مشكلات في أطروحات ميشال أونفري

الجمعة 2015/05/01

في تقديري أن ميشال أونفري ينتمي أكثر إلى هذا النموذج الثاني وربما لأنه لا يملك نسقا فلسفيا صارما على غرار أنساق الفلسفات النسقية المعروفة في تجارب كانط أو هيغل مثلا. رغم ذلك فإن تصنيفات الدارسين تؤكد أن ميشال أونفري منهمك في “الدفاع عن الرؤيا الأبيقورية والإلحادية للعالم”، ويضيف دارسون آخرون موضحين أن فكره الذي يدافع عنه “متأثر أساسا بفلاسفة مثل نيتشه وأبيقور”.

بالإضافة إلى هذه التصنيفات لمرجعيات ميشال أونفري فإن دارسين آخرين يعتبرونه أيضا متأثرا بالمدرسة الفلسفية التي تنهض “على مجاراة الطبيعة وعدم المبالاة بالعرف”. ثم إن ميشال أونفري كما وصفته إحدى الموسوعات متأثر أيضا “بالمادية الفرنسية وبالفوضوية الفردية”. ففي هذا الحوار المنشور في هذا العدد من مجلة “الجديد” والذي أجرته مع أونفري أسما كوار حصريا فإننا لا نجد فيه تحليلات وتوضيحات لهذه المرجعيات بدقة وتفصيل وعلى نحو منهجي، ولا نراه منشغلا بتحليل وتركيب منهجي للأركان التي تتأسس عليها فلسفته، أو تنطلق منها سواء على صعيد التعامل مع المفاهيم والنظريات.
بل فإننا نراه يقدم في هذا الحوار أحكامه حول مجموعة من القضايا والظواهر الساخنة وفي صدارتها العنف المادي الذي يحرض عليه القرآن والسنة النبوية، والإنجيل بقسميه (العهد القديم والعهد الجديد) والذي ارتكب ويرتكب عبر التاريخ، كما يزعم أونفري، باسم المنظومات الدينية. إلى جانب هذا يطرح أونفري قضية العلمانية والدين، والإسلاموفوبيا، والمشكلات التي تنتج عن اندماج أو عدم اندماج الجالية المسلمة في المجتمع الفرنسي وفي الفضاء الأوروبي عموما، فضلا عن قضايا أخرى منها هيمنة الإعلام المنحاز وغير العادل.
في هذا المقام ينبغي التذكير بسرعة أن أونفري يشجب في هذا الحوار العدوان الغربي على العراق وأفغانستان وغيرهما من الدول الأخرى، وفضلا عن ذلك فهو ينتقد ويرفض الإرهاب. إنه بهذا يبدو ظاهريا أنه موضوعي وغير منحاز في مواقفه وتحليلاته.

في هذا السياق أوضّح أنني لن أقدم هنا دراسة مفصلة لجميع القضايا التي يثيرها هذا الحوار بل أكتفي بتسجيل بعض الملاحظات السريعة فقط حول منهجية أونفري ومن ثمة حول رأيه في عنف التطرف الديني الإسلامي. أشير باقتضاب إلى النقطة الأولى أولا وتتلخص في المشكلة التي تتمثل في كون أونفري يدرس النص الديني على أساس موقف بنيوي في الغالب، أي وفقا لشعار “لا شيء خارج النص”، وأعني بهذا أنه لا يدرسه في سياقه التاريخي، وعلى ضوء مستوى مجتمعات ما يسمّى بأهل الكتاب في تلك المراحل التي كان يغلب عليها التفكير الأسطوري والهوَامي بنسب مختلفة طبعا.

كما أنه لا يدرس الأسباب الكامنة وراء التمركز الديني في المراحل الكولونيالية الأوروبية-الغربية التقليدية منها والحديثة في فضاء العالم الإسلامي بشكل خاص. في هذا السياق بالذات يمكن أن نلاحظ أيضا أن ميشال أونفري لا يحدثنا عن مساهمات الاستعمار الفرنسي والأوروبي في تشجيع الاتجاهات الدينية الإسلامية الأصولية في المجتمعات المستعمرة، وعن رفض الاستعمار الفرنسي فصل الدين الإسلامي عن الإدارة الاستعمارية أسوة بما كان عليه الوضع في المجتمع الفرنسي بداخل الجغرافية الفرنسية الأصل كما حصل في نموذج الجزائر المستعمرة مثلا. فهو لا يتوقف عند الطلب الرسمي الذي تقدمت به جمعية العلماء المسلمين المعتدلة في عام 1947 م ودعت فيه فرنسا إلى تطبيق مبدأ العلمانية على الجزائريين ولو في إطار الشرط الكولونيالي، والعمل بأسلوب فصل الدين عن الدولة الاستعمارية المركزية ولكن طلبها قوبل فورا بالرفض المطلق. هل يمكن نكران دور فرنسا في تشجيع الإسلامي الأصولي في الجزائر؟ ثم أليس لهذا السلوك الاستعماري تأثيراته السلبية على حاضر الدولة الجزائرية التي لم تفك الارتباط بهذا الميراث إلى يومنا هذا؟
أونفري لا يذكر حتى بعض الحركات الإسلامية المعتدلة والثورية أو تلك الشخصيات الإسلامية التي دفعت ثمنا غاليا جراء رفضها في الماضي، وهذه الشخصيات والشرائح والجماعات الرافضة في عصرنا للتعصب الديني

فضلا عما تقدم فإن ميشال أونفري لا يبرز للقارئ العلل الأساسية التي فرضت على الجاليات المسلمة ظاهرة النكوص إلى الإسلام التقليدي والأصولي واتخاذه ملجأ ومهربا سواء في المهجر الفرنسي أو في مهاجر عدد من الدول الغربية. وهنا ينهض هذا السؤال: ألم يلعب التهميش الاقتصادي وتكريس التراتبية الاجتماعية التعسفية وعدم الاعتراف بخصوصيات وتنوع الهويات الثقافية لهذه الجاليات والعزل المنهجي لها في فضاءات الإقامة والسكن الدونية، دوريا محوريا أو جزئيا على الأقل في دفع شريحة معتبرة من مكوَنها البشري دون وعي منها حينا وجراء نزع الثقة في ديمقراطية المتروبول المزدوجة المعايير حينا آخر أو على نحو متزامن معا إلى إحياء مخزون الثقافة التقليدية بداخل أوساطها بما في ذلك طقوس المضمون الديني التقليدي.

هناك ملاحظة أخرى تنبغي إثارتها بخصوص موقف أونفري من الوحي الإسلامي ومن السيرة النبوية اللذين يرى أنهما يتضمنان ثنائية متضادة ومتناقضة. فهو يشخص هذا التناقض بقوله بأنهما يحرضان على ممارسة العنف والقتل أحيانا كثيرة، وعلى السلم قليلا حينا آخر. بهذا الخصوص يقول أونفري ما يلي “دعينا نتفق أولا على أن القول بوجود آيات في القرآن تدعو إلى الحرب وقتل الكفار وإلى الذبح، وتذكر أن محمدا نفسه كان أحد الذين ساهموا شخصيا في القتال، لا ينبغي أن ينظر إليه باعتباره كرها للإسلام، إلا أن ينكر أن القرآن هو القرآن الكريم، وقد كان للنبي حياته الخاصة به! هناك العديد من السور التي تضفي الشرعية على أعمال العنف باسم الإسلام. هناك آيات أخرى أقل عددا ولكنها موجودة، تدعو إلى المحبة والرحمة والرأفة، وترفض الإكراه. يمكن للمرء أن يستدل بهذه وتلك.وحينها سنحصل على طريقتين لنكون مسلمين. طريقتان متناقضتان تماما.

ماذا عن الآية التي تدعو إلى “إبادة الكفار عن آخرهم” أو ماذا عمّا هو مستخرج من السيرة “أي يهودي يقع بين يديك، اقتله” (II.58-60). وأيضا ” وقاتلوا المشركين كافة، حيثما وجدوا”؟ في تقديري فإن وجهة نظر أونفري هذه تقترب جوهريا، في شق منها فقط طبعا من التصريحات الواردة في مؤلفات الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال الذي يحفل كتابه الشهير “أفكار” (Pense) بالتهجم على النبي محمد واتهامه بالتعصب وبالنزوع إلى الحرب، وعلى الدين الإسلامي. في هذا الكتاب الذي يدرّس في المدارس الفرنسية كنص أساسي إجباري قال فيه باسكال حرفيا وذلك في سياق كيل التهم للنبي محمد وللدين الإسلامي بأن الحقيقة لا توجد وراء جبال البرانس، وأن ما يوجد خارجها فهو مجرد هراء. إلى جانب هذا فإن أونفري يعيد بطريقته الخاصة بعض ظلال إنتاج الأفكار النمطية للمستشرقين اليمينيين – وخاصة أولئك المرتبطين ارتباطا مصيريا بظاهرة الاستعمار- حول الإسلام والمسلمين بشكل عام.
لا شك أن الفيلسوف، الذي يخلص بوضوح لموقفه الإلحادي، لا يستثني الإنجيل بعهده القديم والجديد معا من النزوع إلى التحريض على القتل والترهيب ومن تسويغهما وتبريرهما نظريا لارتكابهما عمليا. وهكذا نرى ميشال أونفري يحاول حينا أن يساوي بين ما يدعوه بالجزء الكبير الداعي إلى العدوان والقتل الموجود في صلب مضامين الكتب المقدسة المذكورة، كما أنه يساوي حينا آخر بين الجزء القليل فيها الذي يدعو إلى الرحمة ورفض الإكراه والتعسف المادي.
وبهذا الشأن بالذات فإن أونفري لا يذكر حتى بعض الحركات الإسلامية المعتدلة والثورية أو تلك الشخصيات الإسلامية التي دفعت ثمنا غاليا جراء رفضها في الماضي، وهذه الشخصيات والشرائح والجماعات الرافضة في عصرنا للتعصب الديني ولنزعة الحرب والاستعمار باسم الدين، واستخدام الدين استخداما خرافيا وغير عقلاني وغير سلمي فضلا عن نقدها وشجبها للتأويلات النظرية وللممارسات الدينية التطبيقية المتخلفة والمغرقة في الأصولية المتطرفة.
لا شك أنه توجد في الفضاء الإسلامي القديم والمعاصر تيارات واتجاهات دينية أصولية معادية للتقدم وللعقل وللحريات كما أنه لا يمكن بأيّ حال إنكار وجود التطرف الديني العنيف والدموي والمعادي لحوار الثقافات والحضارات ولكن هذا جزء من المشهد فقط لأنه هناك أيضا ما يناقض ويقاوم في داخل ما يسمى بالجغرافيا الإسلامية هذا النموذج من التيارات والاتجاهات الظلامية .
هناك ملاحظة لا تقل أهمية وهي تتصل بعدم وضوح العلاقة القائمة بين انبعاث الأصولية الإسلامية المعاصرة بإخفاقات الحداثة الأوروبية-الغربية عند ميشال أونفري. أعني بذلك أنه كثيرا ما يعزل ظاهرة استفحال التطرف الديني المعاصر في البيئة الإسلامية عن العنف المادي والرمزي للرأسمالية المفروضة حينا والمستوردة حينا آخر من طرف الأنظمة الموالية للغرب الرأسمالي والتي تجد تدعيما قويا منه.
إنه من السذاجة بمكان فصل دور المراكز الرأسمالية الأوروبية-الغربية الكبرى التي تحتكر الثروة وتمنع بطرق مختلفة أيّ فكّ للارتباط مع التخلف المادي والثقافي والعلمي داخل المجتمعات المنتمية تقليديا إلى كتلة العالم الثالث ومنها المجتمعات الإسلامية من توفير المناخ لإنتاج الظاهرة الدينية الأصولية المتطرفة.
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.