مصطفى إسماعيل دونمز: الترجمة مرآة
مصطفى إسماعيل دونمز، مترجم تركي شاب، من مواليد 1977، واحد من الأسماء التي بزغت في الفترة الأخيرة في سماء الترجمة من العربية إلى التركية، وإن كان بدأ مسيرته بترجمة الوثائق العثمانية إلى اللغة العربية، يؤمن بأهمية الترجمة، ويسعى لعقد تصالح بين اللغات عبر وسيط الترجمة، وهو بهذا يتفق مع فالتر بنيامين (في مقالته الشهيرة عن “عمل المترجم”) بأن “كل ترجمة هي إلى حد ما طريقة مؤقتة للتصالح مع غربة اللغات عن بعضها”.
تعددت ترجماته من العربية إلى التركية، فقدّم في فترة قصيرة الكثير من الأعمال للقارئ التركي على نحو، “أيبولا 76″ و”صائد اليرقات” للكاتب السوداني أمير تاج السر، و”ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، و”حارث المياه” لهدى بركات و”زايا” لريم الصقر، و”نكات للمسلحين” لمازن معروف، كما يعكف حاليًّا على ترجمة “زمن الخيول البيضاء ” لإبراهيم نصرالله، وكتاب “مذكراتي في سجن النساء” لنوال السعداوي، وبصدد ترجمة رواية ثانية لهدى بركات. إضافة إلى ترجماته للوثائق العثمانية إلى اللغة العربية.
يعمل الآن رئيسًا لقسم الترجمة في جامعة سلجوق بمدينة قونيه، كما أنه متخصص في الوثائق العثمانية وترجمتها إلى اللغة العربية، وأيضًا هو مشرف على منصة تعليم العربية لمعهد الجزيرة للإعلام.
لا تقتصر ترجماته على العربية إلى التركية، بل يعمل على العكس أيضًا حيث يترجم من التركية إلى العربية فقدم الكثير من الأعمال المهمة منها “ولاة دمشق في العهد السلجوقي” و”ولاة دمشق في العهد العثماني” لصلاح الدين المنجد، وكتاب “تاريخ الزنكيين” في الموصل وبلاد الشام لمحمد سهيل طقوش (تحت الطبع) ، بالإضافة إلى ترجمته إلى رواية تاريخية وثائقية من التركية إلى العربية وهي قيد الطبع اسمها “عظام في النيل المهدي السوداني وجوردون باشا” للكاتب التركي عمر إيرتور.
شارك في الكثير من المؤتمرات المتعلقة بالترجمة منها مشاركته في مؤتمر “الترجمة وإشكالية المثاقفة” الذي عقد في مدينة الدوحة بقطر، وقدم ورقة ضافية عن “الرقابة في ترجمة الأعمال الدرامية والمسلسلات التركية: مسلسل قيامة أرطغرل أنموذجًا”.
في الحوار الذي أجرته “مجلة الجديد “معه، أثارت معه الكثير من الإشكاليات الراهنة المتعلّقة بواقع الترجمة وآلياتها، وشيخوخة الترجمة وما يرتبط بها من إعادة ترجمة الأعمال من جديد، وكذلك صعوبة ترجمة المحكيات، وآليات التغلب على هذه الصعوبة، ورؤيته لترجمة الشعر التي مالت إلى مدرسة استحالة ترجمة الشعر على نحو ما صاغها الجاحظ قديمًا في كتابه الحيوان، ويدعم لرأيه كذلك بما قاله الإيطالي دانتي إليجيري عن فساد جماليات الشعر وانسجامه في حالة نقله إلى لغة أخرى. كما تحدّث عن علاقة الفصحى والعامية، لا على مستوى الترجمة، وإنما على مستوى الدرس الأكاديمي، وهو النهج الذي أخذ في الانتشار والامتداد في الفترة الأخيرة، في بعض الجامعات التركيّة (سلجوق وغازي) وكذلك الغربية على نحو الجامعة الكاثوليكيّة في ميلانو، وجامعة القاهرة في مركز تعليم اللغات الأجنبية. وتطرق الحوار إلى سوق الترجمة، فكشف عن الكثير من المخبوء عنه في سياسات الترجمة، وهيمنة دور النشر وتدخلاتها في اختيارات الأعمال وفقًا لسياسة العرض والطلب، وأحيانًا البيست سيلر، وهو ما نتج عنه – في قليل منه – ترجمة أعمال لا أهمية لها، إلا أن سياسة الربح المادي كانت هي الحاكمة.
كما تطرق الحوار إلى الجوائز الأدبية وتأثيرها على سوق الترجمة، وتضمن الكثير من آرائه في أعمال أورهان باموق وأليف شفق، والأخيرة اعتبرها (في رأي صادم) لا تمثّل الهُوية التركية، بل هي تنتمي إلى الثقافة الغربية بحكم التنشئة، والكتابة باللغة الإنجليزية، وأشار في الحوار إلى عبدالرزاق جرنة الفائز بجائزة نوبل مؤخرًا، وكيف كان المترجمون الأتراك سباقين في التعريف به إلى القارئ التركي، فقد صدرت له خمسة أعمال قبل فوزه بنوبل 2021.
هذا الحوار فرصة للتعرف على المزيد من الآراء والقضايا من منظور المترجم التركي.
قلم التحرير
الجديد: بدايتك في الترجمة تعود إلى مرحلة دراسة الدكتوراه في جامعة مرمره، كانت مع الوثائق العثمانية كما ذكرت في حوار سابق لك، ثم كانت باكورة أعمالك ترجمة مجموعة “نكات للمسلحين” للكاتب الفلسطيني مازن معروف. ما أسباب التحوّل من الوثائق التي هي حقائق معتمدة على لغة تقريرية، إلى النصوص الأدبية التي هي قائمة على المجاز في الأساس؟ ثم جاءت النقلة من القصة القصيرة إلى الرواية مع الاختلاف في طبيعة النوعين، حدثنا عن هذه التحولات؟ وما الذي وجدته في ترجمة الوثائق إلى العربية، مقابل ما وجدته في ترجمة النصوص الأدبية للتركية؟
إسماعيل دونمز: أثناء دراستي للدكتوراه كنتُ أعمل في دار نشر مهتمة بالتاريخ بشكل عام، والتاريخ العثماني والوثائق بشكل خاص، لذلك كان من ضمن عملي ترجمة المخطوطات والوثائق العثمانية، وبسبب انشغالي بدراسة الدكتوراه لم أكن أملك الوقت الكافي للتفرغ للترجمة الأدبية، وبعد حصولي على الدكتوراه وتغيير عملي وجدت فرصتي في الترجمة الأدبية التي أهتم بها أكثر من بقية أنواع الترجمات، مع العلم أنني لم أترك ترجمة الوثائق العثمانية حتى الآن، حيث أنني أشرفت على الكثير من البحوث العلمية والبحثية من عدة دول عربية في مجال الوثائق العثمانية والمخطوطات.
طبعاً أنا اهتمامي الأكبر ينصبّ على الروايات حتى كذوق أدبي، وهذا ما جعلني أنتقل من ترجمة القصص القصيرة إلى الروايات فهي تحمل تكاملاً في البعد الأدبي وإبداعاً في التعبير ومساحة أوسع لخيال الكاتب مع العلم كانت لي تجارب في ترجمة بعض القصص القصيرة العربية إلى اللغة التركية في المجلات الأدبيّة التركيّة، أما بالنسبة إلى كتاب “نكات للمسلحين”، فهو كتاب جميل ويستحق الترجمة إضافة إلى أنه حاصل على جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية في الكويت ودخل في قوائم جوائز أخرى، وفي الحقيقة فإني أستمتع أكثر بالترجمة الأدبية للروايات لأنها تلامس شغفي بالتأليف الأدبي الذي أسعى جاهداً إلى دخول عالمه من أوسع الأبواب، أما فيما يخص المقارنة بين الترجمة التاريخية للوثائق والترجمة الأدبية، فالأولى تمثل حقائق كانت واقعاً في يوم من الأيام ومتعتي تكمن في إظهار محتويات هذه الوثائق التي غيّبت طويلاً عن العالم العربي، فاليوم من خلال الترجمة ننقلها إلى النور وإلى العالم العربي ليقرأ ويستمتع ويطلع على محتويات هذه الوثائق والمخطوطات القيمة التي تعبر عن الظواهر والأحداث التاريخية والمراسلات بين مركز الدولة والولايات التابعة لها وفرمانات سلطانية وغير ذلك، أما الترجمة الأدبية فهي قريبة من الإبداع مثل التأليف وهنا تكمن جماليتها كما قال جورج غونزاليز مور “المترجم هو شريك المؤلف”.
الجديد: دعنى أذهب بعيدًا قليلاً، إلى مرحلة البداية والتكوين؟ متى بدأت علاقتك باللغة العربية تحديدًا؟ وهل كان اختيار اللغة العربية في الدراسة قرارًا داخليًّا أم جاء الأمر بالصدفة، أو فرض عليك ككثير من الطلاب الأتراك الذين يدرسون اللغة العربية في الجامعات؟
إسماعيل دونمز: بدأت علاقتي باللغة العربية بفترة الدراسة الجامعية وكان اختياري لها نابعاً من داخلي فأنا أحب اللغة العربية وأستمتع بها وعلى سبيل المثال كنتُ أحب سماع أغاني أم كلثوم أو ربما كوني من مدينة إسكندرون والتي تحتوي على الكثير من الناس ذوي الأصول العربية وكنتُ أنا ذا الأصول التركية أسمع بعض الجمل منهم وفي الأسواق وكانت تلك الكلمات والجمل تشدني بشكل غريب فوجدت نفسي أميل إلى هذه اللغة الجميلة وأستمتع بدراستها وتعلّم مفرداتها حتى تمرّستُ بها وصولاً إلى قدرتي على ترجمة جواهرها الأدبية الرائعة.
الجديد: بصفتك تشاطرني المهنة، وهي تعليم اللغة العربية هنا (في تركيا)؟ لماذا لا نجد الإقبال من الطلاب على تعلّم اللغة العربية، مقارنة بالطلاب الأجانب (عرب وأفارقة ومن دول آسيوية) في تعلُّم اللُّغة التركيّة، فالطلاب الأجانب يمتلكون اللُّغة خلال سنة واحدة، هي مرحلة “التومر” وعلى العكس الطالب التركي نتيجته ضعيفة على مدار خمس سنوات دراسيّة مقارنة بالطلاب الوافدين؟
إسماعيل دونمز: باعتقادي ووفق خبرتي الطالب الأجنبي يجد نفسه في بلد ومجتمع يتحدث اللغة التركية فهو بالتالي مضطر إلى تعلم اللغة التركية في أقصر وقت ممكن والمتمثل بمنهاج مركز تومر الذي يوفر تعلم اللغة خلال مدة عام كامل، وطبعاً هو أساساً موجود ضمن المجتمع التركي ويواجه اللغة في السوق وفي الشارع وفي الماركت، وفي وسائل النقل وكل مكان وهذا معروف أنه يقصّر مسافة تعلم اللغة على الطالب، إضافة إلى كون الطالب الأجنبي يأتي إلى تركيا بغرض إتمام دراسته الجامعية وهو ملزم بأن يكون قادراً على التحدث والقراءة والكتابة والاستماع باللغة التركية، كي يتمكن من متابعة دراسته الجامعية في الجامعات التركية، أما الطالب التركي في بعض الكليات المهتمة بتدريس اللغة العربية سواء كمادة أساسية أو كلغة ثانية، فهو ينظر إليها كمادة مهنية يحتاجها في أمور معينة وليس بمهارات اللغة المعروفة وهي الاستماع والكتابة والقراءة والمحادثة، لذلك نجد الطالب التركي لا يضع كل اهتمامه في استيعاب اللغة بشكل جيد، ويهتم بعنصر أو عنصرين من مهارات اللغة فقط فمثلاً نجده يهتم بالقراءة ولا يهتم بالاستماع أو المحادثة ظناً منه أنه لن يحتاجهما في حياته العملية، وأحياناً تكون الكلية تحمل وجهة النظر نفسها، وهذا بالتأكيد خطأ كبير يقع فيه الطلاب الأتراك ومع الأسف فهم لا يكتشفون هذا الأمر إلا بعد دخولهم سوق العمل.
هذا بالإضافة إلى طبيعة مناهج التدريس المتبعة في الجامعات والتي تلعب دوراً في تصعيب الأمر على الطالب وضياعه في التقدم في اللغة، فنجد الطالب لا ينظر إلى اللغة العربية كلغة تواصلية وإنما يعتقد أنه إذا ركّز على القواعد وتشكيل الكلمات والإعراب فإنه سينجح في ممارسة اللغة لكن الحقيقة أن هذا الأمر خاطئ والأساتذة يلعبون دوراً في هذا الأمر من خلال تركيزهم على القواعد والإعراب وتصحيح أخطاء الطالب أثناء القراءة فيظن الطالب أنه يتوجب عليه القراءة بشكل صحيح أكثر من أن يفهم مضمون ما يقرأه، برأيي يجب أن نجعل الطالب يحب اللغة أولاً، وأن يفكر بأن اللغة للتواصل وليست للتعلم فقط، فالاستمتاع باللغة وكذلك العمل مستقبلاً، سيأتيان من خلال التواصل، وعليه فإنه يجب في المراحل الأولى من تعليم اللغة العربية أن نجعل الطالب يستمتع باللغة ويحبها من خلال التواصل فقط ثم ننتقل إلى مرحلة التركيز على القواعد التفصيلية، فالنحو في أيّ لغة كالملح في الطعام، الطلاب الأتراك يظنون أن القواعد هي الشيء الأساسي ولكن الحقيقة أن القدرة على التواصل حتى بكمية أقل من القواعد أو بأخطاء قواعدية أفضل من أن تكون ملماً بالقواعد وغير قادر على الفهم أو الحوار بهذه اللغة.
الجديد: في رأيك أيهما الأسرع انتشارًا اللغة التركية أم اللُّغة العربيّة؟ وما هي عوامل الانتشار؟ في المقابل ما هي أسباب عدم الذيوع؟
إسماعيل دونمز: وزارة الثقافة التركية تقدم دعماً للدور التي تترجم وتنشر الأعمال الأدبية التركية الكلاسيكية والمعاصرة، فما بين 2005 و2021 تمت ترجمة 2750 عملا إلى 60 لغة ضمن هذا المشروع في 85 بلدا، حيث بلغت عدد الكتب المترجمة إلى العربية 402 ضمن هذا المشروع، كما دعمت وزارة الشباب والرياضة بعض أعمال الترجمة من التركية إلى العربية وتواجدتُ في هذا المشروع لمراجعة الترجمة لخمسة كتب، كما تتم عملية الترجمة خارج إطار الدعم الحكومي في دور النشر المختلفة. سابقاً لم يكن هناك اهتمام كبير في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة التركية كما إلى اللغات الأوروبية والإنكليزية أيضاً، والسبب يعود إلى عدم اهتمام دور النشر بهذا الأمر وبالتالي عدم اهتمام الناس أيضاً بالاطلاع على الثقافة العربية من خلال الأدب، لكن هذا الأمر بدأ يتلاشى في السنوات الأخيرة حيث توسع الاهتمام باللغة العربية بشكل خاص في تركيا وبالتالي بالأدب العربي ما أثر على حركة الترجمة من العربية إلى التركية وتطور الأمر فأصبحت هناك لقاءات تباع فيها حقوق التأليف، ففي إسطنبول كل عام تقام مثل هذه اللقاءات وتباع فيها حقوق النشر والتأليف والترجمة لكتب عربية، وهذا يدل على اهتمام الدولة التركية بهذا الأمر والعمل على تطويره والذي جعل دور النشر أيضاً تهتم وتتسابق للترجمة من العربية إلى التركية والعكس من التركية إلى العربية، وفي معارض الكتب أيضاً نجد تواصلا بين الدور من أجل الترجمة.
الجديد: ترجمت لأسماء عربيّة من بيئات مُختلفة مثل السُّودان (أمير تاج السر) والأردن وفلسطين (إبراهيم نصر الله) ولبنان (هدى بركات) والجزائر(أحلام مستغانمي) وهي بيئات عربيّة لها محكياتها الخاصة، أولاً ما الهمّ المشترك بين هذه البيئات والتي حملتها مضامين الروايات عبر شخصياتها؟ وثانيا: ألم تجد صعوبة في هذا التعدد اللغوي، أقصد اللهجات العامية داخل النصوص؟ وكيف تغلبت على هذا؟
إسماعيل دونمز: كانت تجربتي في ترجمة روايات مختلفة لكتاب مختلفين من عدة دول عربية تجربة ناجحة ومفيدة، ولم أجد صعوبة كبيرة في التعدد اللغوي بينها كونها في أغلبها بالفصحى باستثناء رواية “حارث المياه” للكاتبة هدى بركات فقد كانت تحتوي على كلمات من الكردية ما جعلني أتعاون مع أكاديمي كردي الأصل، ولديه دراسات أكاديمية بخصوص اللغة الكردية لشرح هذه المفردات لي، كما تواصلت مع الكاتبة هدى بركات وتشاورت معها بخصوصها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى رواية “ذاكرة الجسد” للكاتبة أحلام مستغانمي كانت تحتوي على مفردات من اللهجة الجزائرية فاستعنت أيضاً بالدكتور جمال سَعادنَة من الجزائر وهو رئيس قسم اللغة العربية والأدب العربي في جامعة بطنة الأولى، وتشاورت معه في معاني المفردات المذكورة،
وإن كنتُ سأجيب على تساؤلك بخصوص الهمّ المشترك بين هذه البيئات والتي لاحظتها سواء بشكل واضح المعالم أو بين السطور أو ربما ما وراء الكلام كان يدور في إطار الظروف التي تعيشها هذه الدول من الحروب القائمة حالياً كما هو الحال في رواية “حارث المياه” للكاتبة هدى بركات التي تتحدث عن الحرب اللبنانية، وكذلك المجموعة القصصية “نكات للمسلحين” للكاتب مازن معروف التي كانت تدور حول الحرب اللبنانية أيضاَ، أو عن آثار الحروب التي ضربت في تاريخ ومجتمع البلاد التي حلّت بها كرواية “ذاكرة الجسد” للكاتبة أحلام مستغانمي والتي لا تكاد تمر فيها صفحة لا يذكر فيها شيء عن بقايا ومخلفات الحرب الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وكذلك في روايات الكاتب أمير تاج السر التي يسلط فيها الضوء في الكثير من الأحيان على الأوضاع الداخلية غير المستقرة في السودان.
الجديد: ألم تلاحظ معي أن معظم هذه الأعمال التي ترجمتها، أولاً تنتمي إلى نوع معين هو الرواية! فلم أجد في مشروعك أيّ نص شعري؟ هل هو انسياق للمقولة الشائعة بأن هذا العصر هو “زمن الرواية؟ أم ثمّة اعتبارات أخرى لديك؟ ثانيًا، أن هذه الأعمال حصل أصحابها على جوائز كالبوكر العربية وجائزة نجيب محفوظ وكتارا؟ هل معيار الترجمة لديك هو الشهرة والذيوع وهو ما يتحقّق بالترجمة؟ أم ثمة معايير أخرى؟ وما هي؟
إسماعيل دونمز: بالنسبة إلى اللغة العربية فأنا أجد متعة قراءة الشعر في لغته الأصلية فالترجمة ليست شعراً بالنهاية، وهناك آراء عن استحالة ترجمة الشعر كما قال الجاحظ في كتابه الحيوان “وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلّم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب لا كالكلام المنثور”، وكما يقول دانتي الإيطالي “لا يمكن نقل أيّ شيء تم سبكه شعرياً إلى لغة أخرى دون أن تفسد جماليته وانسجامه” ويقول أيضًا “يضيع اللمعان الشعري الموجود في النص الأصلي الذاتي في الترجمة” وهناك آخرون من الأدباء يتفقون مع وجهة النظر هذه، وبالمقابل نجد فئة من الأدباء والمفكرين يقفون ضدّ هذه النظرية كأمثال لامارتين حيث يقول “إنه يستمتع أكثر بقراءة الشعر المترجم لشاعر أجنبي أكثر من النص الأصلي”، ويقول بيراولت “إن تقييم عمل أحد الكُتاب ممكن من خلال ترجمة كتبه وليس من خلال النص الأصلي”.
وحسب ما أراه تجاه ترجمة الشعر فأنا لست ضد ذلك أبداً خاصة في ترجمة الشعر الحر أكثر من الشعر العمودي ولكن أي كتاب يترجم ينتظر تبنّي دار نشر له لتقوم بطباعته ونشره وتسويقه، والمشكلة تكمن أن دور النشر غير مهتمة بترجمة الشعر لعدم وجود قارئ للشعر المترجم غالباً ودور النشر في النهاية تتبع ذوق القارئ ورغبته، وهذا الذي يؤثر على حركة ترجمة الشعر ويقف دونها، وأنا شخصياً أجد المتعة بقراءة النص الشعري بلغته العربية. أما فيما يخص موضوع الجوائز فلقد ترجمت رواية “زايا” للكاتبة السعودية ريم الصقر وكان قبولي لترجمة هذا العمل لا يقف على شهرة الكاتبة أو القيمة الأدبية للرواية أو جوائز حصلت عليها، أنا فقط أحببت أن أمثّل صوت كاتبة سعودية غير معروفة في العالم التركي، حتى أنني والدار الناشرة لم نتمكن من الحصول على سيرة ذاتية للكاتبة رغم بحثنا الحثيث قبل طباعة الرواية المترجمة، وبعض القراء كان لهم فعلاً فضول لمعرفة شخصية هذه الكاتبة، لكن الأمر بقي هكذا.
عملية اختيار الروايات التي أترجمها هي عملية معقدة بعض الشيء، فبعض الروايات قمت أنا شخصياً بعرض فكرة ترجمتها على بعض الدور وبعضها الآخر الدور هي من قامت بعرضها عليّ، ونحن نختار بناء على دراسة مجموعة من الروايات بشكل تفصيلي من كل الجوانب وأقوم شخصياً بتجهيز تقارير عن هذه الروايات لمناقشتها مع الدار واختيار الأنسب والأقوى للترجمة، والجدير بالذكر أن بعض دور النشر لا شك تضع نصب أعينها بعض الروايات التي حصلت على جوائز بغض النظر عن أعمال الكاتب أو الكاتبة الأخرى التي لم تحصل على جوائز، أما أنا شخصياً فالجائزة ليست معياراً لديّ، أنا دوماً أبحث عن جمالية النص وعمقه الفكري والثقافي والروائي والسردي وأن تكون الرواية تستحق فعلاً الترجمة.
الجديد: بمناسبة المحكيات الدارجة التي ذكرتها في سؤال سابق، هناك اتجاه في الأوساط التعليميّة التركيّة يتبناه البروفيسور محمد حَقي صوتشين (رئيس قسم اللغة العربية بجامعة غازي)، يقوم على تعليم اللهجات داخل أقسام اللغة العربية. في رأيك هل هذا الاتجاه مُفيدٌ للترجمة، خاصّة وأن الأعمال الروائيّة تتجادل فيها المحكيات مع الفصيحة؟
إسماعيل دونمز: من وجهة نظري فإني أوافق وجهة نظر البروفيسور محمد حَقي صوتشين بضرورة تعلُّم طلاب الجامعات المختصة بتعليم اللغة العربية اللهجات أو على الأقل إحدى اللهجات السائدة في الإعلام أو التلفزيون أو الدراما أو الحياة العملية كاللهجة السورية واللهجة المصرية، وكما يقول الدكتور عبدالقادر القط “فالعلاقة بين الفصحى والعامية ليست علاقة خصومة ولا حرب بين لغتين مختلفتين، ولكن اللغة الفصحى تقوم بدورٍ خاص واللغة العامية تقوم بدورٍ آخر، اللغة الفصحى تُعبّر عن الفكر وعن الأدب ويؤلَّف بها الكتب العلمية وهي وسيلة للتواصل القومي بين أبناء الشعب العربي ومن يتحدثون اللغة العربية، اللغة العامية هي لغة الخطاب اليومي وهي لغة تؤدي دوراً مهماً في حياة الناس يعبّرون من خلالها عن مشاكلهم وعن أعمالهم وعن عواطفهم ولذلك أحب دائماً ألا نزدري اللغة العامية لأننا إذا ازدريناها فإننا نزدري أنفسنا لأننا نتحدث بها كل يوم”.
ففي الجامعات التركية نلاحظ أن الأساتذة العرب والأتراك الذين يُدَّرسون العربية هم عكس ما قال الدكتور، فهم يوجهون الطالب نحو الفصحى فقط وكأنه توجد حرب بين العامية والفصحى، ففي قسمنا قسم الترجمة في جامعة سلجوق وضعنا مادة اللغة العربية المحكية في أربعة فصول دراسية، فكما تعلم يوجد 23 بلدًا عربيًّا لا تستخدم الفصحى فيها كلغة تواصلية في الحياة اليومية، فمثلاً في تركيا 4 ملايين من السوريين والعرب ولا واحد منهم يستخدم الفصحى في حياته اليومية، لماذا لا نعلّم الطالب التركي اللغة المحكية وبالتالي سيحب أكثر اللغة كونه سيكون قادراً على التواصل بها بسهولة أكثر مع المجتمع العربي وفي مجالات العمل التي يطمح إليها وبالطبع فمن الضروري جداً تعلم الفصحى لكن يجب أن يكون ذلك بموازاة تعلم لهجة على الأقل كلغة تواصلية. ونحن نعرف أن اللغة المحكية متحررة من تفصيلات القواعد التي تصعّب الأمر على الدارس من الأجانب عادةً، فنجد على سبيل المثال عدم ضرورة استخدام المؤنث والمذكر في الجمع حيث يتم استخدام المذكر فقط، ونجد تركا لصيغة المثنى للذكر والأنثى واستخدام الجمع بكل الحالات كما في اللغة التركية وهكذا، والأمثلة كثيرة إذا كنا نريد أن نخوض في هذا الأمر، فإذا كان أصحاب اللغة سهّلوا لغة التواصل على أنفسهم فلماذا نصعّب الأمر على الطالب الأجنبي، ولماذا نحمّل مسؤولية الدفاع عن اللغة العربية الفصحى للأجانب والعرب أنفسهم لا يستخدمونها كلغة للتواصل.
الجديد: انتشرت – مؤخرًا – موضة عربيّة غريبة – مع الأسف – تتمثّل في ترجمة الأعمال الكلاسيكيّة من الأدب العالمي، إلى المحكيات الشعبية، أظن رواية “الغريب” كانت البداية، هل توافق على مثل هذه الترجمات، وفي رأيك ما الهدف منها؟ السؤال الأهم ما الحاجة إلى مثل هذه الترجمات ما دامت المحكيات مختلفة ومتعددة، وهو ما يتطلب ترجمات العمل إلى محكيات أخرى كالعامية الجزائرية والتونسية واللبنانية والخليجية.. إلخ؟ وما الحل من وجهة نظرك لتلافي مثل هذه الفوضى؟ هل هذا يحمل في طياته أن الفصحى غير قادرة على التوصيل أم هي مؤامرة على الفصحي مع أني لا أؤمن بنظرية المؤامرة؟
إسماعيل دونمز: حسب معرفتي تمت ترجمة رواية “الغريب” للكاتب ألبير كامى إلى العامية المصرية في الآونة الأخيرة أيضاً، ودائماً الشيء الجديد والغريب يواجه انتقادات، فيعتبر قصيدة “الكوليرا” للشاعرة العراقية نازك الملائكة التي كتبتها في عام 1947 أول شعر حر في اللغة العربية، وجاءت انتقادات أصحاب الشعر العمودي بأن هذا الشعر الحر الحديث سيضر اللغة ويقتل تراث اللغة العربية، لكن أصحاب الشعر الحر كانوا يجدون مرونة أكثر في الشعر الحر وكانوا يدرسون مشاكلهم الاجتماعية في حياتهم اليومية بغض النظر عن شكليات الشعر العمودي، واليوم كلنا يعرف مقدار محبة القراء للشعر الحر مقارنةً بالشعر العمودي، لذلك أنا لستُ ضد هذه التجارب، فالكاتب ربما يستطيع أن يبدع باللغة العامية أكثر من الفصحى أو أن يعبّر عمّا في داخله بشكل أسهل وأوضح من الفصحى وبجمل أدبية وجميلة أكثر كونه يمارس اللغة العامية بشكل أكبر في حياته، فلماذا لا نقيّم الأعمال بالقراءة، وربما تؤدي هذه التجارب إلى زيادة القراءة في العالم العربي، وربما سيظهر مبدعون جدد في هذا المجال كانوا يخافون الاقتراب من التأليف بالفصحى.
الجديد: في الأعمال التي قمت بترجمتها تعتمد أساسًا في لغتها على الإغراق في الدارجة المحليّة؟ كيف تغلبت عليها؟ وهل نقلتها إلى التركية بالفصحى؟ أم سعيت إلى تقريبها إلى اللُّغة الشعبيّة المتداولة في الحديث اليوميّ؟
إسماعيل دونمز: أعتقد أنني أجبت عن مضمون هذا السؤال سابقاً عندما شرحت كيف استعنت ببعض الشخصيات ذات الخبرة في مفردات وجمل اللهجة التي واجهتني في الأعمال التي ترجمتها وهي لم تكن كثيرة إلى حد أن تؤثر على العمل أو الرواية بشكل عام، واستطعت نقلها إلى اللغة التركية بشكل عادي. فالفرق هنا أن التركية لا تحتوي فصحى وعامية كما هو الحال في اللغة العربية ولكن طبعاً توجد بعض التعابير الشعبية المستخدمة بين الناس ولكن لا ترقى لأن نسميها لهجة خاصة بحد ذاتها.
الجديد: وعلى ذكر الترجمة إلى المحكيات، على الجانب الآخر هناك تعدديّة في الترجمة، فمثلاً في عالمنا العربيّ، هناك ترجماتٌ مُتعدِّدةٌ لرواية “الغريب” لألبير كامي، تصل إلى عشر ترجمات تقريبًا أو أكثر، وبالمثل لرواية “1984” لجورج أورويل تفوق العدد السّابق: سؤالي: أولاً: هل في اللغة التركية فعل مماثل؟ وثانيًا: ما رأيك في مصطلح “شيخوخة الترجمة؟ الذي يراه البعض حُجّةً لإعادة الترجمة؟ وثالثًا: ما رأيك فيمن يقول إن هذا الفعل ضروريّ إذ يعتبره “حافزًا بيداغوجيا لتعليم طلبة الترجمة”، فكما يقول جان روني لادميرال، إعادة الترجمة “تمرينٌ جَيّدٌ لِيُمكّن التلاميذ من التعرُّف على ذاتيّة كلّ أنواع الترجمة، وتوجِّههُم نحو الموضوعيّة أفضل سواء تعلَّقَ ذلك باللُّغة الأجنبيّة أو اللُّغة الأمّ”؟
إسماعيل دونمز: كما تعرفون أن حق التأليف يمتد سبعين عاماً سواء كان الكاتب على قيد الحياة أو بعد موته، والدور بدوافعها التجارية والربحية وكي لا تدفع مبلغاً مقابل حق التأليف فإنها تنتظر انتهاء مدة حق التأليف للكاتب لتقوم بترجمة الكتاب، وبالتالي الهدف هنا ليس جودة الأعمال المترجمة وإنما فقط الدوافع التجارية، وليس كون الترجمات السابقة للعمل سيئة وهو في حاجة إلى ترجمة جديدة، ولكن لمجرد كون هذا العمل مطلوباً في السوق ولدى القراء فتتم إعادة ترجمته لكسب المال لا أكثر من قبل الدور.
أما إذا كانت الترجمة السابقة لأيّ عمل فعلاً سيئة وغير مدروسة وتسيء للعمل أو أنها لم تنقل من لغتها الأصل وإنما نقلت من لغة الواسطة فهذا بالتأكيد سيؤثر على جودة الترجمة وجودة مضمون العمل، فحينها نجد أنه من الضروري إعادة ترجمة العمل وفق ضوابط ومعايير الترجمة السليمة وإخراجه بمستوى يليق بالعمل الأصلي وبالقارئ، وهذا الأمر نجده موجوداً حتى في العالم التركي، وأحياناً إعادة الترجمة تكون بسبب تغير لغة الترجمة المستخدمة، فاللغة التركية في عام 1930 ليست كاللغة التركية في يومنا هذا، وليس الأمر متعلقا باللغة ذاتها من أجل إعادة الترجمة فأحياناً يتغير إدراكنا للكاتب أو تعمقنا في كتابه أو فهم وجهة نظره التي يعبّر عنها. فمثلاً قام المفكر والكاتب والمترجم جميل مريج بترجمة رواية “بلزاك” مرتين في سنوات مختلفة، أنا أعرف بعض الأعمال الأدبية المترجمة من اللغة التركية إلى العربية ومن العربية إلى التركية والإنكليزية أيضاً كانت ترجمتها سيئة للغاية، فتمت إعادة ترجمة بعضها وهذا كان ضرورياً وبالتأكيد المقارنة بين هذه الترجمات مفيدة لطلبة الترجمة في مستوى الليسانس والدراسات العليا من وجهة نظر انتقادات الترجمة.
الجديد: لو طُلِبَت منك إعادة تَرجمة كتاب عربي صدر من قبل إلى اللغة التركية؟ هل توافق؟ ولماذا؟ وما العمل الذي تودُّ ترجمته من العربيّة حتى لو كان مُترجمًا؟
إسماعيل دونمز: عموماً لا أودّ أن أترجم الأعمال المترجمة سابقاً، فهناك أعمال كثيرة وكتب عربية لم تتم ترجمتها سابقاً من الأدب العربي القديم والحديث وأنا أرغب بترجمتها ونقلها إلى العالم التركي، وإن كان هناك سبب ليجعلني أعيد ترجمة كتاب مّا فهو فقط موضوع شيخوخة الترجمة أو عدم وصول فكر الكاتب بشكل عميق بسبب الترجمة، لكن لن أدخل في عملية إعادة الترجمة من أجل تحقيق الربح فقط لدور النشر، وبالتالي لا يوجد في بالي أيّ كتاب أو رواية مترجمة سابقاً وأود أن أعيد ترجمتها.
الجديد: من خلال متابعتي لصفحتك على تويتر أجد تقديرًا كبيرًا للمفكّر التركي جميل مريج (1916 – 1987)، وفي الحقيقة أن هذا الاسم غائب تمامًا عن الثقافة العربيّة؟ يا تُرى، ما السبب في غياب مثل هذه القامّة الفكريّة؟ ولماذا لم تُفكِّر في ترجمته إلى اللُّغة العربيّة وتقديمه إلى القارئ العربيّ خاصّة من خلال كتابيه “الضوء يأتي إلى الشّرق” و”ملاحظات سريعة في علم الاجتماع” والأخير يحظى باهتمام كبير داخل الأوساط التركيّة؟ وهل بالفعل إسهاماته تضعه في مرتبة المفكّر أو تقرنه بابن خلدون كما يوصف لديكم بأنه “ابن خلدون تركيا”؟
إسماعيل دونمز: أنا قمت بمراجعة الترجمة لمذكرات الدكتورة أوميت مريج ابنة المفكر التركي جميل مريج، وسيتم نشره قريباً، وكنتُ عرضت على الدار أن يقوموا بترجمة أعمال جميل مريج إلى اللغة العربية ليتعرف العالم العربي عليه وعلى أعماله. جميل مريج بغض النظر عما كان الناس يطلقون عليه تسميات فقد كان يصف نفسه بـ”الباحث عن الحقيقة” و”عاشق الحقيقة” فقد كان يضع مسافات بينه وبين الآراء السياسية والأيديولوجيات التي تضيّق الفكرة. كان جميل مريج على دراية باللغة العربية وكان يرغب في ترجمة أشعار أبي العلاء المعرّي لكن لم يجد أحداً يساعده في قراءة الشعر أمامه كونه كان أعمى العينين، ووفق وجهة نظره كان يجب أن تنشأ أجيال متمسّكة بجذورها وتعرف اللغة العثمانية والعربية والفارسية لتكون قادرة على الاطلاع على خزائن المعرفة، ومن ناحية أخرى يجب لهذه الأجيال تعلم لغة غربية للتعرف على الغرب بشكل حر.
الجديد: يقول المفكر التركي جميل مريج “الُّلغة الأجنبيّة هي مرآةٌ يرفعها الإنسان إلى عقله. إنّها مرآةٌ تُضيء البقع العمياء”. ما رأيكَ في هذا القول؟ وإلي أي مدى تحقّق هذا من خلال تجربتك مع تعلُّم اللُّغة العربيّة والترجمة من خلالها؟ هل مِن خلال معرفتك باللُّغة العربيّة وترجمتك منها استطاعتْ بالفعل أنْ تُزيل البقع العمياء في عقلك عن العالَم العربيّ؟ وما هي البُقع العمياء – في رأيك – التي كانت سائدة عن العالَم العربي ومَن المسؤول عنها؟ وهل تمّ تصحيحها؟
إسماعيل دونمز: بعض النظريات تقول إن الأعمال الأدبية هي مرآة للمجتمع تضيء على كل نواحي الحياة في هذا المجتمع، كما قال الشاعر اليوناني سيمونيدس “إن الرسم شعرٌ صامت، والشعر رسمٌ متكلم” ونرى في تشبيه المرآة في القرن الثامن عشر عند الدكتور جونسون حينما يستخدم للأدب ويمتدح شكسبير بأنه يمسك مرآة للحياة تعكس الحياة بشكلها الصحيح، وفي الفترات التالية نرى ستندال يشبه الرواية بالمرآة ويقول “إن الرواية مرآة تتجول بها طوال الطريق”، أما بليخانوف فقال “الأدب والفن مرآة الحياة” ونرى نفس التشبيه لدى الكُتّاب الأتراك أيضاً، فمثلاً رجائي زاده أكرم قال “إن الأقصوصة والرواية مرآة العبرة” وبالنسبة إليّ فعندما أترجم أيّ عمل أدبي أو رواية فإني أعتبر نفسي أمسك هذه المرآة وأعكس وأضيء لنفسي وللقراء الأتراك للعالم الحقيقي والخيالي للكُتّاب العرب.
الجديد: أعذرني، أعودُ إلى جميل مريج مرّة ثالثة ما دمتَ مفتونًا به، مريج يقول “إن الترجمة إبداع مثلها مثل قصيدة مثل مقالة أدبيّة، لكنها أقوى بكثير منهما. يمكن للأدباء الاتفاق على ما لا يقل عن عشرة شعراء عظماء وعشرة روائيين عظماء وعشرة كُتّاب مَسرحيين عظماء؟ ولكن مَن منّا يُمكنه الاتفاق على عشرة مترجمين عظماء؟”. ألا تتفق معي أنّ ثمّة مبالغة في هذا القول، أم أن قوله – حسب ما فهمت – بمثابة تأكيد جازم على صعوبة عملية الترجمة، بل يمكن اعتبارها أصعب من الإبداع نفسه؟
إسماعيل دونمز: يرى بعض الناس بأن الترجمة فن وهناك من يرى أن الترجمة عبارة عن التفسير، فالمترجم يقوم بتفسير النص، تماماً كما يتم تفسير المسرحية أو المقطع الموسيقي، ونطلق على الشخص الذي أدّى الدور في المسرحية أو الغناء للأغنية بالفنان، فلماذا لا نعتبر المترجم الذي أبدع في الترجمة فناناً، ربما جميل مريج تبنّى هذه الفكرة كونه كان أعمى وكان لديه شعور بأن مؤلفاته وترجماته لم تكن تصل إلى الناس ولم تحصل على نصيبها الذي أراده، وحتى توجد له بعض الترجمات كان قد سلمها للمعنيين بطباعتها حينها لكن لم تتم طباعتها، حتى أنه لم يحصل على أجرة ترجمتها، ونعرف هذه المعلومات من مذكرات ابنته التي تحدثت عنها في سؤال سابق، جميل مريج مواليد 1916 ميلادي وبعد قيام الجمهورية ازدادت حركة الترجمة بعد عام 1949 من خلال مكتب الترجمة فربما هو يقصد وجود نقص في عدد المترجمين في تلك الفترة.
الجديد: في ترجماتك إلى أيُّهما تَميل من نظريات الترجمة: هل ترجمة الكلمات إلى كلمات، أم تقديم المعنى من خلال كلمات؟ وأيهما في رأيك هو الصّائب؟
إسماعيل دونمز: أودّ أن أذكر هنا لمحة عن المترجمين الأتراك المشهورين مثل صباح الدين أيوب أوغلو والمترجمة مينا أورغان فأثناء عملية الترجمة المشتركة بينهما كان صباح الدين يقول “لا تتركينني لأجعل شكسبيرك الحبيب أجمل”، ومينا تردّ “لا داعي لأن يكون أجمل” فيجيبها صباح الدين “الترجمة مثل امرأة؛ إما أن تكون غير وفيّة وجميلة أو تكون وفيّة وقبيحة”، وتقول مينا “هذه المرأة ستكون وفيّة وجميلة”، وبالتالي أنا أنظر إلى الترجمة الأدبية كفن جميل والمترجم يبدع فيه لذلك أحاول أن أنقل المعاني بدلاً من الكلمات للحفاظ على جمالية النص في اللغة المستهدفة كما قال فولتير “الأمور ليست بألفاظها بل بمقاصدها”.
الجديد: وبمناسبة المعنى، لقد لاحظتُ أنّ مُعظم عَناوين الأعمال التي قُمت بترجمتها التزمتَ فيها بالعنوان الأصليّ (العربي) للعمل، لكن في ترجمتكَ لرواية هدى بركات “حارث المياه” وهي رواية تدور عن الحرب الأهلية اللبنانيّة، وما سببته من آلام نفسيّة وبدنيّة كثيرة وصلتْ إلى شرخ الذات، غيّرتَ العنوان إلى “المنفَى المتوسطيّ” هكذا (AKDENİZ SÜRGÜNÜ) مَن أين استقيتَ فكرة المنفى؟ ولماذا وصفته بأنّه متوسطي؟
إسماعيل دونمز: عموماً دور النشر يحتفظون بحق التصرف بالترجمة أثناء التدقيق والمراجعة والعنوان يعتبر جزءًا من هذا الأمر، فأنا أترجم العناوين ترجمة حرفية بالبداية ثم أتناقش مع دار النشر إن كانت هناك حاجة إلى التعديل أو لا وفق مفهوم المجتمع التركي، وفي عنوان ترجمة “حارث المياه” كانت فكرة الدار أن يتم تغيير عنوان الرواية إلى عنوان أكثر مناسبة للرواية وفق وجهة نظرهم، وعنوان “المنفى المتوسطي” (AKDENİZ SÜRGÜNÜ) كان أساساً من ضمن العناوين التي كنتُ قد اقترحتها على الدار، وبعد موافقة الدار على هذا العنوان تواصلت الدار مع الكاتبة وتم أخذ موافقتها عليه أيضاً، واستوحيت فكرة العنوان من كون هذه القصة متوسطية جغرافياً أي في بلد متوسطي، وكون بطل القصة “نيقولا” وجد نفسه منفياً في مدينته المتوسطية ولا يستطيع الخروج من منفاه رغم كل محاولاته التي باءت بالفشل، وكأن بيروت أيضاً عبر التاريخ تشعرنا أنها بمنفى متوسطي فكتب عليها قدر محتوم بالدمار عبر التاريخ بعد كل ازدهار لا تستطيع الخروج منه.
الجديد: سأتوقف قليلاً مع ترجمتك لهدى بركات، ما العقباتُ التي واجهتُكَ في نصّ مثل هذا النص الثري الذي يتميز بتعدُّدٍ لُغوي لافِت (العربيّة والكرديّة، إضافة إلى اللهجة المحليّة الدارجة)، وأسلوب يعتمد على التهكُّم والسُّخرية في الكثير من جوانبه، إضافة إلى المزج بين خطوط كثيرة درامية وفلسفيّة عبر التأمّلات بين ما كان وما هو كائن، ونفسيّة (سيكولوجيّة) عبر شخصية “نيقولا” البطل الذي يرثي نفسه وهو فعل مُتكرّر في الشعر العربي (منها مالك ابن الريب في قصيدة المشهورة، وقبله امرؤ القيس أيضًا.. إلخ من قائمة شعراء رثاء النفس)؟ كيف حافظتَ على توازن هذه الخيوط التي مثلت إيقاع الرواية، ثم نقلت هذه الأحاسيس المتضاربة إلى اللغة التركيّة؟ احك لي عن تجربتك مع ترجمة هذا النص!
إسماعيل دونمز: في البداية ربما هذه الصعوبات التي ذكرتها في سؤالك هي التي شدتني إلى ترجمة هذه الرواية وكأنه تحدٍ لي كمترجم أن أخوض في رواية واحدة غمار هذه التناقضات والتناسبات في آن واحد، الرواية كانت مليئة بالميثولوجيا والأساطير والتاريخ، لم تكن الرواية حاوية على الكثير من المصطلحات المحلية، أما الكردية فكانت غنية بالمصطلحات وكما ذكرت سابقاً فقد استعنت بأكاديمي متخصص باللغة الكردية وتشاورت أيضاً مع الكاتبة بخصوص هذه المصطلحات، لذلك الصعوبة لم تكن ضمن هذه النقطة، وإنما يمكن القول إنها كانت تكمن في هلوسة السرد والانتقال السريع عبر التاريخ وعبر الأساطير والحقائق العلمية، فيشعر المترجم كالقارئ تماماً بأنه على بساط الريح يحمله بين سطر وآخر إلى عوالم أخرى وعندما يستقر به الحال تأتيه هلوسة شخصية “نيقولا” فيعود إلى التخبط، وكنتُ في كل رحلة على بساط الريح هذا أجد نفسي مضطراً للبحث والتمحص في المعلومات التي تذكرها الكاتبة وكنتُ أتفاجأ دائماً بأنها كانت معلومات دقيقة وصحيحة وعلمية باستثناء الأساطير وروايات الشعوب والتي تدل أيضاً على الثقافة العالية للكاتبة وجهدها في تأليف هذه الرواية، وكان هذا الأمر وكلما زاد صعوبة يزيدني إصراراً ومتعة على إتمام عملية ترجمة هذا النص المعقد ذي الطبقات المختلفة، وكنتُ حريصًا أثناء الترجمة على اختيار المصطلحات والجمل التي تناسب النص وأسلوب الكاتب تماماً وإخراجه بشكل يليق بمستواه العربي، كانت تجربة غنية ومليئة بالتشويق والثقافة، تجربة فريدة لن أنساها.
الجديد: شخصية “نيقولا” في رواية “حارث المياه” والذي يمكن وصفه الحي – الميت؛ فَقَدَ عقله وفقد إنسانيته، وأخذ يعدو مع الكلاب الشاردة ويقلّدها في أصواتها وحركاتها، حتى غدا كالحيوان. قضى عليه مصير وطنه، وأرهقته الذكريات الخالية “وبات شبه ميت… وشبه إنسان”، ألم تلحظ معي أنها صارت ثيمة في الكثير من المرويات التي دارت أحداثها في الحروب، وكأن الدفاع عن الوطن جريمة جثة أن الوطن قضى عليهما، فصار الجسد عبئًا؟ هل لاحظت هذا؟
إسماعيل دونمز: أقر مبدئيًّا بالتشابه بين هذه الرواية وروايات الحرب في عنصر أن الوطن هو الذي قضى على محبيه، فيمكن القول إن “نيقولا” في رواية “حارث المياه” كان فعلاً ضحية الحرب وقضى عليه وطنه بشكل مباشر. فنقولا نجده في الرواية قد خسر كلّ شيء، بداية من خسارته لوالدته وبيته وحبيبته ومن ثم حصاره في قلب بيروت وخسارته لدكانه، ومن ثم خسارته لإنسانيته رويداً رويداً رغم محاولاته الحثيثة للخروج مما كان فيه لكن القدر كان أقوى منه في النهاية.
الجديد: في حوار لكَ عن ترجمتك لرواية هدى بركات، ذكرت أن أحد مشروعاتك هو ترجمة ثلاثية أحلام مستغانمي، وقد ذكرت السبب أنه يرجع إلى “لغة مستغانمي الشّعريّة”، أليس من باب أولى أن تقوم بترجمة الشعر مباشرة؟ وهل هناك خطط معينة لترجمة الشعر أم ليس لديك نية من الأساس في ذلك، وإن كان نعم، فلماذا؟
إسماعيل دونمز: في الحقيقة اختياري لترجمة ثلاثية الكاتبة أحلام مستغانمي بناءً على حبي للغتها الشعرية لا يؤدي بشكل أو بآخر إلى توجهي لترجمة الشعر، فلا رغبة لديّ في الخوض في غمار هذا الأمر، ولستُ ضد فكرة ترجمة الشعر خاصة الشعر الحرّ، ولكنّي أحب قراءة الشعر بلغته العربية وأستمتع به هكذا.
الجديد: أعود من جديد إلى بداياتك في الترجمة، وأسألك هل الهدف من وراء ترجماتك للوثائق العثمانيّة هو إيمانك بأنَّ الترجمة هي “إعادةُ إحياءٍ للنص – من جديدٍ – في لغته الأُمّ”، فكما تَعْلم أن كثيرًا من النُّصوص أُهملت في لغتِها الأمّ، حتى عادَ اكتشافها في لغتها الأصليّة، مع ترجمتها، فكما يقول غوته “الكيان الذي لا يشهدُ أيَّ تحوّلٍ يَصيرُ إلى زَوالٍ”. في ضوء كلام غوته هل تتفق معي بأن اللغة العثمانية صارت إلى زوال، ومن ثم تسعى لإحيائها بترجمة نصوصها إلى العربية؟ أم أن لديك أهدافًا أخرى؟
إسماعيل دونمز: مما لا شك فيه أن عملية الترجمة للوثائق العثمانية هي شيء مهم جداً وأنا شخصياً أعتبره واجباً لأنه عملية نقل للتاريخ، وعملية إخراج هذه الوثائق من خلال ترجمتها إلى لغات مقروءة في زماننا، فنخرج هذه الوثائق من العتمة إلى النور وهي تمسك مرآةً للماضي الذي يخفى على الكثيرين، ولا أرى أن اللغة العثمانية إلى زوال لأنها في النهاية محفوظة من خلال الوثائق العثمانية والتي كما قلنا تمثل تاريخ الدولة العثمانية، وطالما أنها ارتبطت بالتاريخ فلا يمكن النظر إليها كلغة آيلة إلى الزوال، وعملية ترجمتها إلى النصوص العربية تفتح مجالا أوسع لها للوصول إلى شرائح أكبر من الناس على مختلف مساحة البلاد العربية وهو شيء بالتأكيد إيجابي ومطلوب.
الجديد: خلال مشاركتك في مؤتمر الدوحة “الترجمة وإشكاليات المثاقفة” دارتْ إحدى جلسات المؤتمر عن “الترجمة وعلاقتها الإشكالية بالرقابة والسُّلطة” في رأيك ما هي الإشكاليات؟ وكيف تكون الرقابة عائقًا في الترجمة؟ وما هي حدود الرقابة؟
إسماعيل دونمز: إشكاليات الرقابة تتعلّق عادة بدور النشر التي تمتلك الحقوق على العمل الأدبي، وكذلك توجد الرقابة المتعلّقة بالدولة والتي تختلف معاييرها من دولة إلى أخرى، فأحياناً يتمّ رفض العمل الأدبي بشكل كامل من قبل دار النشر قبل عملية الترجمة وهذا حصل معي شخصياً وكنتُ قد جهزت كعادتي تقريراً عن عمل أدبي عربي لكن دار النشر رفضت ترجمته وفقاً لمعايير رقابية لديها، لكن لم نكن قد وصلنا به إلى عملية الترجمة، وعادة لا يكون هناك احتكاك مباشر بين الترجمة وعملية الرقابة لأن عملية الرقابة على النص وحذف ما هو مرفوض رقابياً يتم بعد ترجمته ويتم من قبل دور النشر التي تعد مسؤولة عن إخراج النص النهائي قلباً وقالباً بما يناسب النشر ويناسب الرقابة، أما المترجم فواجبه ألا يغير النص لذلك يفضّل قبل قبول الترجمة أن يقوم المترجم بقراءة النص وإن كان هناك ما لا يناسبه فكرياً أو أخلاقياً ألاّ يبدأ به أساساً.
الجديد: بمناسبة ترجمة الأعمال الدرامية التركية إلى العربية، هل ترى أن الرقابة تتدخل في المعروض؟ وما رأيك في الصُّورة التي عكستها هذه الأعمال الدراميّة للواقع التركي؟ هل هي إيجابية أم سلبيّة؟ وأيهما يقدِّم الصُّورة الصّحيحة الأعمال الروائيّة أم الدراميّة؟
إسماعيل دونمز: هذا الأمر ممكن يتبيّن بشكل واضح بعد إجراء دراسة على المسلسلات في صورتها الأصليّة وبعد الترجمة أو الدبلجة، لكن وفق الدراسة التي أجريتها في مؤتمر “الترجمة وإشكاليات المثاقفة” فبالتأكيد أن الرقابة تتدخل في المعروض وفق مقاييس الرقابة في كل دولة، فبعض الدول لديها رقابة أخلاقيّة شديدة أكثر من دول أخرى، وبعضها رقابتها سياسية أكثر، وبعضها رقابتها اجتماعية أكثر، فالموضوع نسبي، وبالنسبة إلى الأعمال التركية بشكل خاص وكونها تعرض في القنوات الفضائية العربية بشكل عام بعد ترجمتها ودبلجتها، فهي إذا تتعرض إلى رقابة تناسب المجتمع العربي بشكل عام وفق معايير وضوابط تضعها الجهة المنتجة للنسخة المترجمة بما يوافق إمكانية تسويق هذا العمل في كل الوطن العربي، والأعمال الدرامية التركية لا تمثل الواقع التركي بحقيقته في الكثير من الأحيان، لا يمكن الجزم بإيجابية الأمر أو سلبيته فالأعمال الدرامية دوماً تقوم وفق هدف جذب المشاهد وإمتاع الناس فالأمر ليس متعلقا فقط بنقل الواقع أو الحقيقة دوماً. بعض الأعمال الدرامية أساساً هي مأخوذة من روايات وخاصة في الفترة الأخيرة وحقيقة لا يمكن تقديم أحد على الآخر في تقديم الصورة الصحيحة للواقع لأن الاثنين يحتويان على حقيقة وخيال.
الجديد: أشاد الرئيس التركي خلال مراسم توزيع جوائز الرئاسة في مجال الثقافة والفن، في المجمع الرئاسي في أنقرة بالدور الذي تلعبه الدراما في الترويج للسياسة التركيّة، في العالم، وهناك اعترافات بتمويل كبير للدولة لهذه الأعمال؟ ألا ترى أن هناك قصورًا في دعم الجناح الثاني “للقوى الناعمة” وهو الثقافة بترجمة أعمال المفكرين الأتراك، ألاحظ أن الترجمة هنا نشاط فردي على عكس الفن الذي هو نشاط مؤسساتي في المقام الأول؟ كيف خسرت الثقافة على حساب الدراما مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة صورة سلبية نقلتها هذه الدراما؟
إسماعيل دونمز: الرئيس التركي قال إن تركيا هي الدولة الثانية بعد أميركا في تصدير الأعمال الدرامية إلى 150 دولة وهي تروّج بالتأكيد للثقافة التركية والمجتمع التركي لدى الشعوب الأخرى، وحسب بيانه ستكون اللغة الإسبانية هي إحدى اللغات الجديدة التي سيتم ترجمة الأعمال الدرامية إليها بناءً على وجود طلب عليها، أما بالنسبة إلى الأعمال الأدبية والثقافية فوزارة الثقافة تدعم الدور التي تنشر الأعمال التركية وترجمتها، كما تلعب وزارة الشباب والرياضة دوراً مماثلاً في هذا المجال وكنا ذكرنا ذلك بالتفصيل في سؤال سابق. ولا يمكن القول إن الدراما تنقل صورة سلبية ربما هي لا تنقل الواقع مئة في المئة لكن أيضاَ لا تمثل صورة سلبية بالمطلق للمجتمع، وطبعاً بالنسبة إلى ترجمة الأعمال الأدبية فهناك دعم من بعض المؤسسات لكن بالتأكيد يجب أن يزيد هذا الدعم أكثر.
الجديد: بماذا تفسر أن أورهان باموق وأليف شفق من أكثر الأسماء التركيّة متابعة، بل ملاحقة في الترجمة؟ أين القصور هنا، هل في حركة الترجمة؟ أم ثمة عوامل أخرى؟
إسماعيل دونمز: تماماً كما لعب نجيب محفوظ دوراً في التعرف على الأدب العربي في دول العالم الأخرى بعد حصوله على جائزة نوبل، كذلك الأمر بالنسبة إلى أورهان باموق فبعد حصوله على جائزة نوبل لفت انتباه العالم إلى الأدب التركي المعاصر، فترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات ومن بينها اللغة العربية، وبالتالي انتشر في العالم العربي وأصبحت أعماله مطلوبة هناك، وهذا أمر طبيعي ومنطقي كما هو الواقع مع عبدالرزاق جرنة الذي أيضاً حصل على جائزة نوبل عام 2021 وتم شراء حقوق النشر لأعماله كاملة من قبل دار نشر عربية، أما أليف شفق فهي كاتبة ولدت خارج تركيا وتقيم خارج تركيا وبعض أعمالها كتبتها باللغة التركية والبعض الآخر كتبته باللغة الإنكليزية، وهي كاتبة ذات عدة هويات وتنظر إلى تركيا من الخارج وكونها تؤلف رواياتها باللغة الإنكليزية فهناك ناقدون بأنها لا تمثل الأدب التركي حتى وإن كانت هي تركية الأصل، ولكونها تعيش في الخارج وتكتب باللغة الإنكليزية هذا الأمر أعطاها فرصة أكبر لانتشار أعمالها وترجمتها في دول أخرى وبالتأكيد هي حصلت على جوائز للبعض من رواياتها واسمها بات مطلوباً في العالم العربي.
الجديد: من ناحية أخرى: هل يمكن للمعارك التي يخوضها باموق وأليف دفاعًا عن القوميّة والهويّة التركيّة، أو الانتصار لقضايا المرأة كما في حالة شفق ودعم النسويّة بصفة عامّة، أن تكون سببًا في هذه الشهرة عند العرب؟ أم فعلا هما يستحقان هذه الشهرة؟
إسماعيل دونمز: أسلوب أورهان باموق في الكتابة ودراسته للمجتمع التركي القديم والحديث محبوب لدى الأتراك والأجانب، أليف شفق أيضاً لديها أسلوبها في الكتابة والتعبير والدفاع عن القضايا التي تؤمن بها لكن ليس بنفس قوة أورهان باموق، فلديها أعمال ناجحة وأعمل غير ناجحة، أما بخصوص دفاعها عن قضايا المرأة في رواياتها قد تلعب دوراً لدى القراء بشكل أو بآخر.
الجديد: أنا بصفتي متابعًا لكتابات كليهما أستطيع أن أقول لك، إن القارئ العربي من الممكن أن يتعرف على تركيا الحديثة والقديمة وتطورات الحياة الاجتماعيّة في تركيا العثمانية والحديثة من خلال قراءة أعمالهما (على نحو مواز لمن يقرأ نجيب محفوظ أو عبدالرحمن منيف) سواء اتفقنا فيما يطرحانه من موضوعات إشكاليّة داخل النص متعلّقة بالأرمن أو غيرها من الموضوعات؟ هل تعطني مثالاً على كاتب استطاع أن يقدِّم مقتطعات من الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في تركيا غيرهما؟
إسماعيل دونمز: ممكن أن نذكر بعض أسماء الكتاب الذين درسوا أحداث سياسية في رواياتهم مثل أورهان كمال وكمال طاهر ويشار كمال وفقير بايبورد و وداد تورك علي ومليح جودت أنداي وأتيلا إلهان.
الجديد: ما الأسماء التي ترشحها للمترجم العربي لترجمة أعمالها عن التركية؟
إسماعيل دونمز: هناك أعمال فكرية وأدبية تستحق الترجمة، وهناك حاجة إلى ترجمة كتب تاريخية عن التاريخ العثماني القديم والتاريخ الحديث نظراً لتشوه الصورة الحاصلة في نقل التاريخ العثماني خصوصاً إلى العالم العربي والذي هو بالنهاية يعتبر جزءا من تاريخه هو، ومن الأمثلة التي من الممكن أن أرشحها للمترجم العربي مؤلفات جميل مريج وفريد إيدغو وفاروق دومان وأيفر تونج وسليم إيليري وإحسان أوكتاي أنر وغيرهم.
الجديد: في رأيك ما مدى استقبال الأدب العربي لدى المثقف التركي؟ وما هو الذي يلفت انتباه المثقف التركي تحديدًا؟ وهل أنت راضٍ عن بعض الترجمات لأعمال عربية ليست بالمستوى؟
إسماعيل دونمز: لا يمكن أن نقول إن المثقف التركي يعرف الأدب العربي بشكل جيد، لكن من الممكن في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام بسبب زيادة الترجمات من الأدب العربي إلى اللغة التركية ونشوء فضول لدى القراء للأدب العربي. كانت تترجم الأعمال الأدبية العربية من اللغة الإنكليزية عموماً إلى اللغة التركية وهذه كانت إحدى المشاكل الموجودة، لكن في الفترة الأخيرة ازدادت الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة التركية بشكل مباشر دون لغة وسيطة، ومن الممكن أن نقول إن الدور تختار عموماً الأعمال التي حصلت على جوائز أو بجهود الكاتب نفسه الذي يحاول أن يكون معروفاً لدى القراء الأتراك من خلال طلبه لترجمة أعماله. بالنسبة إلى موضوع وجود ترجمة لبعض الأعمال العربية التي ليست بالمستوى فدور النشر تقوم باختيار الأعمال التي حصلت على الجوائز وإذا لم تكن هذه الأعمال بالأصل مترجمة إلى الإنكليزية فلن تكون قادرة على معرفة مضمونها لذلك نجدها تقوم بترجمتها دون دراسة مسبقة فقط لأنها حصلت على الجائزة وهذا الأمر يؤدي إلى بقاء الأعمال التي تستحق فعلاً الترجمة في زاوية مظلمة.
الجديد: ما الهدف من وراء ترجمتك أكثر من عمل لمؤلف واحد: لاحظ أمير تاج السر عملان، هدى بركات عملان، وأحلام مستغانمي لديك مشروع لترجمة ثلاثيتها؟ ألا ترى أن تقديم أكبر عدد من الأسماء يكون بمثابة إثراء للثقافة التركية بدلا من التركز على أعمال كاتب وحده؟
إسماعيل دونمز: عادة دور النشر تحاول شراء حقوق النشر للكاتب أو الترجمة ليس لعمل واحد بالتأكيد لذلك نجد اهتماماَ من الدور بترجمة عدة مؤلفات لكاتب واحد وخاصة إذا حققت مؤلفاته نجاحاً في الساحة الأدبية سواء في المجتمع أو بالتركية بعد الترجمة، وأحياناً فإن الكُتّاب أنفسهم يفضلون التعامل مع مترجم واحد وخاصة عندما يرون أن ترجمته جيدة لأعمالهم.
الجديد: في اتصال هاتفي سابق جرى بيننا تحدثنا عن الأعمال الفائزة بالجوائز (العالمية والعربية)، وأعتقد أننا وصلنا إلى قناعة مشتركة بأنها ليست الأجود على الإطلاق، في رأيك كيف تُفسِّر مثلا ترجمة عبدالرزاق قرنج الفائز بنوبل 2021، في تركيا، في حين أنه كان مجهولاً عند العرب الذين ينتمي إليهم؟ أين المشكلة في رأيك؟ أو بمعنى أدق لماذا وصل إليكم مبكرًا في حين تأخر وصوله إلينا إلا بعد الإعلان عن فوزه بنوبل؟
إسماعيل دونمز: عندما تم الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل كانت قد تُرجمت له سابقاً خمس روايات إلى اللغة التركية، كما أنه كان يعيش في بريطانيا وألف مؤلفاته باللغة الإنكليزية وكونه قد تمت ترجمة خمس روايات له قبل حصوله على الجائزة فهذا يعتبر اهتماما ونجاحا للدور التركية التي اهتمت بأعماله. فعدم انتشاره في العالم العربي قد يكون السبب كونه يعيش في بريطانيا منذ زمن طويل ومؤلفاته كلها كانت باللغة الإنكليزية وكان لا بد لدار نشر عربية أو مترجم عربي أن يطّلع ويسعى لترجمة أعماله وهذا ما كانت الدور التركية سباقة فيه. على الرغم من كون طبيعة قصصه تتحدث عن الإسلاموفوبيا وتطبيق قصة زليخة ويوسف على شمال أفريقيا فهي تناسب في الحقيقة القراءة في العالم العربي.
الجديد: ذكرت لي أن التقارير التي أعدتها إحدى دور النشر بخصوص ترجمة عمليْن عرببيْن (ليس مهمًا ذكر الأسماء، فما يهمنا هو المعايير ليس إلا) وكانا قد توجا بجوائز ذات قيمة عالمية، كانت سلبية تمامًا؟ إذن ما هي معايير الفوز في ظنك؟
إسماعيل دونمز: أصلاً الدور تفضل عموماً ترجمة الروايات التي حصلت على جوائز لكن أحياناً بعد ترجمة العمل ونشره في الساحة فإن القراء والناقدين يرون أنه عمل لا يستحق الترجمة، فالدور يجب أن تهتم باختيار الأعمال بشكل دقيق أكثر وليس فقط بالنظر إلى الجوائز التي حصلت عليها الرواية.
الجديد: ما الشيء الذي اكتسبته كمترجم من تنوّع الجغرافيات الذي يبتعه تنوُّع في الثقافات في الأعمال التي قمت بترجمتها؟
إسماعيل دونمز: بالتأكيد اكتسبت خبرة كبيرة من تنوع الأعمال التي ترجمتها وخاصة أنها تنتمي إلى العديد من الكتاب والعديد من الثقافات الأمر الذي فتح لي أبواب التعرف على الثقافة العربية والعالم العربي من عدة أوجه باختلاف الثقافات وتشابهها، وأتمنى أن أستمر بترجمة أعمال لكتاب عرب من ثقافات عربية أخرى لم أترجم لها بعد، الترجمة كانت كالمرآة التي عكست لي الواقع العربي بمختلف ألوانه.
الجديد: في النهاية ما العمل الذي تعكف عليه الآن؟
إسماعيل دونمز: حالياً أنا بصدد ترجمة رواية “زمن الخيول البيضاء” للكاتب إبراهيم نصرالله، وأيضاً ترجمة “مذكراتي في سجن النساء” لنوال السعداوي، وهناك ثلاثة كتب قمتُ بمراجعة ترجمتها من التركية إلى العربية وستنشر قريباً، كما أقوم بدراسة ثلاث روايات وتجهيز تقرير حول إمكانية ترجمتها من العربية إلى التركية لدور النشر والتي قد تكون مشروعاً قادماً بإذن الله.