. آخر سؤال.. هل هم نظام أم معارضة؟ هل بينهم معتقلون؟

الموظّف: (لا يردّ. يزفر، ويتمتم بكلمات غير مفهومة، لكنّها تعبّر عن حجم ضيقه وعجزه عن احتمال المزيد).

الأربعينيّة: لماذا لا تصنّفونهم؟ ألا تعتقدون أنّنا يمكن أن نخطئ؟ إنّها تشبه بعضها.

(وتلتفت إلى المستخدم):

ما رأيك يا أخي؟ معي حقّ. أليس كذلك؟

الموظّف: كلّميني أنا..

الأربعينيّة: (تلتفت إلى الموظّف) أليست متشابهة؟

الموظّف: (متذمّراً، وبصوت يوشك أن يكون صراخاً) لا إله إلا الله.. أختي ممنوع.. ممنووووع.. سؤال آخر وتخرجين من المكان.. إذا لم تكوني قادرة على تمييز جمجمة زوجك، فهذه مشكلتك.. أعطي الفرصة للآخرين.. في الخارج مئات الأشخاص ينتظرون.. رأيتهم بنفسك..

الأربعينيّة: (تشدّ الجمجمة إلى صدرها، كأنّها تخاف أن ينتزعها منها أحد) طيّب.. طيّب.. لا تزعل منّي الله يخلّيك.. خلاص.. هذه هي..

الموظّف: متأكّدة؟

الأربعينيّة: نعم.. مليون بالمئة.. زوجي.. أليس عيباً ألّا أميّز جمجمته؟

الموظّف: طالما أنّك متأكّدة من البداية فلماذا كثرة الكلام إذن..؟ سبحان الله.. هل هي هواية؟ والآن، أخبريني.. كيف عرفتها..؟

الأربعينيّة: جمجمة زوجي.. كيف لا أعرفها؟

الموظّف: (وهو يضرب الطاولة بقبضة يده) أريد سبباً محدّداً..

(يكرّر).

سبباً.. محدّداً.. السيستم يريد ذلك.. افهميني، ودعينا ننتهي..

الأربعينيّة: كما تريد.. لا تغضب..

(صمت).

الله يرحمه كان يشكو دائماً من الصداع.. شقيقة كما قالوا له.. تعرف.. كنت أظنّ أنّها ضغوطات الحياة، والتفكير، والحرب.. كلّها تسبّب الصداع.. المهمّ أنّني اكتشفت الآن سبباً جديداً.. انظر إلى هذه الجمجمة من الداخل..

(توجّه الجمجمة إلى الموظّف وهي تدسّ إصبعها وتتلمّس شيئاً في الداخل).

تبدو لي خشنة جدّاً. نتوءات عظميّة صغيرة ومدبّبة مثل الإبر. الأكيد أنّها كانت تنغرس داخل مخّه، وتسبّب له ذلك الألم الفظيع.. لو تعلم كم كان يعاني! والله كان يبكي أحياناً مثل الأطفال..

الموظّف: (بعد أن ينتهي من الكتابة) مبروك.. الله معك..

(تخرج الأربعينيّة بصحبة الجمجمة).

الموظّف: غيره..

(يخاطب نفسه).

الله يمضي هذا اليوم على خير..

(يتقدّم أحد الكهلين حاملاً معه جمجمة تبدو صغيرة الحجم، ليباشر الموظّف إجراءات التسجيل المعتادة).

الكهل: معلّم.. سؤال صغير إذا تكرّمت..

الموظّف: ممنوع الأسئلة.

الكهل: (متجاهلاً كلام الموظّف، كما لو أنّه لم يسمعه أصلاً) هل لديكم غير هذه؟

الموظّف: لا.. هذا هو الموجود..

الكهل: آه.. كنت أبحث عن واحدة بمقاس أصغر من هذه.

الموظّف: هل تعني أنّها ليست..؟

(لحظة صمت ينظر خلالها في شاشة الكمبيوتر باحثاً عن المعلومة الصحيحة، ثمّ يتابع):

ليست لابنتك؟

الكهل: لا.. لا.. أكيد هي.. صحيح أنّها أكبر بقليل من أن تكون لطفلة في سنّ الرابعة، لكنّها ماتت منذ سبعة أعوام.. وأنت تعلم، بعض الجماجم تواصل النموّ حتّى بعد الموت.. ليس إلى الأبد طبعاً، لكن ربّما لسنة أو سنتين تاليتين، ثمّ تتوقّف عن النموّ.. سبحانك ربّي.. قرأت عن هذا في الفيسبوك، أو ربّما رأيته على اليوتيوب.. لا أذكر.. المهمّ أنّ هذا يحدث أحياناً..

الموظّف: (متذمّراً) متأكّد وتسأل؟! كلّكم هكذا. كأنّكم تستمتعون بإضاعة الوقت. ليس بينكم من يقدّر هذا الذي نعاني منه..

الكهل: مجرّد سؤال.. سؤال فقط.. اعذرني..

الموظّف: طيّب.. دعنا ننتهي من هذا.. هنالك آخرون ينتظرون.. أخبرني.. كيف عرفت أنّها ابنتك؟

الكهل: مممم.. والله يا معلّم لا أدري ماذا أقول لك.. لكن تخيّل طفلة عمرها أربع سنوات، عندما تسقط قذيفة فوقها. أكيد، أوّل شيء تفعله، حتّى قبل الصراخ، أنّها تفتح عينيها. صدّقني. تتّسع عيناها إلى درجة فظيعة.. ألا ترى؟..

(يشير إلى المحجرين في الجمجمة، ويتابع).

واسعتان جدّاً.. أليس كذلك؟

الموظّف: (دون أن ينظر) نعم.. واسعتان..

الكهل: الصراحة أنّ عينيها كانتا واسعتين في الأصل، ولكن ليس إلى هذا الحدّ.. الرعب يصنع أكثر من هذا..

الموظّف: (يناوله الجمجمة) مبروك..

(يحمل الكهل جمجمة ابنته، ويغادر..).

الموظّف: (ينادي) غيره..

(يتقدّم الكهل الثاني وبصحبته جمجمتان..).

الموظّف: ما هذا؟

الكهل2: أخي وأبي..

الموظّف: أخوك وأبوك؟

لوحة: نزار عثمان
لوحة: نزار عثمان

(ثمّ مخاطباً المستخدم، بصوت أقرب إلى الصراخ).

هيه.. ألم تعلّق نسخة من التعليمات في الخارج؟

المستخدم: (بسخرية) بلى.. وبخطّ كبير لمن يشكو من ضعف النظر..

الموظّف: (مخاطباً الكهل 2) قرأتها وتريد أن تأخذ الاثنتين؟!.. ممنوع.. ممنووووووع اصطحاب أكثر من جمجمة.. مكتوبة هناك.. تأخذ واحدة الآن.. ولكي تأخذ الثانية فعليك أن تسجّل دوراً من جديد، وتنتظر..

الكهل2: سنوات أيضاً؟

الموظّف: لا أدري.. شهر.. شهران.. سنة.. عشرة.. بحسب ما يجدونه.. هم يبحثون في كلّ مكان.. قد يجدون شيئاً بعد أيّام، وقد ننتظر سنوات.. وعندما يجدون شيئاً سيخبروننا. هؤلاء أجانب، أمم متّحدة، ولن يكذبوا.. ادع ربّك أن ييسّرها أمامهم..

(وبلهجة حازمة):

أعد واحدة من الجمجمتين.. لا تعطّلنا.. وراءنا عمل، الله وحده يعلم متى سينتهي..

(الكهل 2 محتار بين الجمجمتين، ثمّ يتّجه إلى كومة الجماجم فيضع إحداهما، ويعود بالأخرى، لكنّه سرعان ما يغيّر رأيه، فيعود ليضع الجمجمة التي كانت بين يديه، ويأخذ الأخرى..).

الكهل: (بينما الموظّف منشغل بإجراءات التسجيل) الله يعطيك العافية.. معك حقّ، عملكم صعب والله..

الموظّف: والناس غير راضين مع ذلك.. نسمع هنا قصصاً عجيبة.. الدفعة الماضية حاول أحدهم الاعتداء على هذا المسكين.. قذفه بمفتاح إنكليزيّ، ولولا ستر الله لقتله..

(يشير إلى المستخدم).

ما ذنبه؟

الكهل2: اعذرهم يا معلّم.. يجب أن نتحمّل.. الحرب انتهت منذ خمس سنوات.. وقت ليس قصيراً.. والناس يريدون أن يطمئنّوا على أهلهم. يريدون أن يدفنوهم لينسوهم، ويبدؤوا حياتهم من جديد. أرواحهم أصبحت عبئاً علينا. تطاردنا كلّ لحظة، ونسمعها وهي تزعق في آذاننا. تأكل وتشرب وتنام وتمشي معنا والله. الروح لا تهدأ ولا تستقرّ إلا إذا كان هنالك قبر يحمل اسمها. نريد أن نهيل التراب عليهم، ونزرع فوق كلّ قبر شجرة صغيرة، أو شتلة ورد، ثمّ نقرأ الفاتحة، ونمضي إلى أشغالنا.. نريد أن ننساهم فعلاً.. لا شيء أكثر من ذلك..

الموظّف: ما اختلفنا أخي.. ما اختلفنا.. أنا أيضاً فقدت زوجتي.. قبل سنتين أرسلوا ورائي وقالوا: تعال وانظر.. كانت كومة أكبر من هذه بثلاث مرّات صدّقني، ومع ذلك لم يستغرق الأمر منّي أكثر من دقيقتين. أخذتها، وانتهى كلّ شيء.. سألوني: كيف عرفت أنّها جمجمة زوجتك؟ فقلت: أسنانها. أنت لم تر أسنان زوجتي. لا يوجد في العالم أجمل من أسنانها. ابتسامة ساحرة. يا إلهي كم كانت تعتني بها! وبيني وبينك، الجمجمة التي أخذتها كانت لا تملك سوى سنّين فقط، وكانا منخورين.. لكن قلت في نفسي: من الطبيعيّ أن تسقط الأسنان إذا أهملت فترة طويلة. نتحدّث عن سنوات، لا عن يوم أو يومين. الأسنان تسودّ وتتكسّر وتسقط في النهاية. تخيّل أن تظلّ دون تنظيف طيلة هذا الوقت! ماذا يمكن أن يحدث لها؟.. المهمّ.. بعض الناس ما زالوا يأتون ويذهبون.. يأتون ويذهبون.. وهذه لي، وهذه ليست لي.. وهذه كبيرة، وهذه صغيرة.. كأنّ الموضوع تسلية.. تشعر وكأنّهم يستمتعون بعذاباتهم، ولا يريدون لها أن تنتهي..

الكهل2: الأمر ليس مسلّياً أبداً..

الموظّف: أرأيت؟.. تأتيهم الفرصة سهلة ومريحة ليتخلّصوا من هذه الأرواح التي تطاردهم، ولا يفعلون.. ماذا تريدون يا أخي أفضل من ذلك؟

الكهل2: صحيح.. معك حقّ.. لكن يجب أن نعذرهم مع ذلك.. مشكلة عندما يكون الإنسان موسوساً، ولكن ماذا بأيدينا لنفعل أكثر من أن نسايرهم قليلاً؟ لا تتوقّع أن يكون جميع الناس مثلي ومثلك.. سبحان الله.. البشر مثل أصابع اليد الواحدة.. كلّ إصبع خلقها الله بطول مختلف..

الموظّف: يبقى النظام هو النظام.. تنتظر دورك.. وعندما يأتي لا تتدلّل.. نحن لا نشتري بطّيخاً لننتقي الأفضل..

(يتابع بملل):

ما علينا.. هذه جمجمة أبيك أم أخيك؟

الكهل2: (يبدو متردّداً في الإجابة، لكنّه يحسم الأمر في النهاية) امممم.. أبي، أبي.. أخي شابّ في أوّل عمره. بإمكانه أن ينتظر أكثر..

الموظّف: جيدّ.. لينتظر.. والآن، كيف عرفت أنّه أبوك؟

الكهل2: بصراحة، أبي كان عنيداً جدّاً.. معروف في القرية بأكملها بهذا الأمر.. لا أحد يمكن أن يثنيه عن قرار اتّخذه.. وكانوا يقولون عنه إنّه ذو رأس يابس.. أصلاً كانت أمامه فرصة للجوء إلى لبنان، ولو أطاعنا لكان الآن حيّاً بيننا.. لكنّ رأسه يابس كما قلت لك.. أرضي. بيتي. اذهبوا واتركوني. لن أموت إلا هنا.. الرأس اليابس مصيبة على صاحبه.. اسمع..

(ينقر على الجمجمة بإصبعه).

سمعت؟ يابس فعلاً.. جمجمة من حديد.. الله يرحمك يا أبي..

الموظّف: مبروك..

(يخرج الكهل 2، فيما يعيد الموظّف ظهره إلى الوراء في محاولة للاسترخاء.. وخلال ذلك ينظر إلى العجوز وهي ما تزال تبحث بين الجماجم.. تلتقط جمجمة، ثمّ تعيدها، لتلتقط أخرى، وتعيدها أيضاً.. وهكذا..).

الموظّف: دورك يا أمّي.. تفضّلي..

العجوز: لحظة يا ابني.. لحظة..

الموظّف: يا أمّي.. لا يوجد لدينا وقت.. أرجوك.. الناس في الخارج سيأكلونني..

العجوز: لا تخف يا ابني. لا تخف. أنا سأكلّمهم. أنا خالتهم بمقام أمّهم. سأشرح لهم كلّ شيء، ولن يغضبوا منّي ومنك.. أريد مساعدة صغيرة كيلا أتأخّر عليهم..

الموظّف: لا حول ولا قوة إلا بالله..

(ملتفتاً إلى المستخدم وقد نفد صبره).

انظر ماذا تريد.. على هذه الحال لن ننتهي اليوم، ولا حتّى بعد عشرة أيّام..

العجوز: (تخاطب المستخدم مشيرة إلى جمجمة بعيدة عنها) تلك.. ليتك تناولني إيّاها يا ابني، الله يرضى عليك..

(يضع المستخدم يده على جمجمة ليتناولها، لكنّ العجوز تستوقفه).

لا.. التي إلى جانبها.. لا.. لا يا ابني، إلى اليمين..

(يحتار المستخدم في معرفة أيّ الجماجم تقصد العجوز..).

ما لك يا ابني؟.. ألا ترى؟.. الجمجمة التي في الأعلى.. هناك.. ليست هذه.. نعم هذه.. ناولني إيّاها..

(العجوز تقلّب الجمجمة بين يديها، ثمّ تعرضها على المستخدم، وتسأل):

ما رأيك؟

المستخدم: وما أدراني أنا؟

العجوز: والله أنا محتارة.. طيّب، اخدمني وابحث معي الله يوفقّك.. هل ترى جمجمة لطفلة في السابعة من عمرها، وعليها آثار دخان؟ نظري لا يساعدني..

المستخدم: دخان؟

العجوز: نعم.. ماتت محترقة.. حفيدتي.. احترقت الخيمة التي كنّا فيها.. عدّة خيم احترقت في الحقيقة، ولم يسمحوا لنا بانتشال الجثث حينها.. أغلقوا المخيّم كاملاً، وقالوا لنا إنّهم سيسلّموننا الجثث فيما بعد.. عشر سنوات ولم يفعلوا شيئاً..

المستخدم: (متعاطفاً مع العجوز) لنر..

(يقلّب بين الجثث).

(ينهض الموظّف من وراء طاولته، ويساعد في البحث اختصاراً للوقت).

العجوز: أنا آخر من تبقّى لها من أهلها.. أبوها مات منذ سنتين.. أمّها مشلولة.. إخوتها بين تركيا وألمانيا والسويد، والله أعلم أين أيضاً.. أعمامها وأخوالها كذلك.. الخلاصة، البنت ليس لها أحد سواي..

الموظّف: (يلتقط جمجمة. يتمعّن فيها) ها هي.. مناسبة جدّاً.. نصيحة خذيها.. ليست صغيرة، لكن عليها آثار دخان.. هذه البقعة السوداء أثر دخان حتماً.. الحجم ليس مهمّاً.. لا تقلقي يا أمّي.. عرفت قبل قليل أنّ بعض الجماجم تواصل النموّ بعد الموت.. هذه حقيقة علميّة موجودة على اليوتيوب.. خذيها.. إنّها حفيدتك.. مبروك..

(تمدّ العجوز يديها لتأخذ الجمجمة. لا يبدو عليها الاقتناع، لذلك تتردّد، ونتيجة تردّدها تنزلق الجمجمة من بين أصابع الموظّف، وتسقط أرضاً.. تتحطّم الجمجمة.. تتناثر العظام في الأسفل. قطع وشظايا ورماد. الموظّف والمستخدم في حالة ذهول..).

الموظّف: (وقد شبك يديه أعلى رأسه) يا الله.. ما هذه المصائب اليوم؟ خربت بيتي يا أمّي.. خربت بيتي..

(العجوز تنقّل عينيها بين الموظّف والمستخدم والجمجمة المحطّمة).

الموظّف: (موجّهاً كلامه إلى المستخدم) ها.. قل لي.. ماذا سأقول لهم؟ هذه عهدة، وقد وقّعت على أنّني استلمتها سليمة تماماً.. 120 جمجمة.. جماجم مثل الورد.. وها أنا أعيدها إليهم تراباً..

المستخدم: حادث.. مجرّد حادث.. ليس ذنبي ولا ذنبك..

الموظّف: حادث؟ لن يفهموا ذلك.. هؤلاء الأجانب ليسوا مثلي ومثلك.. لا يرحمون أحداً.. سيطردونني ويطردونك مثل كلبين..

المستخدم: يطردونني؟ وما علاقتي أنا؟

الموظّف: نعم؟! ماذا قلت؟ ما علاقتك؟

المستخدم: لا يا معلّم.. أنا لا علاقة لي بشيء.. أنت قلت لي ساعدها.. وأنت من أسقط الجمجمة على الأرض..

الموظّف: (يصرخ) أنت نذل فعلاً.. توقّعت منك كلّ شيء إلا هذا.. طيّب.. قلت لك، ولم تعترض.. لم لم تعترض؟ ها؟.. اسمع.. لن أتحمّل هذه المصيبة وحدي..

(تتوتّر الأجواء، ويبدو كما لو أنّ معركةً ستقع، لكنّ العجوز تتدخّل).

العجوز: (تنحني على الأرض، وهي تحاول أن تلمّ العظام بيديها) حصل خير يا ابني.. حصل خير.. ما تزعلوا.. لا شيء يستاهل.. سآخذها هكذا.. ليست مشكلة.. أنت قلت إنّ عليها آثار دخان.. متأكّد؟.. طيّب.. أنا أصدّقك.. لا شكّ أنّها هي إذاً..

(تخاطب المستخدم وهي ما تزال تلمّ العظام):

أعطني كيساً لأضعها فيه..

(تتلفّت حولها.. ثم تشير إلى كيس قمامة أسود فارغ مرميّ على الأرض).

نعم كيس الزبالة خلفك.. دعني أرى..

(تشدّ الكيس بيديها لتتأكّد من متانته، وأنّه ليس ممزّقاً).

مناسب جدّاً..

(تصمت.. وتتابع):

البنت الله يرحمها.. هذا نصيبها.. ماذا بأيدينا لنفعله؟

(تقولها وهي تحاول أن تمنع نفسها من الانخراط في النحيب).

(الموظّف والمستخدم يتبادلان النظرات. يأخذ المشهد بالإظلام شيئاً فشيئاً).

(بعد لحظات يغمر المسرح ضوء قويّ وعلى نحو مفاجئ، مترافقاً بأصوات انفجارات بعيدة، لنرى المكان نفسه، لكنّه هذه المرّة مليء بحشود من البشر. أشخاص بأعمار مختلفة، رجال ونساء، مدنيّون وعسكريّون، يحمل كلّ منهم رأسه بين يديه. يحيّون الجمهور بالانحناء أمامه.. ثمّ يأخذ المشهد بالإظلام تدريجيّاً مرّة أخرى، إلى أن يختفي كلّ شيء).

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.