مساءَلَة النقد الشعري وحداثته من المعيار إلى القيمة

الأربعاء 2020/07/01
لوحة حسين جمعان

ليست جديدة المبررات التي تُساق عادة لإعلان قصور النقد الشعري عن مواكبة الأعمال أو الظواهر أو المستجدات في الشعرية العربية. إن تلك المبررات في الحقيقة تقفز على – أو تتعامى عن – المنجز النقدي الذي واكب التجديد، ثم التحديث في الخطاب الشعري وقراءته، ونقده بالضرورة. لقد كانت المنافحة عن التجديد والتنظير له، وكذلك الحداثة الشعرية وتسويقها إجرائياً من أبرز مجهودات النقد الشعري العربي المعاصر، ومن نتائج الكد النقدي المنهجي وحصيلته الماثلة هي مقبوليته وتداولية الحديث من التجارب، ووقوفها في المعترك الشعري فترة حين واجهتها المصدات التقليدية والمحافظة الرافضة للحداثة، وهي ذات سلطة فائقة على الدرس الأكاديمي والثقافة والصحافة وأنشطة النقد والشعر. ولعل موضوع قصيدة النثر هو من أبرز المجالات التي كان لها ولايزال مكان الصدارة في النقد. وهذا ما صدرت بشأنه كتب كثيرة لنقاد من مختلف بلاد العرب تنظيراً وتطبيقاً، وقام بعضهم بترجمة الكتب التي تضيء وتنظِّر وتطبق على نماذج عالمية منه لاستبصارها في عملية تحديث الخطاب الشعري بالذات.

لكن الأمر اللافت حقا الذي تنبه له بشكل خاص نقاد غربيون آخرهم رونان مكدونالد في كتابه “موت الناقد” الذي ترجمه الصديق فخري صالح، هو غياب التخصص النقدي أولاً، وإهمال أحكام القيمة بشكل تام ثانياً، وتقاعس النقد الأكاديمي وتهميشه أخيراً، ما جعل النقد في نشاطه الجماهيري الوسائطي تحت سطوة الشعبوية الجديدة التي أرهقته في شبكات التواصل، وأسهم النقد الثقافي في إشاعتها، وأفرزت أحكاماً متسرعة أو متحمسة أو ناقصة الثقافة والمعرفة اللازمة. وبذا كان الناقد يبتعد عن محور عمله، مكتفياً بالندوات والكتب وما ينشر في الصحافة الثقافية.

إن “المعيار” لم يعد موضوع إجراء في النقد الحديث شعراً وسرداً، فالأسئلة التي يوجّهها النقد إلى النصوص عبر القراءة تطورت من السؤال عن “ماذا” قال النص إلى سؤال أعمق وأهم هو “كيف” قال النص ما أراد قوله. وأضاف دعاة النقد الثقافي سؤالهم التراجعي “لماذا” قال النص ما قاله. وبهذا عادوا إلى المعيارية التي تربط النص بما هو خارجي كلياً، وضياع القراءة النقدية بسبب ذلك في متاهات وثرثرات ذات مرجع سوسيولوجي أو شعبي، وتهمل تبعاً لهذا أبنية النصوص وشعريتها المتشكلة من انتظام عناصر البنية ومستوياتها المعجمية والتركيبية والإيقاعية والدلالية.

يقودنا المعيار مثلاً إلى الحكم المتعسّف على النصوص والتجارب، فيغدو المتنبي عنصرياً أو رجعياً في بعض القراءات بالحكم على المعاني المباشرة أخلاقياً أو سياسياً، دون الانتباه إلى كيفية انتظام عناصر قصيدة المتنبي. لكن مبررات العودة إلى المعيار يمكن ردها كونها لا تقتصر على ثقافة الشاعر أو موهبته بل تتعداها إلى النيات المفترضة عند كتابته، ثم عرضها بدلاً عن المحور الدلالي في النصوص. وتُغرق النصوص في تأويلات مفرطة بعيدة عن أبنيتها التي تسهم القراءة في كشفها.

إن ثقافة الشاعر هي ثقافة نصه في الحقيقة، وموهبته تتجلى في لغة نصه وصوره وأخيلته. وعلينا أن ننبه إلى تحذير النقاد من صنع المواهب والقدرات، أو إخضاعها للتدريب، وكأنها مهارة عضلية وليست ممارسة شعرية. وأثارنا العجب من شيوع وانتشار المدارس والحلقات الدراسية والكتب التي تتحدث عن كيفية خلق المبدع، ومواصفاته، وطرق تنمية موهبته، وهي كلها مما تتشكل منه التجربة الشعرية التي لا يمكن وصفها كالدواء وطرق تعاطيه، أو تجري بعملية تفريخ صناعية!

لكنني أجدني ميالاً، من خلال ممارسة النقد الشعري، إلى شيء محدود من أحكام القيمة لا المعيار، وأرى فرقاً بينهما، فأحكام القيمة تجري من داخل النص، فيأتي التقويم لصيقاً بالنص لا بالحكم على صدقه أو جماله، بل احتكاماً إلى تواشج علاماته وصوره ولغته وإيقاعه. فيما تكون المعايير جاهزة قادمة من خارج النصوص لتقيس وتحك بها ما يخرج عن فنيّتها، ويقصر عن تلمس جمالياتها وتبدلات القراءة والمنهجيات. ولذلك خفتت الدعوات لإغلاق النص، وإبعاد المؤثرات الفاعلة في التجربة، وتهديم مقولات موت المؤلف التي أسيء تفسيرها بطبيعة الحال.

صورة

وتسبَّب التعالي على الدرس الأكاديمي، ومنهجيته، ووصمه بالتخلف في نشأة القطيعة بينه وبين النقد الأدبي المنهجي، وهي قطيعة ابتدأها الأكاديميون التقليديون والمحافظون في الجامعات ومراكز البحوث، وما فرضوه من تابوات على الموضوعات والمنجزات الحديثة في الكتابة والنقد، لكنها أدت إلى ردة فعل عكسية لدى نقاد الأدب من خارج المؤسسة الجامعية، ما أفقد النقد تلك الجسور الممكنة للتوغل في فضاء المدرسة، واستثمار أبحاثها ومناهجها لصالح الحداثة التي تكّفل بها النقد الشعري، وأسهم في تجسيدها الشعراء.

والرصانة الأكاديمية لا تتعارض والتحديث كعملية نقدية إذا ما انفتحت الآفاق بحرية لتداول الموضوعات، والظواهر، والنصوص. وهو ما شهدناه في العقود الأخيرة بسبب تطعيم الهياكل الأكاديمية بعقليات تحديثية من شبان النقاد والدارسين. وشهدنا حراكاً طيباً وندوات وإصدارات بجانب الرسائل الجامعية التي أخذ بعضها نصيبه من القراءة والتأثير في الحركة النقدية.

لقد جرى التشويش على مهمة النقد الأدبي – والشعري من ضمنه – بسبب تصاعد تيارات الدراسات الثقافية، والنقد الثقافي الذي طرحه دعاته بكونه بديلاً عن النقد الأدبي الذي أعلنوا موته! وهكذا حظيت الوسائط والرقميات وسبل التواصل باهتمام النقاد والدارسين، وصاروا يبحثون خارج التجربة الأدبية والشعرية لكونها، كما يقولون، ليست ضرورية بقدر كشف الأنساق الفاعلة فيها، ثم إخضاع القراءة لتلك الأفكار والموضوعات الجانبية، والتي تدخل في باب الدراسات الاجتماعية والنفسية والإعلامية أحياناً.

النقد الشعري، إذن، مستهدف ليس فقط من خصوم يتكتلون وراء نصوصهم، ولا يرون في النقد جدوى، لينضم إليه فريق من النقاد والباحثين الذين أهدروا دم النقد الأدبي، وتعالوا على آلياته، وإجراءاته، وأدبيته ذاتها التي تنعكس في أسلوبه.

إن الاحتجاج بطغيان “النسخ” المستنسخة على “أصول” التجارب تعوزه الدقة تماماً، فالتقويم يتم ضمنياً، بل في اختيار النصوص أو الموضوعات ذاتها، وهو موقف نقدي، فهذا يعني تصويتاً لها، كما أن الأصول حظيت بالعناية النقدية حدّ التخمة، وتراكُم المكتبة الخاصة بقراءتهم، فصارت الكتابة اليوم عن تجربة أدونيس أو درويش وسواهما غير جاذبة بمقابل التجارب الجديدة. وإذا كان المقصود بالمستنسخ من التجارب هو تلك التجارب الحداثية الراهنة، فأجد أنه حكم تعسفي، وينطوي على تمجيد صنمي لا يخدم الحركة النقدية ولا الحداثة ولا النصوص ذاتها.

إن إغفال دور النقد والتعويل على غير النقاد مركزياً هو انحياز ضد ظاهرة النقد الحضارية، وقد آن للعقل العربي أن يتقبل تلك المظاهر الحضارية بروح ديمقراطية تعوز للأسف الكثير من المقاربات المتحمسة، والقادمة بهياج رافض للنقد كعملية، ولخطابه كإجراءات وآليات، وذلك لا يخدم الثقافة العربية أو الحركة الشعرية.

إنني لا أنزّه الحركة النقدية من اختلالات مصطلحية ومنهجية، وتردد بصدد القضايا الكبرى، كفرز الأنواع الشعرية، وقراءة التراث الشعري، وتكييف المناهج المجتلبة من حاضنات أخرى، والتنبه إلى الإبداعات الجديدة والظواهر، وربما ضعف المتابعة للنتاج الشعري تفصيلياً، بسبب كثافته، وتشتت مراكز الثقافة الشعرية العربية وتفككها. لكن ذلك لا يمكن معالجته بإزاحة النقد الأدبي، أو تخوين النقاد، وعدّهم عالةً على النصوص والحركة الشعرية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.