مراوغة مناورة مغرية
- لماذا لا تخرجين من شرنقة الأنثى وتكتبين عن العالم؟
هذا ما قاله لي أحد الأدباء عند قراءة قصتي القصيرة التي بطلتها تعاني من الاختلاف، تحمل ثقله حتى تتمنى الموت أو فقدان الاختلاف، دائمًا يتم نصحي بالبعد عن المرأة ومعاناتها وعدم استنزاف قلمي في البكاء على الرجل الذي هجر قلبي أو المجتمع الذي نحرني لإرضاء تطرفه المرضي.
أرى أن الكتابة ناتج إنساني ولا يمكن أن تنفصل عن عالم كاتبها، فهو إله صغير يخلق ما يوازي عالمه أو بديلاً له قدر استطاعته حتى يرصده أو يجمله أو ينتقم منه ربما.
الكاتب الحقيقي مثل الظامئ لن يستجيب إلا لما يلح عليه ولن يفكر سوى في الماء وبعد الارتواء بإمكانه أن يشتهي العصائر والأطعمة المختلفة، لكن في وجود حالة العطش الشديد سوف يعجز ويصير مدعيًا إن قال إنني أترفّع عن الماء ولا حاجة لي بها وراح يمتدح الحلويات مثلا، كذلك المرأة التي مازالت تعاني الغبن والنير ويؤلمها احتكاك قيوده بمعصمها كيف لها أن تكتب عن شيء آخر؟ لا أنفي عدم شعورها بمعاناة الإنسان المعاصر لكن تلك المعاناة مثل الجدران الخارجية للسجن، تدرك وجودها لكن ما يخنق أنفاسها هو الطوق الجاثم على عنقها كيف ستجري وتحطم الجدران قبل تخلصها منه؟
قيل إن تكرار ذات الموضوع دليل على إفلاس الكاتب، جملة سمعتها كثيرًا لكنها فضفاضة قد يكون ذات الموضوع لكن الرؤية مختلفة فهذا إبداع لا يمكن نكرانه، ثم بالفحص الدقيق سنجد مركزا محددا لكل كاتب يدور حوله إبداعه، فلماذا يتم تصنيف معاناة المرأة مرتبة أقل بالرغم من أهميتها حيث أن المرأة المقهورة لا تستطيع إعداد جيل حر ويترتب عليها مستقبل الشعوب، شعورها ليس بالشيء الهين إطلاقًا.
تسعى المرأة لإثبات وجودها وممارسة حقوقها الطبيعية التي حُرمت منها في بعض الأحيان جورًا، على سبيل المثال عندما تخبر شخصا أنه فاشل سيكرر كلمة فاشل ليتم نفيها عنه (أنا لست فاشلاً – لماذا تراني فاشلاً؟ ما هو الفشل؟ أنت فاشل أيضًا وما إلى ذلك)، كذلك المرأة ما إن تخرج للعالم حتى تسمع (أنتِ عورة – أنتِ أقل مرتبة من الرجل – ناقصة عقل…).
ربما تواجه العالم بمفرداته وقد تكون أقوى وتخلق مفرداتها وعالمها متجاهلة حماقاته حتى يعترف بها ويكف عن إلقاء تهمه، من يُحبس في القفص يصطدم به حتى يخرج منه، لذلك تتأثر المرأة بعالمها كأي إنسان إلى أن تبرأ منه وتصير هي كما تشاء، ليس كل النساء سواء فبعضهن يتخبطن في دوائره إلى الانتهاء وتمسى حروفهن مسوخًا من كلماتهن الأولى وأخريات يكسرن الطوق ويحلقن فوق الجدران ويراقبهن من بعيد وتشمل نظرتهن الرجل شريكهن في معترك الحياة ولا يقتصر دوره على أنه الخصم الذي يجب أن نتحداه أو ندهشه وحسب.
لا أعرف من الذي جعل من المرأة سبة ومن الذي قال إن الكتابة النسوية دون المستوى وموضوع من لا موضوع له؟ الكتابة تماثل الأنثى فهي مراوغة.. مناورة.. مغرية.. تجعلك أضحوكة إن ظننت أنها لعبة بين يديك، الكاتب بغض النظر عن جنسه طالما أطلقنا عليه كاتبًا لا بد أن يتوافر به العديد من الصفات أولها إدراك واحتواء ما يكتب عنه، عندما كنت طفلة كتبت قصة عن الخيانة الزوجية مستوحاة طبعًا من الأفلام العربية، سألني معلمي:
- “لماذا لا تكتبين عن إحساسكِ بملمس بشرتكِ أو ثيابكِ؟”.
لم أجبه حينها لكني رأيت أن ما يقوله استخفاف بي واقتراحات أقل من أن يتم معالجتها في قصة فهي لا تستحق، أثبتت لي الأيام أن كل شيء يستحق وليس هناك ما نسمو عنه، فكل شيء نؤثر فيه ونتأثر به يستحق الكتابة عنه، نحن لا نكتب مواعظ ولا نعد القارئ لخوض الحرب، نريد فقط أن يشعر بما شعرنا به، لذلك فإن عالم المرأة بل أقول المرأة في حد ذاتها عالم ممتلئ بالحياة فهي أصل الوجود وهي الأصلح والأقدر في تمثيل وتوصيل ذلك للآخر، يجتهد الرجل ليتحد معها فيكتب عن الولادة مثلاً بعد مشاهدتها أو السماع عنها منها، الكتابة النسوية موجودة ولا يحزنني إن تم تصنيف عمل لي ضمن ذلك لكن الأهم هل كتبتها بشكل جيد؟ عبرت عما رغبت بالشكل الذي اخترته؟ ما يغضبني هو تصنيف كل ما يصدر عن المرأة أنه أدب نسائي يجب تجاوزه لأن الإبداع موجود في عالم الذكور، حيث أن الرجل مهيمن على المجتمع فهو يمتلك كل المقومات بما فيها اللغة لكن هناك نساء يكتبن على كل شيء وتخطن حاجز جنسهن فهن الإنسان وحسب.
كل ما أريده هو تحطيم القوالب والقراءة دون أحكام مسبقة، واحترام المرأة واحترام إبداعها وأتمنى القضاء على الظاهرة التي تربط بين الكاتب وشخصه ومحاكمته بالأخلاق التي تتبدّل من زمن إلى آخر، الكتابة خيال والخيال أن نطلق العنان ونحطم اللجام الذي يقيدنا، حين نضع رقابة على خيالنا ونكتب ما يُراد منا نموت فعلاً دون أن نشعر، ولن نختلف عن الشخص الذي استعبدته العادات والتقاليد وأوقف عقله وصار كائنًا ميتًا يماثل ما مضى.