مدينة ميازاكي الفاضلة
لا شك أن اليوتوبيا الكلاسيكية في تاريخ الأدب الإنساني قد عفى عليها الزمن؛ فمدينة أفلاطون وطوباوية الفارابي حواضر عتيقة لم يعد يعيبها فقط لغز تحصيلها، بل يصيبها الخلل بسبب غفلتها عن معضلات استجدت، لا تمتلك تلك العوالم ترياق علاجها. كيف سيتعامل الفلاسفة الأوصياء مع تلازم رفاه العيش بالتلوث البيئي ومستقبل الكوكب خارج حدود مدينتهم الضيقة؟ من سيعتني بصغار مجتمعهم المتماسك في منظور مساواة يغيب فيه الوالدان للعمل؟ هل يشجبون التقنية وبعض مخرجاتها التي قد تحمل في طياتها وسائل لدمارهم أم يجيزونها؟ هل تُقَدّمُ في مدينتهم الفاضلة الإنسانية أم الكوكبية وحماية البيئة والحيوان، وكيف تتيسر مصالحتهما بينما تقتضي حقوق الناس ورفاهيتهم وازدياد نسلهم تدمير الأخرى؟ أوردت لنا الثورة الصناعية ثم عصر مابعد الحداثة أسئلة يعجز فلاسفة الماضي عن تصورها وتستعصي على فلاسفة الحاضر حلولها.
في خضم هذا الواقع الشائك الملتبس وفقدان بوصلة الصواب، تلوح بين الفينة والأخرى ومضات حلول من أرض شارك أهلها في بداية القرن الماضي بتدمير هذا الكوكب، إلا أنهم ما برحوا أن فهموا العظة وتلقفوا الرشد قبل غيرهم.
تمثل أعمال المخرج الياباني هاياو ميازاكي أنشودة سلام وتعايش يعجز بعض علماء الاجتماع عن فهمها أو وصفها. تتجلى في أفلامه حلول آفات الإنسان المعاصر وطرق خلاصه، فهو المخرج الرسام المبدع والمفكر الواعظ الفيلسوف. تكمن جذور قوة هذا الرجل في قدرته العجيبة على التخاطب مع كل أجيال الإنسان بما فيه جيل الألفية.
يمكن أن تفهم أفلامه بثلاث أو أربع طرق ويختلف النقاد في دلالاتها ومعانيها. يتكوّن جمهور هذا المخرج العظيم من جميع أطياف المجتمع وكل فئات أعمارهم؛ ففي مسرحه يتصنّم الصغير والكبير معاً أمام الشاشة ويستمتع المحافظ والتحرري سواسية بروائعه.
لا يسعني لمحدودية حجم هذه السطور الحديث عن الجمال والبراعة في أعمال هذا المبدع، إن كان في الرسم والموسيقى أو النمط والإخراج، وإنما سأتحدث عن فلسفة ميازاكي.
أفلام ميازاكي لها ريتم معين ووتيرة خاصة، يعرفها العتاة من جمهوره. تدور الكثير من أفلامه في زمن ما بعد اندثار الحضارة البشرية وتبعات انقضاء الثورة الصناعية، حتى يتسنى تصالح الإنسان مع الأرض والطبيعة.
يعتقد ميازاكي أن الإنسان لن يتخلص من موروث الشر وترسبات تأدلج عليها بسهولة؛ بل لن ينفك حتى بعد اندثار حضارته يكافح الى أن يتطهر من موروث تشفر في جيناته. عالم ميازاكي مليء بتوربينات الهواء الدوارة ومفعم بالطائرات والمركبات المحلقة المتغذية بالطاقة النظيفة، والتي لا يسهب البشر في استعمالها، بل يسوسونها لما في صالحهم وخير الكوكب وكائناته سواسية.
رؤيته متسامحة مع العلم والتقنية ولا يرى تعارضا بينهما وبين العيش السلمي، لكنه يؤمن بأن العلم يصلح فقط عندما يتطهر البشر من موروثاتهم الشريرة. لا يرى الطائرات كرمز حرب وشرّ، بل يرسمها في الغالب كطيور سلام تحلق في السماء الزرقاء لإسعاف المنكوبين وتخليص المستضعفين.
أبطال ميازاكي المُخَلِّصون للبشرية هم فتيات نقيات تشربن العطف والحب وقدمنه على الأنانية وتقديم الذات؛ فهو يرى فطرية سلوك الأنثى الرقيق المتقد بالعاطفة أقرب الى سبيل الخلاص من الرجل، خصوصا وهي في مقتبل العمر قبل أن يطبعها العالم المحيط بطبعه.
ها هي نوسيكا [1] مرتدية زياً تلون بدم يرقة الحشرات الأزرق، تفاجئ العالم الذكوري بأنها هي رسول الخلاص بدل الرجل متوشح الزراق ذي اللحية كما جاء في الأسطورة، بعدما أدركت أن الغابات الزاحفة والحشرات الشرسة كانت تحمي الأرض الوليدة وتنقّي التربة والماء سراً تحتها، والبشر في غيهم يتحاربون ولا ينفكون عن تدمير أنفسهم وأرضهم.
أما شيهيرو [2] فتبحر في عالم الوحوش الغامض، تبني اعتمادها على ذاتها بفهم صحيح للآخرين والبيئة من حولها كما فعلت قبلها كيكي [3]، لتتعلم منه أهمية الاكتفاء ونبذ الجشع والشره بخلاف ما أنشأها عليه أبواها دون وعيهما. ها هما عدنان ولينا [4] ببدائية الفطرة القويمة يتخلصون من القلعة وطموحها المدمر في إعادة استخدام الطاقة الشمسية بعدما دمرت الكوكب، فيعيدون ترميم وبناء الأرض حسب الأسس الأنسب والقواعد التعايشية السليمة. ليست الطاقة ولا السرعة والقوة في منظور ميازاكي هي المشكلة، إنما أساس المعضل هو الإنسان وتأصيله للغاية وماهية الحياة.
يتعفف ميازاكي الإنسان من إيذاء شعور الطفل البريء بنهايات حزينة كئيبة كما يفعل صاحبه في أستدويو غيبلي تاكاهاتا على سبيل المثال، ولكلّ مدرسة رأيها الصائب في الأمر. لكنه يزداد رونقا بنهايات تحتمل معاني متعددة، فيأخذها الصغار بفرح متسلّحين بخيال لامحدود بينما يدرك الكبار المغلوبين بالواقعية على أمرهم مأساة الفاجعة خلف ستار المجاز؛ فلعل ساتسكي وماي [5] توفيتا فعلا لكنهما تظهران مجازا على جذع شجرة في آخرتهما تبحلقان بفرح في والدتهما المريضة عند شفائها بعد مساعدة صاحبهما الخيالي المخلص توتورو؛ ولعل نوسيكا قد قضت أجلها مضحية بذاتها بعدما سُحِقت تحت أقدام الحشرات قرباناً للبشرية من خطاياها، لكنها بُعِثت للحياة معنويا بإحيائها لبني جنسها، فكان قبرها تحت الغابات الزاحفة في آخر مشهد دليل فنائها لمن استدرك.
أخيرا يرى ميازاكي أن الإنسان علة نفسه في طريقة فهمه للحياة وتغليبه الأنانية على التعايش. مدينة ميازاكي الفاضلة يتشارك فيها الإنسان مع البسيطة وجميع أحيائها دون النأي عن العلم أو استئصال التقنية عن العيش؛ فهو لا يدعو إلى نبذ المدنية وعودة الإنسان إلى سابق عهده كما يناشد بعض دعاة السلام ووعاظ الرجوع الى البدائية من أمثال تولستوي وثورو أو المهاتما غاندي وغيرهم. عالم ميازاكي يمثل معادلة صحية للإنسان المعاصر، فيها خارطة خلاصه. أتمنى ألا يفوت نوبل للسلام منح الرجل الذي رفض تسلم جائزة الأوسكار بسبب غزو الولايات المتحدة للعراق احتجاجاً، جائزة قل مستحقيها من متسلميها؛ فهو عراب السلام الواقعي لإنسانية نخرتها الشوفينية والعصبية.
الهوامش:
[1] نوسيكا أميرة وادي الرياح 1984.
[2] المخطوفة 2001.
[3] كيكي لخدمة التوصيل 1989.
[4] عدنان ولينا 1978.
[5] جاري توتورو 1988.