مدينتي المدمرة
كان صوت الدّم من أعلى الأصوات في المشهد التاريخي الذي ما زلنا نعيش فصوله الأكثر وحشية ودموية. لم نكن نتصور أننا سنعيش هذه الحالة، فإما الاستبداد طويل الأجل الذي يرافقه الأمان الظاهري والسكون المجتمعي أو الحرية التي لم نتخيل شكل حضورها إلينا. ولقد اعتقدنا مخطئين أن الوحشية المفرطة وسفك الدّم فعلان ماضيان ينتميان إلى تاريخ غابر أو بلاد بعيدة وأننا “أصحاب” حضارة راسخة وفلسفة عظيمة وأديان سمحة لا تسمح لنا بارتكاب مجازر تقشعر لها الضمائر.
لكن أظهرت لنا الأحداث والوقائع المؤلمة أنّنا نعيش الوهم بحذافيره، ظهر أننا لم نحسن قراءة شعوبنا المستعدة للانخراط في الثورة لتوقها الشديد إلى الحرية وبنفس الدرجة هي مستعدة للانخراط في ارتكاب أعمال لا يتصوّرها عقل إنسان. لقد ظهر لنا أن تربية الإنسان عندنا هي تربية مذهبية طائفية عنصرية فاشية وأن كثيرًا من الناس يربّون وحوشًا في بيوتهم لا بشرًا. كذلك فإننا لم نفهم حقيقة دولنا القائمة على العنف الخفيّ أصلًا ولم نستطع قراءتها قراءة صحيحة حين لم نتوقع منها هذا الكمّ الهائل من القسوة المضمرة.
لقد تفجّرت براكين الأحقاد فجأة وقد ظنّناها خامدة هامدة. آن للدم المتجمع تحت قاع المجتمع أن يتفجر كالينابيع ويسيل على الأرض أنهارًا دون أن نجد في الأفق بصيص أمل يوقف هذه السيول.
يقف الرّوائيّ أمام هذا المشهد المذهل محاولا رسم صورة دقيقة له وسبر أغواره والبحث عن خلفياته. يحاول الرّوائيّ تفسير ما حدث على ضوء التاريخ المعاصر الذي لم نشهد فيه نسمة حرية. وقد انعكست الأحداث هذه في الروايات العربية التي كتبت خلال هذه الثورات وركّز بعض الرّوائيّين على ظاهرة الإرهاب فقط (وهي من مفرزات الهمجية المعاصرة) دون معالجة الأسباب المؤدية لهذه الظاهرة العنيفة.
شخصيًا كتبت رواية “دم على المئذنة” ليس احتفاء بالدّم بل تنديدًا بسفكه بهذا الشكل المخيف. في روايتي هذه التي تدور أحداثها في بلدة عامودا السورية حاولت التقاط تفصيل صغير من تفصيلات ما حدث في سوريا من صعود نجم الإرهاب وعنف السلطة ووصوله إلى أقصى درجاته.
كتبت أيضًا رواية “عشيق المترجم” داعيًا إلى التسامح. ربما تبدو تلك الدعوة مستهجنة خاصة أنها تأتي في وقت لا يسمح فيه السّلاح بسماع صوت آخر يعلو عليه، لكنّنا كروائيين نرصد الواقع ونستمد خامة رواياتنا منه لا بد أن نرفع أصواتنا منددين بالمقتلة الكبرى باسم الدين والوطنية.ِ
حاليًا أكتب رواية عن مدينتي المدمرة كوباني (عين العرب) التي تعمّدت بالدّم كغيرها من المدن. هذه الرّواية التي أسجّل فصولها حاليًا بحزن وغضب، أزاحت باقي المشاريع الرّوائيّة التي لم تكن لها علاقة بما يجري الآن. لم يكن في الإمكان غض النظر عن الدّم المسفوح، الدّم الذي له جاذبية تغري أعظم الرّوائيّين بالوقوع في فخاخه القانية.