محنة التفكير المختلف
شدتني قصة صحفية نشرت قبل سنوات، تدور حول توقيف شاب من جنسية عربية صنع صاروخا، فتم القبض عليه داخل ثكنة عسكرية في بلاده بتهمة الإفراط في التفكير، بعد أن قصدها ليعرض صاروخه على الضباط والقادة الأمنيين، معتقدا بأنه يقدم عملا وطنيا يستحق أعلى نياشين الدولة، وأدت بي هذه القصة إلى استدعاء العديد من القصص والمواقف المماثلة التي تعرّض لها علماء أوروبا وفلاسفتها في عصر الظلمات، قبل أن تتحرر من سطوة الكهنوت، وبما حدث أيضا مع علماء وفلاسفة مسلمين تعرضوا لمحنة حقيقية بسبب أفكارهم غير المألوفة في ذلك الوقت.
إن كل الأفكار العظيمة المستحدثة بدت ساذجة وغريبة وجوبهت بمقاومة عنيفة لخنقها وقتلها حال بروزها في بيئتها الأصلية، التي لم تنشأ على قبول الجديد والمختلف، ولم تألف التأقلم مع ما يطرأ من تغير غير تقليدي في النظم والبنى القائمة، ووصفت تلك الأفكار على أنها إما شطحة من شطحات الخيال الجامح، أو أنها مسّ من الجن أو الخبال أصاب أصحابها، وفي أسوأ الحالات -كما يروي التاريخ البشري- خروجا عن الملة وكفرا بواحا بالدين وعقائد الآباء والأجداد، أو تحديا للسلطة الدينية و السياسية المهيمنة، ثم ما لبثت أن لاقت قبولا وتوظيفا في الحياة العملية في بيئات أخرى بعيدة نسبيا في الزمان والمكان، كنتيجة حتمية لتطور الفكر الإنساني ونضوجه، واتساع إدراك العقل للظواهر من حوله، فقد بدت دعوة النبي محمد عندما ظهرت في مكة، على أنها ضرب من السحر والجنون وخروجا عن المألوف من عقائد الأولين، وقالوا عنه -عليه الصلاة والسلام- بأن به جنة، قبل أن يكتشف العالم كله عظم رسالته وعبقريته الفذة، ليتوسع الإسلام اليوم في مشارق الأرض ومغاربها غير متعارض لا مع العقل ولا مع الوجدان، لا مع حركة التاريخ ولا مع متطلبات الواقع وآفاق المستقبل.
وفي القرن السابع عشر، ظهر نيوتن بعيدا كل البعد عن المنطق والعلم والواقع عندما فكر في الوصول إلى القمر باستخدام خاصية جذب المغناطيس للحديد، فقد سوّغ له خياله القول بإمكانية تشييد جسر من الأرض إلى القمر عن طريق صنع قمرة حديدية مفتوحة من الأعلى، يجلس بداخلها رجل قوي البنية يحمل كرة مشبعة بالمغناطيس، ويقذفها باتجاه السماء لتجذب القمرة، ثم يلتقفها ويواصل نفس الحركة حتى يصل إلى القمر، وهاهم العلماء اليوم، ومنذ القرن العشرين يشتغلون على نفس الفكرة، وبمعارف وأدوات علمية وتقنية أكثر تطورا لإرساء مشروع ضخم لتشييد جسر إلى الفضاء شبيه بمصعد أو قطار، ينقل البشر إلى مرابع لم تكن في سابق الأزمان مفكرا فيها بهذا العمق والجدية.
وقد عانى غاليليو غاليلي في القرن السادس عشر بسبب قوله بكروية الأرض ومركزية الشمس، وحاكمته الكنيسة وأحرقت كتبه، واتهمته بتحدي سلطتها والخروج عن تعاليم الإنجيل، قبل أن ينصفه آخرون بعد انقشاع الغمامة التي كانت تحجب الحقائق عن أعين الناس وعقولهم، واكتشف أهل العلم وخاصته كم كان عظيما هذا الرجل، وكم كانت أفكاره صادقة ودقيقة، ويكفيه أن يعتذر الفاتيكان، وهو أعلى سلطة كنسية في العالم، سنة 2008 عن مهزلة محاكمته، في حلقة أخيرة من مسلسل الاعتذارات التي تواصلت لأزيد من أربعة قرون، وقبل ذلك، فقد عمد المتحمسون “لغاليليو غاليلي”بعد وفاته، إلى قطع إصبعه والاحتفاظ به داخل إناء، ويوجد هذا الإصبع إلى الآن محفوظا في أحد متاحف إيطاليا، وهو فعل رمزي أراد أصحابه من خلاله تكريم غاليليو الذي هدم أسوار الجهل التي حجبت بها الكنيسة أنوار العقل والعلم والمعرفة على عامة الناس، وفرضت منطقها فقط، القائم على ما جاء في الإنجيل والنظريات اليونانية القديمة، لتهبّ بعد هذه الحادثة بسنوات، رياح التفكير العلمي على العقل الأوروبي، وتنشر ثورة حقيقية قائمة على منهج وأدوات علمية وتشيع بين الناس، والجميع يعرف الآن ثمار هذه الثورة التي دفعت بأوروبا إلى تأسيس حضارتها وتثبيت أقدامها في العالم.
لذلك، فإنه من نافلة القول أن نؤكد على أن الثورة الوحيدة التي لا تفشل ولا يمكن لأيّ أحد أن يكتم أصواتها وفعاليتها، هي ثورة العقل والفكر، لأن الفكرة لا تموت بموت أصحابها، تعيش وتنتعش بين الناس كلما وجدت المناخ المناسب، في أيّ مكان وفي أيّ زمان.
إنه لطالما كان المسكوت عنه واللامفكر فيه، أبوابا موصدة لا تغري بطرقها سوى الباحثين عن الحقيقة لذاتها، الذين يهمهم فهم الآلية التي تسير بها الأشياء والعالم من حولهم، و يغريهم تتبع الحبل السري الذي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، فتراهم يفتحون هذه الأبواب على مصراعيها، ويدلفون منها حاملين قبسا من نور الحكمة والعقل والمنطق، غير آبهين لما قد يعلق بهم من غبار التراث والتاريخ والتخوين والتتفيه، ولا تكبح تقدمهم كل الجدران الميتافيزيقية السميكة التي تحيط بالإنسان، بينما الذين لا تستفزهم الأسئلة حول الحياة وصيرورتها، والأحداث ومآلاتها، والحقائق وكنهها، محكوم عليهم بالعيش في العمى الفكري والروحي، مربوطين بقيود الأفكار المسبقة داخل دوائر وعي ضيقة لا تسمح لهم بالتطلع لما وراء إدراكهم المحدود.
السرعة المذهلة التي يسير بها العالم، في سعيه الحثيث نحو امتلاك المعرفة وابتكار طرق وفنون جديدة للعيش، تثير فينا الغيرة إذا قارناها بالرائج في مجتمعاتنا العربية، من أفكار لا زالت لصيقة بالرجعية والعبثية في أحايين كثيرة، فقد تطور العالم من حولنا وتوسع الفكر الإنساني إلى حدود بعيدة جدا في مختلف أصناف المعرفة، إلا هذا الفكر الذي يسود مجتمعاتنا، والذي لا يزال هو هو منذ قرون، ميزته السطحية والميوعة والتقليد، يناقش الأفكار القديمة وظواهر الأشياء فقط، ولا يبحث في لب المشكلات والقضايا الكبرى التي تحدد مصير الأمة بكاملها والإنسانية عامة، فالعالم اليوم مشغول بأسئلة كبرى لا زالت مقلقة للعقل وتبحث عن إجابات شافية، من قبيل:
– ما سلسلة التفاعلات التي تكونت منها الحياة؟ (سؤال في علم الكيمياء).
– لماذا يتسع الكون بهذه السرعة؟ (سؤال في علم الفلك).
– ما التركيب الكامل لـ”البروتيوم” وما وظيفته؟ (سؤال في علم الأحياء).
– هل من الممكن أن نضع خريطة واضحة للطقس تمكننا من معرفة الأحوال الجوية على مدى طويل؟ (سؤال في علم الجيولوجيا).
– لماذا نستطيع قياس كتلة بعض الجسيمات بينما لا نستطيع تحديد كتلة جسيمات أخرى؟ هل لأنها لا تحتوى على كتلة؟ (سؤال في علم الفيزياء).
– لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء، و هل الكون حقيقي؟ (سؤال في الفلسفة).
أما نحن فما زلنا لا نتقن حتى طرح الأسئلة، ولا تقلقنا المشكلات التي تواجه الإنسان، بل ترانا نكتفي فقط بأسئلة ينتجها الكهنوت والهراطقة من الساسة ورجال الإعلام، حتى صرنا كأننا نعاود تجربة العيش في عصر الجاهلية الأولى، فالقبائل التي كانت تتناحر من أجل مراتع الإبل والخيل، صارت تتقاتل بضراوة من أجل آبار النفظ والثروة والسلطة والنفوذ، والعقل الذي كان حبيس حدود الخيمة وبلا أفق، منغمسا فقط في التفكير في ملذات الجسد الحسية وسبل تحصيلها والظفر بها، هو نفسه العقل اليوم الذي لا يفكر سوى في إشباع غرائز صاحبه والجري المحموم وراء الماديات، دون أن يتجرأ على فك قيوده الفولاذية، أو مدّ أجنحة لنفسه يحلق بها في سماوات الإبداع والابتكار، والانخراط في صناعة التاريخ والحضارة الإنسانية، حتى صار عالة على هذه الأخيرة، مهزوما مقلدا وتابعا.
وفوق ذلك، فإنه تهيمن على مجتمعاتنا، نزعة تلغي البدائل وتنفيها، خصوصا لدى القيادات السياسية والنخب الاجتماعية والإعلامية، بما يقود الناس إلى الاستئناس بالرائج الرديء والمفروض، ولو على مضض، وفي أحايين أخرى بردود فعل لا تعدو كونها صيغا يائسة للاحتجاج على وضع أو قضية أو ما شابه ذلك، من خلال ما يتم نشره على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
المؤسف أن هذه النخب تتمسك بعقلية (TINA) أي انعدام البدائل (THERE IS NO ALTERNATIVES)، وتروّجها داخل المجتمع بدرجة كبيرة حتى يؤمن الناس بها ويرضخوا للأمر الواقع، وفي هذا الكثير من الأمثلة، كأن يُسوّق لزعيم أو رئيس حزب بأنه الأوحد القادر على القيادة، وذهابه سيؤدي حتما إلى الانهيار أو الفوضى، أو يتم إحاطة رجل دين بهالة من القداسة لا تسمح بمناقشة ما يقوله في خطبه وفتاويه، وحتى في الإدارة عندما يُروّج لمدير أو مسؤول على أنه هو الوحيد الذي يملك الكفاءة في التسيير وأن غيره لا يملكها، لذلك يجب الرضوخ للأمر الواقع وعدم التطلع لتقلد المسؤوليات في وجود النموذج الأوحد والمثالي للقيادة.
أن نتغير بشكل إيجابي هو حتمية وجودية وضرورة حياتية، تكون فيه الغلبة للكفاءة والجدارة والتجديد، وأن تغلّب عقلية وجود البدائل على عقلية انعدام البدائل، رغم أن الحرب على الوعي الجمعي، ما انطفأت جذوتها أبدا، بل إن شررها يتطاير كل يوم في مختلف وسائل الإعلام، وهدفها بث الروح الانهزامية وتثبيط العزائم، وإقناع الناس بأنهم غوغاء ضعاف لا يجيدون سوى لغة الموت، متخلفون وغير قادرين على الصمود، مجرد قطيع جُبِل على التقليد وقاصر عن الإبداع والتجديد، في حين توجد تجارب جادة وخبرات إحيائية كثيرة ضربت أروع الأمثلة في مختلف التخصصات المعرفية والمشاريع ذات النزعة الإنسانية، يقف أصحابها سدا منيعا أمام العديد من الحملات والمشاريع الهدامة، من خلال عدم اكتفائهم بالمشاهدة السلبية للأحداث، بل نراهم يجتهدون في البحث عن الخلاص بالإمكانيات القليلة المتاحة، يحدوهم إيمان كبير بأن هذه الأمة تضعف لكنها لا تموت، تغفو لكنها لا تنام.
إن التخلص من التخلف يعني تحرير التفكير بالمطلق، وهذا ما فعلته أوروبا في بدايات نهضتها، وفعلته كل الدول التي مضت في طريق البناء الحضاري، باستثناء الحاصل عندنا، حيث تثير كلمة الحرية (في كل المجالات) نوعا من الريبة وتجاوز الحدود، إنه مصطلح مخيف جدا ومقموع، رغم أن حضارة أجدادنا تفتقت واتسع الإنتاج المعرفي فيها بوجود حرية غير مسقفة ولا حدود لها.
فالعنف الديني والسياسي والاقتصادي الذي تمارسه الأنظمة السياسية وتُسلِّطه على رقاب الخلق باسم جماعات رمزية، زيادة على الأطر الإعلامية التي تقيد الإنسان ضمن رؤية أحادية مقصودة للواقع والحقائق تحت شعار “ما أريكم إلا ما أرى”، صارت اليوم بمثابة غابة من الفزاعات التي تخيف طائر الفكر وتمنعه من التحليق بحرية في سماوات الإبداع.
و كما يقول المناطقة والمشتغلون في حقول العلوم التجريبية “لكل علة سبب”، فنحن نعيش فعلا في عالم من الأسباب والنتائج، لذلك فالأوضاع التي نعيشها نتيجة، والتخلف الذي نعانيه اليوم نتيجة أيضا، وتغيير هذا الواقع لا يكون إلا بمعرفة الأسباب وتعديلها أو تغييرها بتبَصُّر وحكمة.
إن ما يحصل لنا هو نتاج البيئة الفكرية والسياسية والإجتماعية التي ولدت فيها أجيال عديدة و شربت من معينها الفكري والعقدي والسلوكي، وإن كانت المؤامرة جزءا من هذا الواقع، ولا يمكن تجاهلها كعامل مهم لما يحصل، إلا أن المسؤولية الكبيرة تقع على عاتق المنظومة المجتمعية التي نحيا في كنفها وننهل من قيمها وأفكارها، والحل يكمن في إعادة صياغة هذه المنظومة بأفكارها وقيمها بشكل راديكالي، أو على الأقل تصحيحها وتنقيتها.
تبدو الحرب على تخوم العقل المتكلس وحصون الذهنيات المعلولة هي الحرب المنشودة اليوم التي يجب خوضها بلا هوادة، فالعبور إلى ضفة حضارية جديدة يقتضي مد جسر إلى مملكة التفكير النقدي والإنتاج المعرفي والأدبي والحرية الفكرية، وهذا لا يكون إلا إذا جهزنا أسطولا من النخبة والخبراء والكفاءات الشريفة والمخلصة، القادرة على وضع الخطط والاستراتيجيات، وإعداد مناهج التعليم والتفكير الجيدة والحديثة، وإشاعتها على نطاق واسع، مع تعبئة جميع أفراد المجتمع من أجل الانخراط في العملية وإنجاحها، علّنا نلحق بالركب الحضاري الذي تفصلنا عنه مسافة تمتد على مد البصر.