مرآة المرأة في أدب الأطفال
تشكّلت في وعينا الطفليّ صورة المرأة من خلال نموذجين نقيضين في قصص الأطفال؛ فهي تلك الفتاة الجميلة البريئة والطيّبة، أو المرأة الشّريرة، المتجسّدة في شخصيّات الخالة -زوجة الأب- والغولة والمشعوذة. لطالما كانت التربية تقول كلمتها من خلال الحكايات، حكايات الجدّة المتوارثة من أمّ إلى أخرى لتتشرّبها الفتاة من طريق السرد؛ وللحكاية سحرها في تخليق المواقف وبناء الوجدان.
الترغيب والترهيب ماثلان في أيّ حكاية وعظيّة، كما الثنائيّات المتصارعة: الخير والشرّ، الجمال والقبح، البراءة والخبث، والحبّ والكراهية… للهلع المبثوث فعله في النفوس! من أين تأتي هذه الصور النمطيّة للمرأة، وإلى أيّ جذور عَقديّة تعود؟ لمَ أغفلنا بعض الثيمات والصراعات في فهمنا للمسرود؟ تأتي بعض الإجابات من الحكايات نفسها، كما يأتي الردّ من حكايات طفليّة معاصرة قلبت الصّورة، وبدّلت الكثير من المفاهيم.
لا أريد العودة إلى ما قبل جيلي في هذه المقالة إلّا لمامًا، إنّما سأتناول بعض القصص التي تحوّلت إلى أفلام كرتونيّة، أمعنت حفرًا في ذاكرتنا وشخصيّتنا الأنثويّة. أقول شخصيّتنا بالمفرد لا شخصيّات، لأنّ فعل النمذجة متجسّد في حالة مجتمعيّة، حتى باتت كل فرادة تخرج من دائرة المتوقّع والمسلّم به توسم بالغرابة والجنوح عن الأعراف والتقاليد، بل الارتداد عن الجماعة التي، بهذا المنطق، اتّخذت لنفسها خاصيّة القبيلة، ومن فضائها دائرة تضيق حدّ الاختناق لتغدو حظيرة.
وسأنطلق من ذاتي في القول والكتابة؛ هذه الذاتيّة المرهوبة الجانب بفعل الترهيب والتحذير من إفصاح الأنا الفرديّة عمّا يراودها من أفكار، بل ينبغي أن تُشفع بذات جماعيّة، متمظهرة بضمير الجمع -نا الفاعلين- تعضدها لتغدو مقبولة، ومسموع ما تعلنه من مواقف. كما سأرتكز على ما انطبع في ذاكرتي من مفاهيم باتت نسيجًا في الّلاوعي، وقد استمدّت قوة تأثيرها من حكايات سمعتها، وشاهدتها مصوّرة في طفولتي؛ ذلك لأكون أكثر انسجامًا مع قضيّة ينجدل فيها الذاتيّ والموضوعيّ ويحيل كلّ منهما إلى الآخر، لأعود لاحقًا إلى النقد الواعي.
بياض الثلج
“بياض الثلج” تلك الشخصية رمز الجمال الأنثويّ المقرون بالبراءة والطيبة والحبّ الوفير القادر على التغيير، تغيير الأقزام الذّكور عن موقفهم من أشكال التأنّس. استغرق الأمر وقتًا وصبرًا، وأمومة من “بياض الثلج” لم تختبرها، بل فطرت عليها، لتزرع روح التعاطف والقبول في أنفس الأقزام السّبعة، باستثناء أصغرهم الذي وجد فيها مثال الأنثى- الأمّ، وأحبّها بفطرته الطفليّة وحاجته للاحتضان الأموميّ، وبعُنت أكبرهم غير القابل للتغيير. في ذلك إشارة بيّنة إلى أهميّة المرحلة العمريّة، وانغراس الأفكار والمواقف في الوعي في سنّ مبكرة.
صراع الرجل- المرأة بين الأقزام و”بياض الثلج”، والموقف القبليّ لديهم منها قد لا نتوقّف عنده، بل نركّز انتباهنا على ما يسبقه من صراع المرأة – المرأة بين “بياض الثلج” والخالة على عرش الجمال، وساطته المرآة والسحر أو الشعوذة، وهو تظهير لما خفي من ثنائيّة “البراءة القاتلة” لبياض الثلج والأنانية المدمّرة للخالة بنرجسيّتها. المنظور الحكائيّ يوائم بين الجسد والنفس بوصفهما وجهين متلازمين للجمال؛ ذلك بانتصار الطيبة والحبّ وجمال الروح المتمثلة بشخصيّة “بياض الثلج”، واندحار الكراهية والغرور والجريمة المتجسّدة بالخالة التي استحالت إلى عجوز انتزعت منها صورة الجسد الجميل وبقيت روحًا شبحيّة ساقطة في الهاوية. تبقى ثيمة الحب مرافقة للحكاية، بقبلة من أمير، يفكّ “بياض الثلج” من أسر النوم والتهميش، ويعيدها إلى اليقظة والحركة. بفاعليّة سلبيّة لامرأة تغييبٌ لبياض الثلج البريئة، وبفاعليّة إيجابيّة لرجل استعادةٌ لحياتها المرتهنة للغياب. جوهر الحكاية يكمن في هذه الثنائيّة بين الفاعليّة والمفعوليّة، والأصل والمهمّش، ولا يفوتنا الصراع الطبقي في أيّ حال.
البراءة والقوة
التصوّرات نفسها تتكرّر في حكاية “سندريلا” الجميلة والطيّبة والمسلوبة الفاعليّة والمكانة الاجتماعيّة بفعل امرأة شرّيرة هي زوجة الأب، والمتحوّلة إلى حال اجتماعيّة أخرى بمسعى رجل طيّب وقوي ونبيل يرى فيها المرأة- الأنثى المثال، الجسد والرّوح مجتمعين.
ولقوة القُبلة الممنوحة من قلب رجل شجاع للمرأة، دور فاعل في تبديل المصائر والوصول إلى الخواتيم السعيدة في حكاية “الأميرة النائمة”، بعد أن كان التأزّم الدرامي بسحر امرأة حاقدة. هي نفسها برمزيّتها، حوّلت الأمير إلى وحش في “الجميلة والوحش”، وبسحر الحبّ من فتاة بريئة استعاد بشريّته، لتكون مكافأتها زوجًا وقصرًا وسلطة. إن تكشّفت فاعليّة المرأة في القصّة الأخيرة (الجميلة والوحش) بالدور المرسوم لها، فالمفعوليّة والانتظار يسمان الشخصيّات النسائيّة في القصص السّابقة.
فكرة الدور الخلاصيّ والإحيائيّ والتحويليّ للحب تجلّل الحكايات، إنّما لمن يُمنح هذا الدّور، ومن يصمت منتظرًا الفادي المخلّص؟! وماذا عن السذاجة مقابل الدّهاء والخبث في الشخصيّات النسائيّة المتصارعة؟ إنّنا لا نرى تلك “البراءة القاتلة” لبياض الثلج، أو سندريلاّ أو الأميرة التي نامت بفعل السحر الشرير؛ ذلك لأنّه “ينبغي أن تكون المرأة على هذا المثال”، هكذا استُدخلت ثقافة مجتمعاتنا البطريركيّة.
وكي أبقى في الثيمة نفسها، أنتقل إلى حكاية “ليلى والذئب” أو شخصيّة “ذات الرّداء الأحمر”، وللون الأحمر الجاذب صلة بيّنة بالأنثى والطّهارة والخصب، وإن غفلنا عنها. ضلّت ليلى طريقها في الغابة -برمزيّة الحياة ومسالكها- لأنّها خالفت أوامر أمّها وما رسمته لها نصائحها.
ولفرط دهشتها من جمال الغابة، وفضولها لاكتشاف دروبها، ولذّة اللعب، نسيت خط سيرها القَبليّ، وتاهت ذاكرتها عن الملامح التي لا تعرفها للذئب المفترس، إنّما صُوّرت لها. الذئب برمزيّة الرّجل، يفترس؛ لكنّه من يفترس؟ وعلى من ينتصر؟ ينتصر على ذات الرّداء الأحمر التي خرجت يومًا إلى غابة لم تطأها من قبل، وهي غير محصّنة بأيّ معرفة، أو خبرة بالدّهاء والدّهاة.
تمعن الحكاية في تهميش ليلى وجدّتها، وسلبهما القدرة على المواجهة، باستحضار الرجل الطيّب، الحطّاب الذي يهشّم رأس الذّئب ويخلّص المرأتين. وتقول بعض الحكايات إنّ الحطّاب هو والد ليلى. إنّها أسوأ مثال للتربية؛ فلماذا تُصوّر ليلى- الرمز بهذه السّذاجة؟! وهي تحتاج دائمًا إلى حماية وسند من قريب بمواجهة الغريب البعيد الذي لا تعرفه، وقُيّض لها ألّا تعرفه؛ وكل مجهول يظلّ مَثار فضول وخشية في آن. تكمن الإجابة في ما سبق توصيفه بالبراءة القاتلة.
مرايا الأنثى
إزاء هذه المرايا العاكسة لصورة الأنثى التي تنتظر أميرًا منقذًا، في تلك الحكايات، تبرز صور مشرقة للمرأة السّاعية بفاعليّة إلى التغيير بنفسها، ولا تبتغي امتلاك حاضرها ومستقبلها وحسب، بل تحمل همًّا جماعيًّا. أعني القصص المصوّرة سينمائيًّا مؤخّرًا، والمستوحاة بغالبيّتها، من أساطير لثقافات مختلفة، وهي “موانا” Moana و”فروزن” Frozen و”بريف” Brave و”بوكاهنتس″ Pocahontas، على سبيل التمثيل لا الحصر. تبدّلت هذه الصورة النمطيّة للمرأة نتيجة منظومة قيميّة تزعزعت في مرحلة تسمّى بما بعد الحداثة، وهي ليست حقبة موسومة بهذه التّسمية، إنّما هي نموذج من التفكير لا يستند إلى قواعد قبليّة، بل يخلق قواعده من طريق الممارسة؛ فالعمل الفنّي سمة الحدث. ما نفكّره نصيره.
“موانا” شخصيّة تنتمي إلى الحضارة البولينيزيّة في الواقعين المرجعي والتخييلي، وإن تباينت القصّتان في الحقيقة لزوم فنّية الدراما المصوّرة. ما يعنينا هو الشخصية النسائيّة المغامرة والبحّارة والمتمرّدة والسّاعية إلى إنقاذ جزيرتها من الجدب، باستعادة الحجر الأخضر، قلب ألهة الأرض… تماثلها في الشجاعة شخصية “مِريدا” صاحبة القوس والسهم، في قصّة “بريف” المستندة إلى التراث الأسكتلنديّ، والتي تتحدّى أحد الأعراف برفض خطوبة تقليديّة إنقاذًا لعلاقة تحالف بين والدها وعشيرة أخرى؛ فتعلن أنّها البنت البكر لأبيها الحاكم، وتنافس في ألعاب الرّماية لطلب “يد نفسها”، مع لحظ اختلاف العلاقة بين الأمّ وابنتها عمّا هو متعارف عليه. وسأكتفي بإلقاء الضوء أيضًا على شخصيّتي الأختين “آنا” و”إيلسا” البطلتين في قصّة “فروزن”؛ حيث تتبدّل مفاهيم الخير والشّر وصورة فصلهما متجسّدين في شخصيّتين نقيضتين، كما يتبدّل مفهوم الحبّ، وتمثّلات الإيثار وقدرته الخلاصيّة، وهي فكرة قديمة لقيمة إنسانيّة تستعيد رونقها في تجلّيها في الأنا المتجاوزة فرديّتها إلى الهمّ القوميّ، والذي تحمل عبأه امرأتان.
ما قبل البطريركية
هل بالعودة إلى التراث الأسطوري للشعوب الغابرة، وللثقافات التي هُمّشت، استعادة لوجه المرأة، وللمجتمع المطريركي؟ بوصف الموقف من المرأة، من منظور ماركسي، يحدّد الموقف من الإنسان ومن المجتمع ومن الوجود بأسره. مشاهد تخييليّة نجول بينها تحيلنا إلى القصص الدّيني، ومفهوم الخطيئة الأولى، فنفهم هذه القتامة المتوارثة في الرؤية إلى المرأة- حوّاء، المتساوية بالحيّة من حيث العقاب، لأنّها اقتربت من “شجرة المعرفة” المحرّمة وأغوت بعلها- آدم ليأكل منها.
لتتابع القصص المخيفة التي تدين المرأة في “سدوم وعمورة” و”لوط” الضّحيّة الثانية لابنتيه بعد “آدم” ضحيّة حوّاء، و”شمشون” الذي وقع صريعًا على يد “دليلة”، و”يوسف” الهارب من وجه زوجة عزيز مصر… وتتوالى القصص في الموروثين الدينيّ والأسطوري – الشّعبيّ، وتتناوب الصور بين معتمة ومضيئة للمرأة؛ يُنظر إليها تارةً، أنّها مخلوق ذو قيمة استعماليّة لا ذات لها؛ إذ أنّ “آدم” عاش سعادة مملّة لأنّه وحيد، فجاءت “حوّاء” للترفيه عنه؛ وتتوالد الكثير من الحكايات على هذا النسق.
وأنّها، تارة أخرى، تمتلك سرّ “الوسيط المحوّل” للعبور من التوحّش إلى الأنسنة، وشخصيّة “أنكيدو” في ملحمة “جلجامش” خير مثال للتحوّل إلى المدنيّة على يد البغي “شمخة”… غير أنّها تبقى هذه “الأنثى الخالدة”، على الرّغم من كلّ تصوّر، وترتبط، لرهافتها بروح العالم، وترمز إلى الرغبة المتعالية، والحلم الذي يدعو الرّجل إلى إدارة ظهره للواقع.
نحن بحاجة للعودة إلى شخصيّات من تراثنا المضيء، عكست مرآة العالم في العصر الوسيط، مثل “شهرزاد”، لإبراز وجه المرأة الذي نريد، وترسيخه في ذاكرة الأجيال. شهرزاد الفادية عن ضرورة وإرادة معًا، والمغامرة بغير تهوّر، والمقبلة على الحياة من طريق تحدّي الموت، والمتحرّرة من الصّمت بالكلمة المنطوقة وارفة الظلال، والمحصّنة بملكة الإبداع والتخييل. بها جميعًا، دوّنت ملحمة عصرها.
أن نبدأ القول بذاتيّة عمّا بات موضوعيًّا وانهمامًا جماعيًّا، لننتهي إلى تقديم الموضوعيّة في الحكي عن الذّات الفرديّة والجماعيّة على حدّ سواء، لهو أشدّ صدقًا بتنظيره المستند إلى التمظهر الواقعيّ في السلوكيّات، على قاعدة الإيغال في المحلّيّ -وما يخصّني- يفضي بي إلى ما هو عامّ ومشترك في الدّائرة الإنسانيّة.