مراهق محمد شكري
تعدّ "المراهقة" مفترق الطرق الخطيرة بين الطفولة والرجولة ومفترق الطرق ذاتها بين الاستقامة والانحراف؛ فصورة المراهق/ الرجل في العالم العربي لا تمرّ مرور الكرام على قارئ الأدب العربي دون أن يكتنفها الفقر والجهل والمعاناة الإنسانية.
حين أصدر الروائي المغربي الراحل محمد شكري روايته المثيرة «الخبز الحافي» عام 1982 بعد عشر سنوات على كتابته لها وضع في عتبات الكتاب عبارة تؤكد على أنها «سيرة ذاتية روائية»، ورغم ما يقال عنها أنها تنتمي إلى «الواقعية القذرة» في الأدب إلا أنها في حقيقتها صوت الحقيقة الصارخة لأبناء الطبقات المسحوقة المعدمة في المجتمعات العربية.
تطرّق محمد شكري في روايته إلى مرحلة الطفولة المتأخرة التي تعدّ المدخل للمراهقة المبكرة في «الخبز الحافي» إلا أن المحك الحقيقي الأسوأ في هذه العلاقة هو سلطة الأب العنيف والقاتل والسكّير والمقامر، حيث بلغت هذه العلاقة آفاق الكراهية بقتل الأب ابنه الأصغر «تذكرت كيف لوى أبي عنق أخي. كدت أصرخ: أبي لم يكن يحبه. هو الذي قتله. نعم. قتله. قتله قتله. رأيته يقتله. هو هو قتله. قتله. رأيته يقتله. لوى عنقه. تدفق الدم من فمه. رأيته رأيته يقتله. أبي قتله قاتله الله!».
إذن هذه العلاقة غير السوية مع الأب القاتل كانت مفترق الطرق في رحلة الانحراف التي تبدأ بالاستغلال المادي والتسخير من خلال عثور الأب لابنه على عمل في مقهى شعبي في الحي الذي تقطن فيه أسرته ويديره رجل مبتور اليد، قدم له الأب ابنه محذرا إياه «إذا اعتدى عليه أحد السكارى أو الحشاشين بما لا يليق فسوف أزهق له روحه». يعمل الابن من السادسة صباحا حتى منتصف الليل، وحين يقبض أجرة عمله الزهيدة كل شهر يأخذ الأب المال مكتفيا بالقول «الله يرضى عليك!» يبدأ المراهق بشرب الخمر وتدخين الحشيش في الخفاء حتى يتقيأ ويمرض، إلا أنه سمع نصيحة أحد الحشاشين الذي بادره بالقول إن ذلك يحدث فقط في المرة الأولى وستعتاد عليه، وهو ما كان.
ومع مرحلة البلوغ تبرز لدى المراهق لذة خفية تقوده إلى الخيال العميق ومراقبة أجساد النساء والفتيات اللاتي يسترق النظر إليهن كاسيات أو عاريات بدهشة وخلسة من فوق الأشجار أو في الأماكن الأخرى، ثم ينتهي به المطاف إلى الحيوانات والطيور الداجنة!
حيث أن الهاجس الأول بالنسبة إلى المراهق في هذه البيئة الفقيرة والجاهلة والمكبوتة هو الجنس، إذ يشرب المراهق المسكر ويذهب إلى البحث عن لذات الجنس الأولى في المواخير لدى المومسات سواء مواطناته أو الأجنبيات.
صورة المراهقة في «الخبز الحافي» هنا هي حالة من التشرد والضياع والغرق في اللذة دون الانتباه إلى ما تفعله الحياة به «مات أخي عاشور. لم أحزن على موته. كنت أسمعه يصرخ وأراه يحبو، لم أكن أفكر فيه. ملذات جسدي ألهتني. أختي أرحيمو أيضا أراها تكبر وتتكلم، لكني لم أكن أهتم بها. كنت غارقا في همومي وتشردي، حالما بملذات العالم. أنام في الدروب أكثر مما أنام في المنزل».
في رواية "الخبز الحافي" للسلطة الأبوية المتسلطة الظالمة العنيفة دور رئيس في تشكيل الشخصية المشوهة للمراهق في المجتمع العربي والتي تصل إلى الرغبة في الانتقام من هذه السلطة الأبوية العنيفة الظالمة
وما يكسبه المراهق من بيع الخضار والفواكه كان ينفقه في الشرب والدعارة، وحين تنتهي كل الفرص يلجأ وأصحابه إلى حمل حقائب المسافرين وسرقتهم في المحطات. وبالإضافة إلى ذلك تبرز لدى المراهق العربي صورة «الفتوة» وخاصة حينما يتعلق الأمر بـ»الشرف»؛ حيث أهان أحد أبناء الحي أخت محمد الصغرى بصفعها على خدها مما جعله يتعارك معه ويهزمه أمام أعين أبناء الحي مستخدما سلاحا أبيض هو عبارة عن شفرة حلاقة!
كما تبرز صورة التسلط الأبوي العنيف، حيث لا يسلم المراهق مسلوب الإرادة من لسان الأب المليء بالسباب والشتائم وإهانته بوصفه «بابن العاهرة» وضربه وتعنيفه مما يضطره إلى اللجوء إلى خياله الخصب «يضربني ويلعنني جهرا، أضربه وألعنه في خيالي!». ثم يلجأ المراهق لاحقا إلى تفريغ طاقته والتعبير عن شخصيته وميوله الجنسي الثنائي بعبثية: إحراق شجرة ضخمة، اغتصاب طفل، ضرب الأب المتسلط حتى إدمائه، الاقتياد إلى المخفر بتهمة السرقة، ممارسة سلوك جنسي مع رجل إسباني كبير، محاولة السكارى المشردين التحرش به، التشرد في الشوارع الخلفية والأزقة الضيقة والساحات، إلا أن دور الأب المتسلط يعود إلى الواجهة من خلال ذكرى ضرب ابنه بعنف لسبب تافه (لأنه لم يأكل الطعام) فيدخل في غيبوبة!
في رواية «الخبز الحافي» للسلطة الأبوية المتسلطة الظالمة العنيفة دور رئيس في تشكيل الشخصية المشوهة للمراهق في المجتمع العربي والتي تصل إلى الرغبة في الانتقام من هذه السلطة الأبوية العنيفة الظالمة حيث يتمنى الابن أن يموت أبوه مبكرا، بل إنه لا يذكر كم مرة قتله في الخيال ولم يبق له إلا أن يقتله في الواقع «صرت أفكر: إذا كان تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو أبي. أكره أيضا الناس الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته! لم يبق لي إلا أن أقتله في الواقع». «بعد خروجي من السينما اتجهت إلى ساحة الفدان. جلست على المقعد الغرانيتي مستعيدا قتل البطل لغريمه. أبي يتمرغ في دمه وأنا أنظر إليه بانتصار!». كان الحل الوحيد لنهاية هذا البؤس هو هروب الابن من قبضة الأب المتسلط الجاهل العاطل الذي سلب المرأة/الأم كل حقوقها في ظل عنف جسدي ولفظي يومي ضدها.
تتلو عملية هروب الابن المراهق من سلطة أبيه وعنفه رحلة تشرد في الأزقة الضيقة والشوارع الخلفية والعراك والسجن. تعارك مع رجل سكير حاول التحرش به فضربه بعنق زجاجة خمر مكسورة، لكن المراهق أوقف في السجن مع رفيقه ورفيقتيهما بتهمة ممارسة الدعارة، وفي السجن تعرّف من خلال رفيقه إلى أبي القاسم الشابّي وشعره رغم أنه مازال أميا ولم يدخل مدرسة يوما وبيئته الاجتماعية يكسوها الجهل؛ ولذا وعده رفيقه بأن يعلمه يوما القراءة والكتابة.
وبعد خروجه من السجن صار المراهق يشتري المجلات العربية المخصصة لنشر أخبار الممثلين ويجلبها إلى المقهى ليتفرج على صورهم ويمارس عادته السرية بالنظر إلى صور الراقصات والممثلات، وكان شقيق صاحبه يقرأ له في المقهى بعض ما ينشر في الصحف والمجلات العربية الشرقية بصوت عال، وكان رواد المقهى ينصتون باهتمام إلى الموضوعات السياسية التي يقرأها، فيتحمس وينتصب واقفا ليقدم خطبة سياسية مشوبة ببعض الأحاديث النبوية والآيات القرآنية حتى أن رواد المقهى الجهلاء- والمراهق أحدهم- لم يكونوا «يفرقون دائما بين قوله وقول الله».
وفي خضم الجهل والغيرة من أنصاف المتعلمين أصرّ المراهق ذات يوم على تعلم مبادئ القراءة والكتاب فاشترى من المكتبة كتابا لتعليم اللغة العربية. توسط له شقيق صاحبه لدى مدير مدرسة لكي يدرس بها رغم أن عمره قد بلغ عشرين عاما، فكان تعلمه القراءة والكتابة سبيلا إلى تعبيره عن رحلة المراهقة الموغلة في عالم التشرد والضياع.