محمد أحمد السويدي

المعرفة والمستقبل
الخميس 2023/06/01
شاعر وأديب إماراتي يكتب القصيدة المحكية بلغة تنحت نفسها من لقاء العامية الإماراتية

محمد أحمد خليفة السويدي، شاعرٌ وأديبٌ إماراتي، يكتب القصيدة المحكية بلغةٍ تنحتُ نفسَها من لقاء العامية الإماراتية مع اللغة الفصحى، ليُخرِجَ لنا قصيدةً، يمكن وصفُها بأنها محكية حديثة. من أعماله الشعرية: “موانئ السحر” 1986، “أحلام وردية” 1988، “أساور ذراع القمر” 1990، “دقاقة القطار” 1993 و”رفيق الليل” 1996 . تُرجمت مختارات من شعره إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وله مجموعة شعرية باللغة الإنجليزية. شغل السويدي في عام1987 منصب مدير مؤسسة الثقافة والفنون في المجمع الثقافي بأبوظبي. وفي عام 1990 تولى منصب الأمين العام للمجمع حتى عام 2006. وقد جعل من المجمع منارة ثقافية عربية، واستضاف في المجمع تجارب عربية وعالمية في الإبداع والفكر. اُختير عضواً في المجلس الأعلى لجامعة الإمارات العربية المتحدة في العين. يرأس حالياً مجلس إدارة العديد من الشركات الخاصة والفاعليات الثقافية والاقتصادية بالدولة، وهو عضوٌ في جمعية الاقتصاديين والتجاريين واتحاد كتاب وأدباء الإمارات والعديد من الجمعيات ذات النفع العام. له إسهاماتٌ كثيرة في خدمة الثقافة العربية، من أبرزها تأسيس موقع “الوراق” الإلكتروني الذي يحتوي على أمهات كتب التراث العربي. و”الموسوعة الشعرية العربية”، وهو العمل الذي يُعتبر من أبرز مشروعات ربط الثقافة بالتكنولوجيا. ويرعى منذ عقدين من الزمن “جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة” والمشروع الريادي العربي “ارتياد الآفاق” الذي يشرف عليه الشاعر نوري الجراح، وهو المشروع الذي حاز قبل عامين على جائزة الشيخ زايد للمشروعات الثقافية الرائدة. كذلك يشرف على دار السويدي للنشر، التي تأسست عام 1989 وتهتم بالنشر الورقي والنشر الإلكتروني، وأولى اهتماماً خاصاً بأدب الرحلة. الثقافةُ بالنسبة إلى الشاعر السويدي بمختلف مجالاتها هي شغله الشاغل، ويعمل جاهداً من خلال مشروعاته التي يرعاها، إلى ربط بلاده بالثقافتين العربية والعالمية. حاز على وسام «فارس» من الجمهورية الإيطالية في مجال الفنون الجادة وخدمة الثقافة العالمية.

مجلة “الجديد” حاورته في تجربته الثرية متناولة معه إلى جانب المشروعات التي يقف وراءها جملة من القضايا الأدبية والثقافية عموما، وذلك في مناسبة قرب صدور كتابه الضخم “منازل القمر” وهو كتاب في الأنواء والمواسم والأنجم ومظاهرها، وكذلك حضورها في الشعر والأدب والأساطير والعادات الاجتماعية، في حوالي 600 صفحة زاخرة بالنصوص والرسوم والصور والمعلومات التي تنشر للمرة الأولى.

الجديد: نستهل الحوار مع محمد السويدي بالسؤال عن أحدث إنجازاته “منازل القمر” ما المأمول من تأليف هذا الكتاب السفر والذي تتبعنا مراحل وضعه من خلال شذرات نشرتها، وعرفنا أنك صرفت في تأليفه أكثر من 10 سنوات؟

محمد السويدي: بكل تواضع أقول إن “منازل القمر” كتاب يصعد بالإنسان من عناء الدهشة بالارتحال في الأرض، وربما الضيق بها، إلى التأمل في السماء، في صحبة القمر، وضيفاً على منازله.

لكِ أن تتصوري معنى الوقوف بالليل وتأمل قبة السماء يمخرُ عبابها القمر، ونحن عارفون بأسماء النجوم التي تتلألأ تحت بصرنا؛ هذا سهيل، وتلك الثريا، وهذا البطين، وتلك الزبانى، متحسسون تأثير ظهورها في دوراتها على الأرض وعلينا، وفي الأنواء والمواسم، وما تولَّد من أساطير وتعاويذَ وأمثالٍ وأشعارٍ وتعاليم، مقارنين إياها بما وصلَت إليه العلوم الحديثة.

الواقع أن هذا الكتاب يبرهن على أن هذه رحلةٌ عربيةٌ بامتياز، فحين قرأ العرب في علومهم الفلكية صفحة السماء مضاءة بنور القمر، أضاؤوا صفحات المعرفة البشرية؛ رسموا خريطة النجوم ومنحوها الأسماء مثلما تُمنح شهادات الميلاد.

وعليه فإن هذا السفر الضخم يحتفي بحقائق نيّرة من التراث وقبسٍ من علوم العصر، شاملاً معارفَ الأجداد وأشعار العرب ولمحاتٍ من رسائل إخوان الصفا وأساطير اليونان المرتبطة بمعارك البابليين والمصريين القدماء.

أما المسعى من وضع الكتاب فهو تكريس الفضل، وإعادته إلى العربي، مع ساعة ناطقة وذكية توافيك بالمواعيد وما تزخر به المواسم من عطاء الطبيعة، وتلقي عليك الأشعار بالصوت سماعاً، وتُريك المنازلَ صوراً متحركة بالفيديو والصوت، وتعطيك حق المشاركة عبر التقنيات الحديثة في وسائل التواصل التكنولوجي. فالكتاب لن يكون ورقيا وحسب، بل ومتاحا عبر صيغ ووسائل تكنولوجية.

إنه كتاب يتيح متعة الكشف حين تنثالُ أزمانُ المعرفة وكأنها العمر كله، ما من كلمات قليلة يمكن أن تفي المنجز الحضاري العربي والإنساني في ميدان العلوم الفلكية حقه. الكتاب وحده يمكن أن يحاول ذلك. فلننتظر ظهور الكتاب إلى النور.

الذات في الآخر

الجديد: إذا ما ذكرنا اسم الشاعر محمد السويدي نرى صورةً يقترن فيها اسمه بالرحلة، عرِفنا بدايةً من أين أتى هذا الشغف لديك بالرحلة وأدبها؟

محمد السويدي: لأدب السفر مكانة خاصة عندي منذ أوائل الصبا، ربما لأن حياتي وحياة البيئة التي نشأت فيها ارتبطت بالأسفار. لكن الثقافة، من قراءات في كتب الشعر والنثر عربية وأجنبية، وولع بالسينما، والفنون الأخرى البصرية، وما تزخر به هذه المصادر المتنوعة من تجارب مرتبطة بالسفر، أو هي تأثرت بفكرة السفر، كل هذا بلور تصوري عن أدب الرحلة وعلاقتي به. وإذا كانت الكتابة في جانب أساسي منها – كما جاء في أحد أسئلتك – هي سفر في عوالم المخيلة، وأن السفر في الأرض هو بحث عن الذات في الآخر، فإن الوجهتين تُفضيان إلى المعنى نفسه، وهو معنى مزدوج: هو فرصة الابتكار في الأول، وفرصة التعارف في الثاني، وبالتالي خلق شيء جديد. وهذا يُذكرنا ببيت شعر لأبي تمام معبر جداً عن هذه الفكرة:

“وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقُ

لديباجتيهِ، فاغتربَ تتجددِ“.

 

في معنى السفر

الجديد: لكل صاحبِ يوميات في السفر، ميولٌ خاصة في رؤية الآخر وعالمه، فيمكن أن نرى الفنون والأدب، تقاليد الحياة والسلوك اليومي.. إلخ، بالنسبة إلى الشاعر محمد السويدي، ماذا يعني أدب الرحلة، وعمّ يبحث السويدي في رحلاته؟

محمد السويدي: أبحث عن المتعة، متعة الاكتشاف، ومتعة التعارف، ومتعة المعرفة، ولكم في أسفاري – في أوروبا خصوصاً – تعلمت أشياء وأشياء، لم تكن في بالي، ففي العودة من كل سفر، نحمل معنا شيئاً جديداً، كتابا، مقطوعة موسيقية، معرفة بعالم كاتب، أو فنان، نحات، رسام، شيف في مطبخ، إلخ…

السفر يغيرنا، نحن لا نعود من السفر كما ذهبنا إليه. صور السفر وشبكة المعارف المرتبطة به كثيرة ومتشعبة، وبين الرحالة على اختلافهم عناصر لقاء، وموضوعات مشتركة، ولكن لكل رحالة ميل خاص به يجعله ينتبه إلى أشياء ويهمل غيرها، شخصيا أنا مهتم بالكتب والمؤلفين وتجاربهم، بالموسيقيين ومنتجي الأفلام بالنحاتين العظام والرسامين الكبار الذين صنعوا النهضة الأوروبية، بالمميزات الخاصة في بعض الكوزينات وعلى رأسها الكوزين الإيطالي مثلاً، لفترة طويلة مثلا تولعت بغوتة ورحلته الإيطالية، هذه الرحلة فتحت لي أبواب النهضة الأوروبية على مصراعيها، لكونها رحلة شاعر وأديب ألماني عظيم عرف عنه ولعه بفنون إيطاليا وبدورها الهائل في بناء نهضة أوروبا الفنية. ولا يعني هذا الاهتمام عندي بالفضاء الأوروبي وما أنجزته الثقافة الأوروبية للثقافة الإنسانية، أنني أشحتُ بوجهي عن الجغرافيا العربية وللحيز الثقافي الذي أنتمي إليه، وللبلد الذي نشأت فيه، أبداً، فأنا أتتبع كل ما يتصل بهذه الجغرافيا وتراثها الشعري والأدبي والطبيعي، ولديّ تصورات عما ينبغي أن ننبه إلى قيمته، وما أحاول تأسيسَه من مشروعات في هذا السياق. ومن خصوصيات بلادنا أنها تقوم على علاقة مدهشة بين ثقافتي البحر والصحراء.

إنما لو كنا سنوجز الهدف من السفر، فهو إعادة التعرف على الذات من خلال التعرف على الآخر في اختلافه الثقافي، وتحويل المعرفة بالآخر إلى استثمار مستقبلي في الثقافة يعود بالفائدة على أجيالنا العربية الطالعة، وأن يكون ما سنتركه لأبنائنا مرتبطاً بالضرورة بالعصر وإنجازاته، وبالعالم وطرائقه الحديثة، لا أن يكون منقطعاً عن الإنسانية إلى أوهام ذاكرة جماعية احتلت مخيلة الأفراد ومنعتهم من الحلم بالمستقبل، والتفكير بالجديد.

◙ أبحث عن متعة الاكتشاف، ومتعة التعارف، ومتعة المعرفة، ولكم في أسفاري تعلمت أشياء وأشياء، لم تكن في بالي

الكلاسيكي والحديث

الجديد: أنت ابن البيئة العربية المُخلص، وكذلك الرحالة المعاصر، كيف يمكن أن تصور لنا الفروق بين الرحلة الكلاسيكية القديمة والرحلة المعاصرة؟

محمد السويدي: الفرق كبير حقاً، فالرحلة الكلاسيكية كما عرفناها عند أكابر الرحالة كابن فضلان والمسعودي والمقدسي والغرناطي وصولاً إلى ابن جبير وابن بطوطة والعياشي وحتى الحجري والغساني الأندلسي والطهطاوي، وعشرات الرحالة الآخرين كانت أعمالهم أشبه ما تكون بسجل ريبورتاجي تاريخي جغرافي، إثنوغرافي، كوزموغرافي، تغلب عليه النزعة الأنثروبولوجية في تدرجات من الجنينية إلى التعقيد والتركيب، كما نجد مثلاً عند أبي الريحان البيروني الذي فكك وبنى صورة الهند أنثروبولوجياً في كتابه “تحقيق ما للهند….” وهي إلى جانب هذا دليل لمسافر سيأتي لاحقاً، ومادة يقتطف منها في وصف الأمكنة، وكم مِنَ الرحالة مَن ذيّل رحلته بجدول معلومات يتعلق بالأماكن، والسبل، والطرائق، والأدوات المطلوبة في السفر.

والرحلات الكلاسيكية بعضها يشبه البرنامج التلفزيوني وأحيانا المسلسل التلفزيوني الوثائقي اليوم. أما أدبيتها فهي تتجلى في سرد لعب دوراً في التأسيسِ للرواية، حتى أن أحدهم وصفها بـ”طفولة الرواية”.

أما الرحلة التي يكتبها رحالة معاصرون في عالم تقنن تماماً، ولم يبق فيه شبر لم يُكتشف، فهي باتت ذات بنية فنية مختلفة جوهرياً، لكونها ركزت قوتها في أدبية السرد على حساب تراجع عناصر الإخبار التي ميزت الرحلة الكلاسيكية. فلم تعد الرحلة المعاصرة مادة إخبارية ودليلاً يضعه شخص زار أماكنَ لم تُزَر من قبل، ولا معلوماتٍ عنها إلا تلك التي رجع بها إلى قومه. فالعالم في ظل تكنولوجيا المعلومات والسوشيال ميديا ومن قَبل التلفزيونات والسينما بات حاضراً بين يدي كل شخص. لقد صورت الأقمار الصناعية والكاميرات كل شبر من الكوكب ونشرت المعلومات والصور عن كل شيء ووضعتها في التداول. وهكذا انتهى دور أساسي من أدوار الرحالة، الإخبار عن شيء جديد. وهو ما حوّل الرحلة إلى نص أدبي والرحالة نفسه إلى شاعر وروائي وسيكولوجي يغوص في العالم وفي أعماق ذاته معا، ليستخرج لنا تلك الصلة اللامرئية بين الذات وآخرها، والذات وعالمها. وبالتالي انتقلت الرحلة إلى طور جديد لتكون عملاً أدبياً في المقام الأول، سرد يتدفق فيه الشعري والميل إلى تعبير وجودي المَنزَع.

صورة

أدب الرحلة

الجديد: الرحلة، كانت سبباً في إنتاج أدب غني ومتنوع جداً، فأدب ابن بطوطة ونظرية داروين وإرنست همنغواي الذي كتب رائعته العجوز والبحر في كوبا.. إلخ، ولكن ورغم أنَ البيئة العربية هي بيئة مُرتَحِلة عبر التاريخ، إلاَ أننا وقبل تأسيسكم لمشروع “ارتياد الآفاق“ وجائزة “ابن بطوطة لأدب الرحلة“، لم يكن السواد الأعظم يعرف من عناوين الرحلة سوى ابن بطوطة وابن جُبَير وربما ابن فضلان، ما السبب في تأخر هذا الأدب والاهتمام به برأيك؟

محمد السويدي: ملاحظتك في مكانها، وقبل أن نؤشر على السبب، لا بد أن نشير إلى الجهود الرائعة التي بذلها المستشرقون والمستعربون في التعريف بالأدب الجغرافي عن طريق تحقيق بعض أهم مخطوطات هذا الأدب في لايدن وبطرسبورغ، ولاهاي، وباريس، وروما.. فعرفنا الجغرافيين والبلدانيين مثل أسامة بن منقذ وأبو حامد الغرناطي والمقدسي البشاري، والمسعودي، والدمشقي، وابن الربوة، والبيروني، وابن حوقل والحسن الوزان، والمسعودي، وعشرات غيرهم عن طريق المستشرقين، لا بل إن التأريخ لهذا الأدب قام به مستعربون، فوضع الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي السِّفر الأهم في هذا الميدان تحت عنوان “تاريخ الأدب الجغرافي العربي” مؤرخاً لهذا الأدب منذ نشأته وحتى القرن السابع عشر، وقد ساق في كتابه معلومات ووصفا لكل ما اكتشف من نصوص خلال ثمانية قرون. وهو عمل عظيم وغير مسبوق طبعاً. لذلك مع احترامنا لأطروحة إدوارد سعيد فإن وجهاً آخر للاستشراق لا بد من إعادة تقييمه، أن نيمّم نحوه وننظر في ما أنجزه. هل ننسى مثلاً فضل المستشرق البريطاني آرثر آربري في تحقيق “المواقف والمخاطبات” للنفّري وتعريف العرب به؟ أو ترجمة ريتشارد بيرتون لألف ليلة وليلة وتقديمها للعالم الناطق بالإنجليزية، ولتتحول من ثم إلى أيقونة أدبية عالمية.

◙ لو كنا سنوجز الهدف من السفر، فهو إعادة التعرف على الذات من خلال التعرف على الآخر وتحويل المعرفة إلى استثمار مستقبلي

لكن هذه الأعمال الرحلية التي حُققت وأُخرجت على أيدي المستشرقين والمستعربين تباعد بها الزمن وخرجت للأسف من التداول أو هي لم تُتداول إلا على نطاق ضيق في الأوساط الأكاديمية، وبات من الواجب استعادتها وشق الطريق على ضوئها لفتح خزائن المخطوطات ومواصلة العمل. ولكن بخبرات عربية هذه المرة.

“ارتياد الآفاق” الذي تأسس قبل عقدين من الزمن، جاء استجابة لهذه الحاجة، ليمكن للثقافة العربية أن تجيب بدورها عن أسئلة مركزية وقفت وراء غيابها أسباب عديدة منها سطوة الأيديولوجيا واحتلالها للعقل العربي زمنا طويلا، من هذه الأسئلة: كيف يرى العربي الآخر؟ وكيف يُعرِّف ذاته الحضارية من خلاله؟ وكيف ينظر إلى طبيعة العلاقة بينه وبين الآخر القريب والبعيد؟ وكيف يرى دوره في بناء الحضارة الإنسانية بوصفه شريكا لا تابعا، وصاحب إرث وضع لبنات أساسية في ثقافة العالم؟

ولقد رأينا في “ارتياد الآفاق” وعبّرنا عن هذا مراراً… أن رحلات الأوروبيين إلى الشرق ترجم أكثرها إلى العربية، لكن الرحلات العربية إلى أوروبا والعالم أغلبها لم يحقق ولم يطبع أو ينشر، وما نشر منها خرج من التداول ولم يعد حاضراً في الذاكرة العربية. من هنا بدأنا، من ضرورة استحضار النص الغائب، من هنا بدأ المشروع الذي تحول اليوم إلى خزانة رائعة من النصوص التي لم يعد بالإمكان تجاهل وجودها، ناهيك عن استدراك قيمتها الكبيرة بوصفها مستودع النظرة العربية إلى الآخر. بات بالإمكان دراسة هذه النظرة وتفكيك مكوناتها على أكثر من صعيد وبأكثر من منهج، وهي الآن متاحة لمن يريد أن ينهض إلى ترجمتها إلى اللغات الأخرى لتكون في متناول قراء أدب الرحلة في الثقافات التي سافر العربي في جغرافياتها وعوالمها.

◙ لو كنا سنوجز الهدف من السفر، فهو إعادة التعرف على الذات من خلال التعرف على الآخر وتحويل المعرفة إلى استثمار مستقبلي

 

جائزة ابن بطوطة

 

الجديد: منذ عقدين أسستم “جائزة ابن بطوطة“، ومع الدورة الأخيرة افتتحتُم العقد الثالث في عمر هذه الجائزة النوعية، الآن وبعد أن بلغ عدد الفائزين بها أكثرَ من مئة وعشرين فائزاً وفائزة، كيف تنظرون إلى ما تحقق، وما الذي تَصبون إليه في المستقبل؟

محمد السويدي: ما هو مهم بالنسبة إلينا مع دخول الجائزة عقدها الثالث أن الأعمال التي أنجزت من خلالها تحولت عاماً بعد عام إلى خزانة عربية زاخرة بمئات النصوص في أدب يعتبر بامتياز الثمرة الأشهى للتواصل بين الثقافة العربية وثقافات العالم. الدورة الأخيرة تضيف إلى هذه الخزانة أحد عشر كتاباً جديداً، والفائزون يغطون رقعة واسعة من العالم العربي، ويتجاوزونها إلى المهاجر الأوروبية، ممن حققوا مخطوطات عربية أو وضعوا دراسات في أدب الرحلة، ليصبح في رصيد الجائزة من الفائزين عبر دوراتها المتعاقبة 128 كاتبة وكاتباً. من تطلعاتنا في الأعوام القليلة القادمة استقبال رحالة من لغات وثقافات مختلفة وتكريمهم خلال احتفالات الجائزة، إن في الإمارات او في لندن أو في المغرب لاسيما منهم من غامروا في رحلات أثمرت يوميات ذات قيمة خاصة لثقافاتهم والثقافة العربية. العام الجاري على سبيل المثال سيشهد نشاطاً استثنائيا لمشروع “ارتياد الآفاق”، ومن جملة ما سيركز عليه المركز هو توسيع إطار الشراكات والتعاون مع المؤسسات الثقافية العربية والأجنبية لإنجاز مشروعات جرى التخطيط لها في السنوات الأخيرة، وتأجلت بفعل جائحة كوفيد – 19 وما فرضته علينا، كما على غيرنا، من إكراهات غير مسبوقة. ولدينا مشروع مع الهند يتعلق برحلة ابن بطوطة وبالرحالة العرب إلى المدار الهندي.. لا أفضل أن نكشف كل العناوين حتى لا تبدو كلماتنا مجرد وعود، والأفضل أن ننجز ثم يرى الناس عملنا.

 

شراكات ثقافية

الجديد: حبذا لو نقف عند ما عقدتم من شراكات مع مؤسسات ثقافية عربية، في المغرب في السودان، الجزائر وقطر والبحرين أيضاً، كيف تقيمونها حتى الآن وإلى ماذا تتطلعون من خلال هذه الشراكات؟

محمد السويدي: تجربتنا في التشارك مع مؤسسات ثقافية عربية رسمية وغير رسمية ساهمت في تحقيق العديد من الإنجازات التي يمكن أن يبنى عليها. أكثر شراكاتنا ديمومة هي التي أقمناها مع المغرب الأكاديمي والرسمي أيضا ممثلا في “المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء” ومؤخرا في الرباط، ومع وزارة الثقافة، وقد كرّست هذه العلاقة احتفالية سنوية توزع خلالها جوائز ابن بطوطة وتعقد ندوة علمية وأدبية للأعمال الفائزة، وهي موازية عمليا للاحتفالية المشابهة التي نقيمها سنوياً في الإمارات في إطار المعرض الدولي للكتاب في أبوظبي. عقدنا في المغرب أربع ندوات سنوية كبرى تحت عنوان “ندوة الرحالة العرب والمسلمين: اكتشاف الذات والآخر”، وفي إطار الشراكات نفسها عقدنا دورتين من هذه الندوة في الجزائر ودورة في قطر وأخرى في السودان وكذلك في البحرين. ولهذه الندوات أهمية كبيرة في خلق بيئة للتواصل في هذا الحقل، وهو ما من شأنه إيقاد جذوة البحث في أدب الرحلة واجتذاب المزيد من الباحثين والكتاب إلى هذا الحقل. في السودان مثلا أعلن من على منبر الندوة في 2005 عن إنشاء كرسي لأدب الرحلة في جامعة الخرطوم وإدخال أدب الرحلة كفرع دراسي مستقل، وهو عمل ريادي يحصل للمرة الأولى في الأكاديميا العربية. أسوق هذا كمثال واحد لا أكثر على الآثار الطيبة لعملنا. وفي الخلاصة لدينا اليوم عمل توسيع شراكاتنا، لاسيما مع إخوتنا في المملكة العربية السعودية التي تشهد نهضة متجددة وانفتاحاً ثقافيا محموداً.

صورة

مشروع رواد الآفاق

الجديد: خلال السنوات الماضية، أرسلتم في إطار مشروعكم “رواد الآفاق“ رحالة إلى أكثر من جهة في العالَم، الصين تركيا الهند وغيرها، ما الذي تنتظرونه من هؤلاء الرواد عندما يعودون من أسفارهم، وهل مازال هذا المشروع قائماً؟

محمد السويدي: أهم ما ننتظره، هو أولا أن يعود الكاتب من رحلته مسروراً، وممتلئاً بما اتصل به وتعرّف عليه واختبره في السفر، ثم أن نفوز منه ويفوز القراء بكتاب جديد في أدب الرحلة. لأننا نؤمن أن  كل كتاب بعد سَفَر هو سِفرٌ جديد في المعرفة.

 

الثقافة والتكنولوجيا

الجديد: كنتم من أوائل المثقفين العرب الذين اهتموا بربط منجزات الثقافة العربية بالتكنولوجيا من خلال رعايتك لمشروعات عديدة أبرزها موقع “الوراق” الذي يحتوي على كتب التراث والفكر والفلسفة والجغرافيا والتاريخ و”الموسوعة الشعرية العربية” وغيرهما من المشروعات التي تنطوي على نفس الربط الإلكتروني، كيف تُقيِمون درجة التفاعل مع هذه الأعمال من المثقفين والمُتَلقين؟

محمد السويدي: عندما بدأنا في هذه المشروعات كانت الساحة خالية، التلقي كان بطيئاً في البداية، ثم صار مدهشا، وسرعان ما ألهمت هذه المشروعات جهات عربية عدة لعمل الشيء نفسه، من شعاراتنا في تلك الفترة “من لا موقع له على الإنترنت لا موقع له في الأرض”، في حينه بدا هذا الشعار طموحا ومتعجلاً، والآن يبدو بداهة قديمة. وكما ترين، اليوم كل شيء تقومين به بصورة واقعية يمكنك تحقيق جله عن طريق العالم الافتراضي. ارتباط الإنسان وحاجاته المعرفية بالتكنولوجيا هو في سبيله إلى أن يذهب أبعد من كل تصوراتنا.

◙ صرفت وقتاً مديداً في دنيا السفر وعوالم الترحال، وهو وقت أشعر اليوم أنني عشته كصوفي يتجول، أو شاعر في سفر

الشعر والسفر

الجديد: منذ فترة طويلة لم يصدر لك ديوان شعر، هل هناك جديد شعري لديك، أم أنَ الانغماس في ثقافة الرحلة والتركيز على ابتكار سُبل جديدة لتقديم الثقافة العربية في صيغ إلكترونية معاصرة يقول للشاعر: استرح قليلاً؟

محمد السويدي: الشعر يعيش في كياني الشخصي قارئا أولا، وصاحب سطر شعري ثانياً، الشعر لا يغيب، ولا الميل الشعري الذي يمكن أن يتجلى في مشهد من فيلم سينمائي أراه، أو صفحة في رواية، أو قطعة موسيقية أو حدث مّا أو ظاهرة استثنائية. أما كتابة الشعر فهي عمل لا موعد له… يأتي على طبيعته. في أوراقي ما لم ينشر، لديّ مجموعة شعرية جديدة جاهزة للنشر منذ فترة، إضافة إلى مجلد الأعمال الشعرية الكاملة والذي سيصدر هذا العام. اهتمامي الحالي هو وضع اللمسات الأخيرة على رحلاتي: الإيطالية والإنجليزية والفرنسية والجزائرية.. صرفت وقتاً مديداً في دنيا السفر وعوالم الترحال، وهو وقت أشعر اليوم أنني عشته كصوفي يتجول، أو شاعر في سفر. ربما بعد أن تصدر يومياتي التي أشرت إليها، أتحرر من الحمولات المعرفية المرتبطة بالأسفار، وأنصت إلى الأعماق التي يعتمل فيها الشعر، إذ ذاك لا بد أن تطرق القصيدة الباب.

 

المطلق والمؤقت

الجديد: السؤال السابق يُحيلني إلى سؤال أختم به، الشعر في كينونته، سفرٌ في المخيلة والرحلة، سفرٌ في الأرض.. أين تلتقي الكينونتان وأين تفترقان؟

محمد السويدي: تلتقيان على مفترق في المطلق، وتفترقان في الزمن المؤقت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.