مصاباً بفايروس الكتب

الأربعاء 2020/04/01
الفايروس يعيد ترتيب العلاقات من جديد (لوحة الفنان فؤاد حمدي)

قبل أن يطلّ كورونا بأشباحه وفخوخه ودكتاتوريته ولامرئيته، كنت في شبه حجرٍ، أذهب إلى العمل ساعات قليلة ومحدودة في الأسبوع، بحكم الظروف والطلب وإثبات الوجود، وأعود إلى الروتين المنزلي وإرسال المقالات أونلاين، ذلك أن الإنترنت بدّل كثيراً من معايير العمل وألغى المسافات واخترع اللامكان والعالم الافتراضي.

أميل إلى البقاء في البيت معظم الوقت، حاجراً نفسي مع فرانز كافكا وموراكامي وأبي حيان التوحيدي والرصافي وديستويفسكي وربيع جابر والأساطير اليونانية والعربية، يمكن أن أصف ذاتي بكائن المكتبة الهش، وأمضي يومياتي مصاباً بفايروس الكتب، حتى إذا ما أردت دخول الحمام، لا أدخله من دون كتاب، كأن تلك اللحظة لا ينبغي أن أضيعها، حتى في زحمة السير أفكر ما إذا بإمكاني قراءة جملة أو جملتين.

 في زمن كورونا والحياة في ظل دكتاتورية مقنعة من نوع آخر، أروح أتخيّل لو أن الفايروس يخرج من كتابٍ من كتبي، أو أن الكتب مصابة بفايروسات وتقتل من يقرأ فيها. خيالات ركيكة وليست جديدة بالطبع، لكن رواية انبعاث كورونا من الوطواط، تحمل الكثير على التخمين.

 في جوانب الكتب، تُحدثنا ألف ليلة وليلة عن كتاب قاتل، يموت كل القراء الذين يجازفون بقراءته، وقد مات أحد الملوك بعد تصفحه وكان ذلك بمثابة انتقام متأخر واستثنائي من طرف أحد الحكماء الذي تمت معاملته بشكل جائر.

الكتاب القاتل في ألف ليلة وليلة صار كتاباً مسموماً في رواية أمبرتو إيكو “اسم الوردة”، فأمين المكتبة الأعمى، وهو شخصية مستوحاة من بورخيس، سمّم كتاب أرسطو “الشعر” كي يموت كل من يقرأ فصول الضحك التي تتعارض مع قوانين الكنيسة الصارمة، ثم التهم الكتاب وأحرق المكتبة في النهاية.

المهم أني قبل كورونا وخلالها وربما بعدها، أعيش مع فايروس الكتب ومصاباً به، لكن مكتبتي تخلو من أيّ كتاب عن الفايروسات أو تستبعد أيّ كتاب عن الخيال العلمي، وإن كنت في مرات كثيرة أحبّ أدب الديستوبيا واليوتوبيا، لكن كورونا في مشهديته ويومياته وتفاصيله ووقائعه، جعل أدب الخيال العلمي نقطة في بحر، ربما لم يعد ضرورياً أن نقرأ الخيال العلمي أو أدب الأوبئة طالما أننا نعيشها.

وفي الوقت نفسه ذهنية المؤامرة وشبحية الفايروس ستخلق وتدفع إلى ولادة الكثير من النصوص والأفلام إلى الوجود. الوطاويط بحد ذاتها كانت عنوانا لعالم الليل والكهوف والخيال، وأن تصبح مصدر فايروسات فهي ستقلب المعايير في الكتابة، حتى طرق مكافحة الوباء ستكون مصدراً لتدوين أنماط روايات وتقديم أفلام سينمائية.

قبل أن يطل كورونا بأشباحه، لم تكن الجرذان التي غزت وهران الجزائرية تخرج من رأسي، صورة قرأتها في رواية “الطاعون” لألبير كامو، تلك الرواية مكتوبة بشكل موارب عن الأوبئة الأيديولوجية، النازية وما فعلته في أوروبا وفرنسا تحديداً.

 وكورونا برغم الهول الذي أحدثه، أعتبره، أنا الجالس بين أربعة جدران، تفصيلاً  مقارنة ببراميل بشار الأسد وسكاكين داعش وسيوف الميليشيات الإيرانية، تلك اللحى المسمومة أكثر خطورة من كورونا، بل تلك الأوبئة الأيديولوجية الدينية أو العقول المصابة بكورونا الغيب وكورونا الأقليات أكثر خطورة عليّ من الأوبئة الآتية من الطبيعة.

أن يعيش المرء ثوران بركان أو تداعيات إعصار أو شبحية فايروس فهذا من الأمور النافلة، وإن كان الفايروس يعيد ترتيب العلاقات من جديد، لكن مشكلة “الهويات القاتلة” تبقى الخطورة الدائمة التي ولدنا في قلبها في الشرق الأوسط ولم ننج من براكينها، وهي في كل مرة تأتي بأشكال مختلفة.

فايروس الكتاب الأحمر أيضا الذي اخترعه ماو تسي تونغ كان أكثر خطورة من كورونا، جعل ماو في ثورته الثقافية الصينيين حقل تجارب لأفكار مزاجية واستبدادية، يقال إن كورورنا أكثر ما يؤثّر على المتقدمين في السن، أما فايروس الكتاب الأحمر فقضى على كل معارض أو من يفكر أن يكون معارضا، صنع الاستبداد الشرقي أقصى تجلياته، والاستبداد الشرقي سيعود ليحضر في الحرب على كورونا.

لوحة الفنان فؤاد حمدي
كورونا يرشدنا إلى تفاهة الوجود (لوحة الفنان فؤاد حمدي)

 وبغض النظر عن التنظير، يوم خبرنا بأول إصابة كورونا في بيروت، كان الأمر كافيا لأتوقف عن الذهاب إلى العمل، وأُمتنع عن جلب المزيد من الكتب إلى المكتبة المتخمة . لم تكن المسألة أني حجرت نفسي بين أربعة جدران بشكل إرادي، فهذا الأمر اعتدته، فقد سبق حجر كورونا أن المصارف اللبنانية حجرت على أموالنا، الاستيلاء على أموالنا جعلنا نقف كمتسولين على أبوابها بانتظار 100 دولار، بمعنى آخر كورونا الاقتصادي سبق كورونا يوهان. كنا نتوهم أننا نضع فلساً في متاهة المصارف اللبنانية، ظناً منا أن الفلس نحتاجه في لحظات الشدّة، “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، فإذا بالوباء المصرفي يسطو على قوت يومنا.

وباء المصارف اللبنانية سبق وباء كورونا، وإذ اتأمل الآن الأشهر أو السنوات القليلة الماضية في لبنان، فأحسب أنني أعيش بين موجات أوبئة، كأنها بروفا مصغرة ليوم القيامة، فخلال مدة قصيرة رأينا مشهد النفايات المتراكمة في الشارع، ولاحقا طوفان الطرق هنا وهناك، وحرائق مستعرة في كل المناطق الجبلية، وطرقات مقطوعة بسبب الثورة. وسط هذا عاش ابني عطلة مدرسية شبه مفتوحة، جعلته يشعر بالمقت بين أربعة جدران، وعلى هذا لم أكن أشعر بأني بين أربعة جدران، بقدر ما شعرت بشعور ابني الذي بات يقاتل نفسه ويقاتل كل شيء.

 القضية، هل ألبّي طلبات الابن أم أكتب، طالما اشتكت عائلتي مني بسبب فايروس الكتب، ربما أحتاج حجراً نفسيا لأخفف من وطأتها ومتاهتها ورملها، والرمل هنا ما قصده بورخيس عن لانهاية الكتاب، في زمن كورزنا أحاول أن أسرق الوقت، للكتابة، أقاوم النوم مقاومة شديدة، فأنا أنتظر لحظات آخر الليل للاختلاء بنفسي مع بعض فايروسات الكتب، وأبقى قبالة شاشة اللابتوب إلى أن أنهك وأستسلم، الاستراحة النفسية القليلة التي تحصل في زمن كورونا حين أذهب إلى جلب النسكافيه، أو قد أطل على الشرفة لدقائق أستطلع شارع كورونا وناسه.

لا أشعر أني في سجن، ولكن مجرد أن اذكر تداعيات كورونا، أحسب أني في بروفا على نظام استبدادي جديد، وأفكر بأشباح  يقولون إنها متوفرة على أي شيء، بل أتخيلها بحجم نيازك تضرب الأرض وننعم بعالم آخر.

أحسب أن كورونا يرشدنا إلى تفاهة الوجود، إذ أن فايروسا غير مرئي يقدر أن يجعل المرء جثة هامدة، من قبل كنا نسخر من الحياة نقول للآخر حقك رصاصة ثمنها دولار، اليوم أقل من فايروس، قدر هذه الشبح أن يلغي السينما والمطعم والمقهى والمونديال وكل أشكال التجمعات، بل قدر أن يهز العالم الأول قبل العالم الثالث، إيطاليا قبل اليمن، وإيران قبل غزة، وأميركا قبل غانا.

لا أستسيغ الكتابة ضمن موجة أدب الديستوبيا ولا أقدر على ذلك، فأنا ميال إلى جعل الواقع الذي أعيشه أقرب إلى الخيال والهذيان وليس الخيال أقرب إلى الواقع، أتخيل لو أنهم يتركون فايروس كورونا يتمدّد وينتشر من دون أيّ إجراءات وقائية وكمامات ومنظفات وأجهزة تنفس ومستشفيات ميدانية، وأسأل إلى أين سنصل وإلى أين سيصل؟ الطاعون الإسباني قتل من الأشخاص بعدد قتلى الحرب العالمية. هل الأرض بحاجة إلى أن يتقلص عدد سكانها؟

أتخيل تمدد كورونا من دون مقاومة هو مثل مشهد طوفان نوح بمعناه الأسطوري، كثيرا ما أتأمل الكون في ظل الاحتباس الحراري بأنه ذاهب نحو طوفان جديد، ثلوج تذوب في القطب الشمالي، غابات تحترق من الأمازون إلى أستراليا، ملايين الحيوانات تنفق، مدن تختنق بالتلوث، أنهار تجف، بحار تتلوث، ملايين الأطنان من البلاستيك هنا وهناك، بحر بلا سمك، سماء بلا طيور، وأنا أدوّن أتذكر رواية “العمى” لجوزيه ساراماغوا، أسأل في مخيلتي لو كان على قيد الحياة، ماذا كان سيكتب عن حجر مئات ملايين الأشخاص في البيوت.

لم أفكر يوما بالقيامة ومجيئها، أحسب أن الحياة نفسها هي القيامة وهي القيامة الدائمة، أتأمل كيف سينتهي الكابوس العالمي، لا أحسب أن القضية تحتاج الكثير من الجهد في زمن تطور الطب، فالحاجة أمّ الاختراع.

****

قصة متخيلة

كورونا: سأجعل الكتب مجرد صفحات بيضاء

رأيت في ما يرى النائم أن فايروس كورونا صار يتكلم ويعظ ويخبر قصصاً، وأخبرني فيما أنا نائم وغاطس في نومي، وكان يشبه في شكله أفلام كرتون ويجلس على حافة النافذة، تحت ضوء قمر بلون الأرجوان، أخبرني، أنه الآن يطارد البشر ويجعلهم يخسرون الاقتصاد والثقافة والرياضة والجلسات في المقاهي والحانات وإقامة حفلات الأعراس وحتى دفن الموتى، بل أثبت للبشر أن تطورهم ما زال هشاً، ثم أردف، قد أهزم الآن في مواجهة الجنس البشري، لكنهم لا يستطيعون سحقي، ستأتي اللحظة التي أطوّر معها نفسي وأكون أكثر شبحية، وأطير في الهواء. أعلمك الآن، أني في المرحلة المقبلة بعد سنوات، سأصيب ذاكرة الناس، سأجعل الحروف تختفي من الكتب وتصير مجرد صفحات بيضاء، بل سأجعل كل عقود التجارة والتأمين والمصارف تصير أوراقاً بيضاء، وتختفي كل صفحات الفايسبوك وغوغل، وتكون محنة البشر هي في كيف يعيشون إذا فقدوا الذاكرة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.