مستقبل الثقافة التربويّة في العالم العربيّ
في هذا البحث سنحاولُ عرضَ الدواعي التي تطرحُ هذه المشكلَة التي كانَت حاضرة في مرحلةِ الاستقلالِ، فبعدَ الأحداثِ التي أعقبتِ الربيعَ العربيَّ نجدُ اليومَ الكثيرَ من التسمياتِ اتخذت اسمَ “مستقبلَ الثقافةِ”، عنوانا لمهرجاناتها الثقافيَّةِ، وخطاباتها بإحياءِ أطروحةِ طه حسين في التَّعلمِ بمصر، وهناك خطاباتٌ تتحدَّثُ رسميّا وتدعو إلى تعديل الإرث في تونس. لذا نحاولُ هنا إعادة عرض هذهِ الأطروحة وهذه الخطابات، فنظهرُ تباينها ونقدَها من خلال نقدِ مبانيها وتوجهاتِها وأسبابِ استعادتها اليوم.
نحاول في هذا المقال أَن نبيِّنَ المسوغاتِ التي تعيدُ طرحَ هذه المشكلَة، بالرغمِ من الفارقِ الزمنيِّ، واختلافِ الأسبابِ عندَ دعاةِ الاختلافِ وعندَ ودعاةِ الهُويَّةِ، وبينَ أهلِ الخطابِ الليبراليِّ الذي يحاولُ تبيئَةَ الحداثةِ، والانفتاحَ على الآخرِ الغربيِّ، وبينَ الخطابِ الإسلاميِّ الذي يحاولُ إحياءَ الأصالةِ التراثيَّةِ، ونقدَ الانفتاحِ ومهاجمتِهِ واتهامِهِ بالتغريبِ.
إشكاليَّةُ مستقبلِ الثَّقافةِ: في استعراضنا لما يُطرحُ اليومَ من عناوين نجدها مرتبطة بِمُشكلِة تناقشُ أَمرَ المستقبلِ، وكيفَ علينا أن نَخلُقَ تحوّلا يجعلُ من عالَمِنا العربيِّ عالَما قادرا على أن يستجيبَ لما نعانيه في الحاضرِ من تدهور. وقد حاولَ المفكرونَ في الحقبةِ السابقةِ أن يقدِّموا حلولا، ولكنَّهم اختلفوا فيها باختلافِ المرجعياتِ المعتمدةِ في المعالجة، وكانت النتيجةُ ما نعانيه في حاضرِنا من إخفاق ماضينا في مقاربةِ أمرِ التحديث أو الحداثة.
فالصراعُ بينَ الخطابين خلقَ واقعَنا اليومَ؛ حيث نحاولُ استعادةَ الماضي من أجلِ تقديمِ خُطاطةٍ مستقبليَّة، وفي هذهِ المقاربةِ نقفُ على تخومِ الخِطابينِ، ونحاولُ استعراضَهما وتحليلَ مسوغاتِهما في استعادةِ المقولةِ ونقدِها.
إنَّ غيرَ المثقفينَ يجهلُون ما يُمكنُ أن تقومَ به الثقافةُ من مُهمَّاتٍ، قد يكون بعضُها مصيريّا ونتائجُهُ جسيمة، والطَّامَّةُ الكبرى أنَّ هنالكَ من يَحْسَبُ نفسَهُ على المثقفينَ، وفي الوقتِ نفسِه يفوتُه الكثيرُ من قضايا الثقافةِ الرصينةِ، والأدوارُ النادرةُ التي يُمكن أن تقومَ بها على أكملِ وجه. ولكي نقرّبَ هذا القصدَ بِشَكْلٍ أكثرَ توضيحا وتجسيما وتجسيدا، نقولُ إنَّ الثقافةَ هي عِمادُ الحياةِ، وهي الرأسمالُ الرمزيُّ الذي يسْبغُ معنى على حياتِنا أو يمنحُها تسويغا ومشروعيَّة ما من خلالِ رسمِها اتجاهاتِ الإنسانِ في الحياةِ، وهي التي تساعِدُهُ كي يكونَ صالحا بارّا أو منتميا إلى الشرِّ وعاملا به، ومن هذهِ النقطةِ فقط نستطيعُ أن نفهمَ قدراتِ الثقافةِ بالضبطِ، وقدرةَ الثقافةِ على التغييرِ في حياتنا بما تعتمِدُهُ من رؤيةٍ ومنهج، سواء كان هذا المنهجُ سياسيّا أم اجتماعيّا أم اقتصاديّا، وسواء كانت الثقافةُ في السلطةِ تقودُ زِمامَ الأمورِ بفرضِها ما تريدُ كخطابِ سُلطويٍّ في مؤسساتِ الدولةِ، أم كانت معارضة تقودُ سياسةَ المقاومةِ من أجل التغييرِ سواء كان سلميّا في المعارضة السلميَّة أم عنيفا في المعارضة العنيفة كما نجدها في أقوال الإرهابِ السياسيِّ وأفعالِهِ الذي يتَّخِذُ من الثقافةِ الدينيَّةِ مسوغا لأفعالِهِ الإجراميَّة الشنعاء.
ومن هنا نستطيعُ أنْ نسوّقَ فكرةَ الثقافةِ التي لها آثارٌ ناعِمةٌ أو غليظةٌ في أفعالِنا اليوميَّة، وتعتمدُ التبريرَ أو التهديدَ أو العنفَ المباشِرَ وهذهِ كلُّها لها موجِّهاتٌ ومسوغاتٌ ثقافيَّةٌ سواء كانت ثقافةَ سُلطةٍ أم ثقافةَ معارضة.
وتكونُ السياسةُ الوطنيَّةُ أحيانا موجَّهة من دُولِ الإقليمِ أو القوى المهيمنةِ عالميّا التي تحاولُ فرضَ سياستِها أو ثقافتِها على مناطقَ معينةٍ من العالَمِ كما نعيشُهُ اليومَ في دولِنا فهذه السياساتُ تحاولُ فرضَ تغييرٍ في المسار الثقافيّ يؤدِّي إلى تغييرِ المناهجِ العمليَّةِ والمناهج السياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّة.. وكل مناهجِ الحياة. إنَّ التَّدخلَ العسكريَّ أو التهديدَ به أو توقيعَ عقوباتٍ اقتصاديَّةٍ أو شَنَّ حروبٍ دبلوماسيَّةٍ قد تكون مُجديَة على المدى القصيرِ لحلِّ أَزْماتٍ طارئةٍ أو التعاملِ مع تهديداتٍ فوريَّةٍ، ولكنَّ تحقيقَ نوعٍ من النصرِ المستدامِ أو الامتيازَ بعيدَ المدى يمرُّ على وفَقِ مُنَظِّري القوةِ الناعمةِ بطائفةٍ من الأدواتِ التي تجعلُ الفاعلَ المستهدفَ يُلَبِّي المطلوبَ منه من دونِ أن يَشْعُر بالبعدِ القسريِّ الذي يَضعُ العلاقاتِ تحت ضغطِ الفعلِ وردِّ الفعلِ، وحساباتِ الثأرِ والاحترازِ والنفورِ والتقوقعِ والعداءِ، مع تحوّل العالَم إلى فضاءٍ تواصليّ مفتوحٍ تقعُ الحربُ الذهنيَّةُ (حربُ الصورِ والتمثلات) في قلبِ الرهاناتِ المعاصرةِ للقوَّة الشاملةِ التي تتَّجِهُ أكثرَ فأكثرَ نحو طابَعٍ تعدديٍّ متكاملِ العناصرِ.
“في عصر القرية الكوكبية، وارتفاع الكلفة السياسية والبشرية والاقتصادية للعمل العسكري، وانفتاح الحدود أمام تدفق المعلومات والصور، رجحت أهمية العوامل غير المادية في الحساب العام للقوة التي باتت أكثر تعددية. نماذج سياسية جذابة، حيوية الإبداع الثقافي والفني، مبادلات رمزية وتدفقات تخاطب العقول والقلوب. الفكرة العامة التي يتسع نطاق تقبلها، أو على الأقل تمحيصها وبحث جدواها، في دوائر مراكز البحث وصناعة القرار، هي فرضية أن تحقيق المصلحة الوطنية بوسائل غير عسكرية وغير مباشرة في العلاقات مع الكيانات الأخرى في المحيط الإقليمي والدولي، أولى من تحقيقها بأعمال ذات طابع إكراهي زجري، غالبا ما تكون محفوفة بالمخاطر ومطوقة بحسابات استراتيجية وتكتيكية دقيقة”. (من مقال: الثقافة والقوة الناعمة). وقد ظهرَ مصطلحٌ جديدٌ هو الدبلوماسيَّةُ الثقافيَّةُ (هي تبادل المعلومات والأفكار والقيم والنظم والتقاليد والمعتقدات، وغيرها من جوانب الثقافة، بقصد تعزيز التفاهم المتبادل). (ميلتون سي كامينغز).
في استعراضنا لما يُطرحُ اليومَ من عناوين نجدها مرتبطة بِمُشكلِة تناقشُ أَمرَ المستقبلِ، وكيفَ علينا أن نَخلُقَ تحوّلا يجعلُ من عالَمِنا العربيِّ عالَما قادرا على أن يستجيبَ لما نعانيه في الحاضرِ من تدهور. وقد حاولَ المفكرونَ في الحقبةِ السابقةِ أن يقدِّموا حلولا، ولكنَّهم اختلفوا فيها باختلافِ المرجعياتِ المعتمدةِ في المعالجة، وكانت النتيجةُ ما نعانيه في حاضرِنا من إخفاق ماضينا في مقاربةِ أمرِ التحديث أو الحداثة
فالمشْهَدُ أصبحَ أكثرَ تعقيدا؛ ولكنَّ هناكَ استراتيجياتٍ تحاولُ إحياءَ مفهومِ “مستقبل الثقافة”؛ لإعادةِ رسمِ التوجهاتِ الوطنيَّةِ وتجاوزِ الإخفاقِ السياسيِّ والثقافيِّ الذي قادَ إلى التخلُّفِ والاستبدادِ وانتشارِ ظاهرةِ الإرهابِ محليّا وإقليميّا فأصبحَ التغييرُ مطلبا داخليّا وخارجيّا في الوقت نفسِه.
بعد هذا التقديم نحاول هنا الوقوف عند: مقولةُ مستقبلِ الثقافةِ بين طه حُسين وسيد قطب
الدكتور طه حُسين حينَ يطرحُ أفكارا جديدة تهتزُ الحياة الثقافيَّةَ في مِصْرَ وينبري الكُتَّابُ والنُّقّادُ بالتحليلِ والشرحِ والنقدِ ما بين مهاجمٍ شديدِ العنفِ عليه وبين مُؤَيِّدٍ يشرح ما قال.. وفي سنة 1938 أَلَّفَ د. طه حُسين كتابَهُ “مستقبلُ الثقافةِ في مِصْرَ” وجاء توقيتُه مناسبا حيث مرَّ عامانِ على توقيعِ معاهدةِ الشرفِ والاستقلالِ.. وكان هذا هو الكتابُ الأولُ بعدَ الاستقلالِ الذي يهدفُ إلى رَسمِ سياسةٍ كاملةٍ للثقافةِ التعليميَّةِ ابتداء من التعليمِ الأوليّ إلى نهايةِ التعليمِ الجامعيّ ملاحظا ما يَجبُ أن يتوفَّرَ لخطواتِ التعليمِ من التناسقِ والانسجامِ المتماشيينِ في مراحلِه كلِّها بروحٍ واحدةٍ تَصِلُ إلى غايةٍ واحدةٍ، وهذا لم يكن بالعملِ اليسير..
ولم يرسمِ الكتابِ سياسةَ التعليمِ فحسب أو الثقافةِ المدرسيةِ بل تجاوزهما إلى ما بعدَ مراحلِ التعليمِ كلِّها.. إلى ثقافةِ المجتمعِ.. إلى المسرحِ والسينما والإذاعةِ والصحافة.. إلى الأدبِ والأدباءِ.. وإلى واجبِ الدولةِ في البحثِ العلميِّ والنشاطِ الفكريّ.. وإلى كلِّ ما يتَّصلُ بكلمةِ “ثقافة” بكلِّ معانيها.
ولم يكنِ الكتابُ جديدا بموضوعهِ بِقدْرِ ما كان جديدا بشكلِهِ وتنسيقِهِ.. فقد اعتادَ الكُتَّابُ أن يبحثوا في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ التعليمِ بشكلٍ مستقلٍ، وأن يفصلوا بينَ الحديثِ عن الثقافةِ في المدرسةِ والثقافةِ في المجتمعِ واعتادوا أنْ يبحثوا في كلِّ لونٍ من ألوانِ الثقافةِ منفردا، وألَّا يرسموا جهة محددة وغاية أساسيَّة من هذهِ الثقافاتِ جميعا.
إذ كان يرى في الثقافةِ خصوصيَّة تدفعُ إلى المستقبلِ دفعا؛ لأنَّها تَتَّصل بنفوسِنا اتصالا عميقا، هكذا تكلم د. طه حسين في كتابه “مستقبلُ الثقافةِ في مِصْرَ” إذ يراها متميزة بخصالِها، وأوصافِها التي تَنْفَردُ بها عن غيرها من الثقافاتِ، كما يقولُ، وأوَّلُ هذهِ الصفاتِ المُمَيِّزةِ أنَّها تقومُ على وحدتِنا الوطنيَّة، وتَتَّصِلُ اتصالا قويّا بنفوسِنا الحديثةِ كما تتَّصِل اتصالا قويّا عميقا بنفوسِنا القديمةِ أيضا، ولأنَّها تصوِّرُ آمالَنا ومُثُلَنا العليا في الحياةِ؛ فهي تتَّصلُ بمستقبلِنا أيضا بل هي تدفعنا إلى هذا المستقبل دفعا، بقوله
“لك أن تنظر في أي لون من ألوان العلم والأدب والفن التي ينتج فيها العلماء والأدباء والفنانون المصريون فسترى أنها مطبوعة بالطابع المصري القوي الذي لم يستطع الزمان أن يمحوه أو يعفو آثاره، سترى فيها هذا الذوق المصري الذي ليس هو ابتساما خالصا ولا عبوسا خالصا لكنه شيء بين ذلك، فيه كثير من الابتهاج، وفيه قليل من الابتئاس، وسترى فيه هذه النفس المصرية التي تجمع بين الجدة والقدم والتي تثب إلى أمام لكنها تستأنى وقد تقف من حيث تستأنى، وقد تقف من حين إلى حين لتنظر إلى وراء، سترى فيها الاعتدال المصري الذي يشتق من اعتدال الجو المصري، والذي يأبى على الحياة المصرية أن تسرف في التجديد”. (طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر).
وبعد مرورِ أكثرَ من أربعةِ عقودٍ على وفاتِهِ؛ مازالت أفكارُ الدكتور طه حسين تثيرُ الجدلَ حتَّى اليومِ إلى الحدِّ الذي دفعَ أحدَ الباحثين إلى عنونةِ كتابهِ باسم “طه حسين مطلوبٌ حيّا أو ميتا”، وقد تعرَّضَ إلى الكثيرِ من النقدِ الذي يَصِلُ حدَّ المحاكمِ والتكفيرِ إلى جانب قَدْرٍ مماثلٍ من الأَتباعِ المعجبين المنافحين عنه إلى حدِّ التقديس.
وتزدادُ أهميَّةُ إعادةِ القراءة لكتابِهِ مع تجديدِ الهجومِ على مناهجِ التعليمِ في العالَم العربيّ؛ فقد جاءت تجربةُ د. طه حسين، في مرحلةٍ عانى فيها الأزهرُ من جمودٍ فكريٍ طويلٍ، وتزامنَ مع جهودِ الشيخِ محمد عبده ومدرستهِ الإصلاحيَّة في محاولةِ تطويرِ الأنظمة التعليميَّة. والأمرُ الثاني استقلالُ مصرَ وراهن التعليم فيها.
أمَّا الأمرُ الأوَّلُ: استياء د- طه حسين كغيره من المثقفين المصريين من تخلُّفِ الأزهرِ عن روحِ العصرِ، وجمودِهِ عند النُّظُمِ التقليديَّة التي لم يبرحها منذ قرون، خصوصا مع انتشارِ المدارسِ والجامعاتِ الأهليَّة التي عملت بنجاح على نشرِ الثقافةِ الغربيَّة بوسائلِ الجذبِ كافة التي عجزَ الأزهرُ عن استيعابها. (طه حسين بين التحرير والتغريب: ص6-2011) وهو يشير إلى هذا المعنى “وقد استبقينا الأزهر الشريف نفسه؛ ولكن أزمة الأزهر الشريف متصلة منذ عهد إسماعيل أو قبله ولم تنته بعد وما أظنها ستنتهي اليوم أو غدا، ولكنها ستستمر صراعا بين القديم والحديث حتى تنتهي إلى مستقرها في يوم من الأيام”. (طه حسين، مستقبل الثقافة: ص75).
ويتعلقُ الأمرُ الثاني في كتابه هذا بموقفٍ حاسمٍ من السياسةِ التعليميَّةِ والثقافيَّةِ التي يمكنُ فهمها انطلاقا من السياقِ التاريخيّ. فقبل سنتين من صدورِ الكتابِ تَمَّ التوقيعُ على اتفاقيَّةِ الاستقلالِ بين مِصرَ وبريطانيا التي كانت تحكمُ مِصرَ منذ سنة 1882، وهو ما فتحَ البابَ على مصراعيه أمامَ أسئلةٍ تتعلقُ بمستقبلِ البلادِ وخصوصا بانتمائها الثقافيّ وهويتها الوطنية. “أغراني بإملاء هذا الكتاب أمران: احدهما ما كان من إمضاء المعاهدة بيننا وبين الإنجليز…” (طه حسين، مستقبل الثقافة: ص11) ويمكن فهمُ الموقف المثالي لطه حسين الذي يرفضُ الاختلافاتِ الثقافيَّةَ بينَ مِصرَ وأوروبا انطلاقا من هذا السياق.
ولكنَّه أكَّدَ على ثلاثةِ عناصر في خطابه، هي: النقدُ (دور المثقف)، وأهميةُ المعرفةِ، والوصلُ بينَ الثقافةِ الأوروبيَّة والثقافة المصريَّة وهي عناصر فاعلة في مشروعِه “مستقبل الثقافة” أخذتْ طابَعا حجاجيّا بينه وبين نُقَّادِه. وفي ما يتعلّقُ بالعنصر الأوَّل (أي المثقف) ارتفعَ بالمثقفين فجعلهم طبقة خاصَّة ممتازة وهبتهم ثقافتُهم صفاتٍ ساميةٍ وأَلقتْ على عاتِقهم تبعاتٍ خطيرة. (طه حسين، فصول من الأدب: ص188-1949). أمَّا العنصر الثاني (أي المعرفة) فقد شغفَ بالمعرفة ورأى أنَّها تحمي الاستقلالَ، وتصِلُ بأصحابها إلى المجتمع الديمقراطيّ السليم، وهي التي تهيّئ للأمة المواطنَ الصالحَ، وهي أيضا قوامُ الحضارة والثروة… (طه حسين، خصام ونقد: ص165 -1950). أمَّا عن العنصر الثالث (الوصل بالحضارة الغربية) فقال “حياتنا المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربا وبعدا من الحياة الأوروبية باختلافات قدرة الأفراد والجماعات وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد”. (طه حسين، مستقبل الثقافة: ص40)، ويبدو أنَّه أكَّد في هذا الكتاب جملة من الأهداف هي:
نحو ثقافة متوسطيَّة: دافَعَ د. طه حسين بقوةٍ عن الموقف الحداثي نفسِهِ بعد انتقالِه في تشرين الثاني/ نوفمبر 1914 للدراسة في فرنسا، فقضى هناك أربعَ سنوات في “مونبلييه” وبعدها في باريس. بل حتى قبل التحاقهِ بالجامعةِ الفرنسيَّةِ كان خلال دراسته في الجامعةِ المصريَّة منغرسا في الفكرِ والأدبِ الأوروبيينِ؛ ولهذا لم تكن رحلتُه عبرَ المتوسط برحلة إلى عالمٍ غريبٍ عنه؛ فلم يشعرْ بتناقضٍ بين الثقافتين. ففي كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” الصادر سنة 1938، ينتقدُ الخطابَ الذي يقولُ بالاختلاف بين الحداثةِ الغربيَّةِ والتقاليد الشرقيَّة، وأنَّ الحداثةَ لا علاقةَ لها بالمجتمعاتِ الإسلاميَّة. فبينَ مِصرَ وأوروبا لا وجود في نظرِهِ لحدودٍ ثقافيَّة، بل عكسُ ذلك هو الصحيح؛ فالمنطقتانِ تشتركانِ في ثقافةٍ متوسطيَّةٍ ذاتِ مشاربَ مختلفةٍ يونانيَّةٍ ورومانيَّةٍ، فقال “مهما نستقص فلن نجد ما يحملنا على أن نتقبل أن بين العقل الأوروبي والعقل المصري فرقا جوهريا”. (طه حسين، مستقبل الثقافة: ص30).
التعليمُ طريقٌ إلى الحداثةِ: يتعلقُ الأمرُ في كتابِ د. طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر” بموقفٍ حاسِمٍ من السياسةِ التعليميَّةِ والثقافيَّةِ التي يمكنُ فهمُها انطلاقا من السياقِ التاريخيِّ. فقبل سنتين من صدور الكتاب تَمَّ التوقيعُ على اتفاقيَّة الاستقلال بينَ مِصرَ وبريطانيا التي كانت تحكمُ مِصرَ منذُ سنةِ 1882، وهو ما فتحَ البابَ على مصراعيه أمامَ أسئلةٍ تتعلقُ بمستقبلِ البلادِ وخصوصا انتماءها الثقافيّ وهويتها الوطنيَّة. “فنحن بين اثنتين: إما أن ننكر ماضينا كله ونجحد إسلامنا جميعا ونرفض مجد المسلمين الذين أسسوا الحضارة الإسلامية وما أظننا مستعدين لشيء من هذا، وإما أن ننهج نهجهم ونذهب مذهبهم بأسباب الحضارة الأوروبية في قوة كما أخذوا هم في قوة بأسباب حضارة الفرس والروم”. (طه حسين، مستقبل الثقافة: ص46-47).
إصلاحُ النظامِ التعليميِّ: مع تحقيقِ الاستقلال في عام 1936 بدا الطريقُ مُعبَّدا أمامَ بناءِ مِصرَ الحديثة. وقد اشترطَ د. طه حسين لتحقيقِ ذلك إصلاحا جذريّا للتعليم. ومنذُ دستورِ سنة 1923، الذي نَصَّ على التعليمِ الإجباريِّ للجنسين، وعلى مجانيةِ التعليمِ في ما كان يسمى بالمكاتبِ العامَّةِ التي تطورت عن الكتاتيبِ القرآنيَّةِ لم تكن تقدِّمُ نظاما تعليميّا حقيقيّا، ظلَّت المدارسُ الحديثةُ التي كانت تعتمدُ المنهجَ الغربيّ حكرا على من يستطيع دفع تكاليفِ الدراسةِ. وعبر هذهِ المدارسِ يُمكن الحصولُ على مستوى تعليميٍّ كبير فقط، والوصولُ إلى مناصب عالية في جهاز الدولة. وهو ما يعني وجودَ نظامٍ طبقيٍّ يخدِمُ مصالحَ البرجوازيَّةِ ضد الطبقات الفقيرةِ. وقد اعتقدَ د. طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” بإمكانية أن تلعَبَ المدارسُ الابتدائيَّةُ دورا في تقويةِ وحدةِ المجتمعِ المصريِّ، ولكنَّهُ اكتشفَ خلال عملِهِ كمستشارٍ لوزارةِ التعليمِ من سنة 1942 وحتى سنة 1944 البناءَ المزدوجَ للنظامِ التعليميّ الذي يهدِّدُ بانقسامِ المجتمعِ. (أندريا سفليتش، مشروع طه حسين الحداثي)
ونَجِدُ عرضا لهذا المشروعِ الحداثيّ كما جاء في مقدمةِ كتابه “مستقبل الثقافة” وقد كتبَهُ الوزيرُ أحمد سرور، ومن أهمِّ المبادئ التي أكَّدَها د. طه حسين ما يأتي:
- المطالبةُ بإشرافِ الدولةِ على شؤونِ التعليمِ، فالدولةُ هي المسؤولةُ عن تكوينِ العقليَّةِ المصريَّةِ تكوينا يتلاءمُ والحاجةَ الوطنيةَ الجديدةَ.
- أنَّ التعليمَ الإلزاميَّ ركنٌ من أركانِ الحياةِ الديمقراطيَّةِ الصحيحةِ، بل هو ركنٌ من أركانِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ، والدولة الديمقراطيَّة ملزمةٌ بأن تَنْشُرَ التعليمَ الأساسيَّ…
- يجبُ تكوينُ جيلٍ جديد من المعلمين الأكفاء لكي يَتمَّ التعليمُ الأساسيُّ.
- أنَّ الفقرَ والغنى يجبُ ألَّا يكونَ لهما أثر في تحقيقِ العدالةِ والمساواةِ؛ لذا يجبُ ألَّا نُفَرِّقَ بين الغنيِّ والفقيرِ في فرصِ التعليمِ.
- يجبُ أن يسمحَ لأبناءِ الشعبِ مواصلةَ فُرَصِ التعليمِ ما دامت قدراتهم الذهنيَّةُ تسمحُ بذلك.
ويرى د. طه حسين أنَّ إصلاح التعليم يُمكنُ أن يتحقَّقَ عن طريق أربعةِ أمور، هي:
- إنشاءُ مجلسِ التعليمِ الأعلى، تُمَثَّلُ فيه فروعُ التعليمِ كلُّها، وتُمَثَّلُ فيه عناصرُ ليست من وزارةِ المعارف.
- إعادةُ التنظيمِ لمراقباتِ التعليم (الإدارات التعليميَّة).
- إصلاحُ التفتيشِ (التوجيه الفنيّ) وإعادة النظر فيه.
- إصلاحُ نظامُ الامتحاناتِ وجعل الامتحاناتِ وسيلة وليست غاية. (مقدمة كتاب مستقبل الثقافة: ص5-6).
ويبدو أنَّ د. طه حسين أراد أن يؤسِّسَ للهُويَّةِ الوطنيةِ بالتعليم، وتشرفُ الدولةُ على توجيهه؛ فنجده في تأكيدِهِ إشرافَ الدولةِ على التعليمِ الأهلي بشقيهِ الحديث والدينيّ قال عن الأول “إذا طلبنا إلى الدولة ألا تأذن لمدرسة أجنبية أن تعلم في مصر؛ إلا إذا كان التاريخ القومي أساسا من أسس التعليم فيها…”. (مستقبل الثقافة: ص58) وقال عن التعليم الآخر “ولكني أريد أن يصور التعليم الأزهري تصويرا يلائم هذه الحاجة الوطنية التي قدمت تفصيلها: إلى تكوين الوحدة المصرية من جهة، وإلى تثبيت الديمقراطية وحماية الاستقلال من جهة أخرى”. (مستقبل الثقافة: ص60)، وحاولَ أنَّ يَردَّ على النقد الاستشراقيّ الذي ألحَقَ مِصرَ بالعقل الشرقيّ، قال أحمد سرور “إن الكتاب دحض دعوتين أساسيتين أشاعهما الاستعمار: الأولى، تفوق العقلية الأوروبية على سائر عقليات أجناس قارات العالم الأخرى والثانية اقتصار التعليم على الصفوة في أبناء الإقطاع وأبناء كبار العاملين في الإدارة الإنجليزية”. (مقدمة كتاب مستقبل الثقافة: ص5).
وقد انتقدَ ساطعُ الحصريُّ د. طه حُسين، بقوله “يخلط طه حسين المسائل ببعض ويدخل بعضها في بعض وكثيرا ما حاول أن يبرهن على كل قضية بمجموعة قضايا أخرى أكثر حاجة للبرهنة من القضية الأصلية التي طرحها”.
وتعرَّضَ سيدُ قطب للكتاب مناقشا ومحلِّلا، وركّز على القضية الأساسيَّة للكتاب وهي دعوةُ الدكتورِ طه حُسين إلى أن تكون ثقافتُنا المستقبليَّةُ ثقافة أوروبيَّة خالصة وأن يكونَ اتجاهُنا في الحياةِ أوروبيّا وأن نتأثَّرَ بأوروبا.
وتساءَلَ سيدُ قطب بقولِهِ “علامَ يبني د. طه حُسين، نظريتَهُ أنَّ مِصرَ أُمَّةٌ غربيَّةٌ؟”..
وهنا وقفَ سيدُ قطب، ورأى أنَّ النزاعَ والوفاقَ السياسيَّين لا يعنيان دائما نزاع العقلياتِ ووفاقها، وإذا صَحَّ أن هناك اتصالا بين العقليَّةِ المصريَّةِ واليونانيَّةِ كان هناك افتراقٌ بين العقليَّة المصريَّةِ والفارسيَّة، فمثلا في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين كانت اليابانُ والصينُ في حربٍ طاحنةٍ وهما فريقٌ واحدٌ في رأي الدكتور، وكانت إيطاليا تعادي فرنسا وهما أمتان لاتينيتان أوروبيتان من فريق عقليٍّ واحد في رأيه.
مع تحقيقِ الاستقلال في عام 1936 بدا الطريقُ مُعبَّدا أمامَ بناءِ مِصرَ الحديثة. وقد اشترطَ د. طه حسين لتحقيقِ ذلك إصلاحا جذريّا للتعليم. ومنذُ دستورِ سنة 1923، الذي نَصَّ على التعليمِ الإجباريِّ للجنسين، وعلى مجانيةِ التعليمِ في ما كان يسمى بالمكاتبِ العامَّةِ التي تطورت عن الكتاتيبِ القرآنيَّةِ لم تكن تقدِّمُ نظاما تعليميّا حقيقيّا، ظلَّت المدارسُ الحديثةُ التي كانت تعتمدُ المنهجَ الغربيّ حكرا على من يستطيع دفع تكاليفِ الدراسةِ
ويضِيفُ قطب أن المستعمراتِ اليونانيَّةَ في مِصرَ القديمةِ لم تكن مرضية من المصريين، وإنَّما كان يسمحُ بها بعضُ الفراعنةِ المكروهين من الشعبِ لليونانيين المرتزقة وكان المصريون ينقمون على هؤلاءِ؛ بسبب تقربِهم للإغريق، ويصفوهم بأقبح الصفات. (سيد قطب، نقد كتاب مستقبل الثقافة: ص11-14 -1969).
وناقشَ قطب هذا الرأيَ، ورأى أنّ الفلسفةَ اليونانيَّةَ امتدَّت إلى الإسلامِ، وهذا لاشكَّ فيه، ولكنَّه ينكرُ أنَّ الأديانَ تطبعُ الشعوبَ بفلسفتِها وقضاياها المنطقيَّةِ مؤكِّدا أنَّ المؤثِّر الأوَّلَ للأديانِ هو نظامُها الروحي، وهو تبشيرُها وإنذارُها، وهو الصورةُ الغامضةُ التي تنطبِعُ في نفوسِ أتباعِها، ثُمَّ بُعدُ قوانينِها ونُظُمِها الاجتماعيَّة إنْ كان فيها (كما في التوراة والقرآن) مثل هذه النُظُم.
وفي النتيجةِ يوضِّحُ سيدُ قطب حقيقةَ فكرِهِ، ويوضِّحُ مذهبَهُ بشموليَّةِ الدين، ووجوبِ تدخلِّ الدينِ في كلِّ المجالاتِ السياسيَّةِ والاقتصاد والتشريع، ووو… ويرى أنَّ التوراةَ والإنجيلَ يحويان بَعدَ اللاهوتِ نُظُما وشرائعَ وحدودا دينيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة، والإنجيلُ يكادُ يَخْلو مِن هذا كلِّهِ، فالمسيحُ (عليه السلام) إنَّما جاءَ داعيا للصفاءِ الروحيّ والرحمةِ والتسامحِ والزُّهدِ، ولكنَّه لم يُظهرْ أيَّ إشاراتٍ للنظمِ السياسيَّةِ أو الاجتماعيَّةِ؛ ومن هنا استنتجَ سيد قطب أنَّ المسيحيَّةَ حين امتدَّت إلى أوروبا وصلت إليها نظاما روحيّا وإرشادا خلقيّا، ولكنَّها لم تضعْ لها أُسُسا للتشريعِ والاقتصادِ والسياسةِ كما وضَعَ القرآنُ؛ لذا بَقِيَ العقلُ الأوروبيُّ يُسيطرُ على الحياةِ الدنيويَّةِ، ويشرِّعُ لها ويتصرَّفُ فيها فلم يتغيَّر منه شيء مع المسيحيَّة. أمَّا القرآنُ فقد وضعَ العقلَ المصريَّ في نطاقٍ معيَّنٍ وهو نطاقُ التشريعِ القرآنيّ، ومن هنا كان لا بدَّ أن يؤثِّرَ في هذا العقلِ ما لا يؤثِّرُ الإنجيلُ، وأن يبقى دائمَ الأثرِ حتى أخذت تتحلل منه الدولةُ بالتشريعِ الرومانيِّ والقوانين الفرنسيَّةِ وهو مع هذا يظلُّ شديدَ الأثرِ في عقليةِ التشريعِ المصريّ. (سيد قطب، نقد كتاب مستقبل الثقافة: ص20-23 -1969).
وينتهي الاختلاف بين الاثنين حين وصل سيدُ قطب إلى عنوان “الدولة والتعليم العام” فقال “إلى هنا تنتهي المباحث المعقدة ويجاوزها الدكتور إلى ميدان آخر هادئ لا التواء فيه ولا تعقيد وينطلق مستعرضا ناقدا في عذوبة وصفاء نفسي وصراحة جميلة”. (سيد قطب، نقد كتاب مستقبل الثقافة: ص34-1969)، ويسودُ الاتفاقُ بينَ الطرفين في ما يتعلقُ بالإصلاحِ التعليميّ.
إنَّ الاختلافَ في مقاربةِ المرجعياتِ والهُويَّةِ الثقافيَّةِ، وهي مجال يتعلَّقُ بالآخر، وهو الحقلُ الذي مازالَ حاضرا في مقاربتِنا المعاصرةِ بين دعاة الهُويَّةِ ودعاة الاختلافِ، بينَ تيارات الخطابِ الإسلاميِّ والتياراتِ المدنيَّةِ العلمانيَّة.
وقد منحتْ أحداثُ الربيعِ العربيِّ مجالا آخرَ لمراجعةِ التعليم والثقافةِ من هيمنةِ الدولةِ الشموليَّةِ التي جعلت كلَّ شيءٍ من أجل قولبةِ الفكرِ، وحوَّلتِ التعليمَ إلى مجالٍ من أجل قولبةِ القناعةِ الفكريَّةِ والسياسيَّةِ في ظِلِّ غيابٍ مطلقٍ للحقوقِ المدنيَّةِ، وإلى إخفاق في التنميةِ والإصلاحِ، وإلى التعليمِ الذي تحتلُّ به جامعاتُنا ذيل القائمةِ عالميّا؛ فهي مؤسَّساتٌ لا تنتجُ معرفة ولا ديمقراطيَّة، بل تنتجُ حالة من العجز.