معاداة المرأة
فتركت ما في يدي من أعمال، وقلتُ له: لو قرأتَ مؤلفات العرب في الأدب، والنحو، والبلاغة، وعلوم الشريعة؛ لعرفتَ لماذا تجاهلت اللغة العربية المرأة! فلا هي عالمة من علمائها الذين يُقَعِّدون لها قواعدها، ولا هي من بلغائها الذين يبحثون عن جمالياتها وفنياتها! ولا هي من فقهاء الإسلام، ولا من رواة السُّنن، ولا من مُفسِّري كتاب الله الكريم!
فعاد ثانيةً يسألني: وهل صحيح ما يراه الرجال؛ من أن المرأة كانت على هامش التراث بسبب ضعفها، وقلة إنتاجها، وميلها إلى حياة النعيم والجمال بدلاً من حياة الدرس والتحصيل؟!
فأجبته على عجل: العلوم، والمؤلفات -يا هذا- كتبها الرجال، وقليلٌ منهم مَن ترجم للنساء العالِمات! والأكثرية منهم مَن تجاهلوا المرأة شاعرةً، وأديبة، ولغويةً، وفقيهةً، ومُسندة، ومؤرخة، وطبيبة، وغير ذلك من المجالات!
وبرغم ذلك التجاهل التام من التراث العربي للمرأة؛ فقد سجَّل التاريخ بعض إسهامها في الفنون، والعلوم؛ فمن النساء العالِمات: بيبي بنت عبدالصمد، أم الفضل الهرثمية الهروية، التي ترجم لها الإمام الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء. وعائشة بنت عبدالله بن الحافظ أحمد المحب الطبري، التي ترجم لها ابن حجر العسقلاني في “الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة” (2/ 144) فقال: روت عن جدِّها الإمام المحب الطبري، وعمِّها، وولده جمال الدين بالإجازة، وأجاز لها غيرهما، وماتت بعد الستين وسبع مئة، حدّث عنها أبو حامد بن ظهيرة بالإجازة”. وهناك نضار بنت محمد بن يوسف، أُمّ العز بنت الشيخ أبي حيّان الأندلسي صاحب تفسير “البحر المحيط”، وهي التي ترجم لها أيضاً ابن حجر في ” الدرر الكامنة ” (4/ 395) فقال: ولِدَت في جمادى الآخرة سنة 702 هـ، وأجاز لها أبو جعفر ابن الزبير، وأُحضِرتْ على الدمياطي، وسمعت من شيوخ مصر، وحفظت مقدمة في النحو”. وكانت تكتب وتقرأ، وخرّجت لنفسها “جزءاً”، ونظمت شعراً، وكانت تعرب جيّداً، وكان أبوها يقول: ليت أخاها حيّان مثلها! ثم ماتت في جمادى الآخرة سنة 730 هـ، فحزن والدها عليها وجمع في ذلك جزءاً سمّاه “النضار في المسلاة عن نضار” فإلى جانب هذه الأسماء، ظهرت تراجم أخرى مختصرة لنساء في بعض مؤلفات الرجال! وهي لا تدل على إسهام المرأة في حقول اللغة، والأدب، والشريعة، والفلسفة، والتاريخ، والعمارة! ولكن التراث كان يحتقر المرأة، ويمتهنها؛ فلا يراها إلا جسداً لا روح فيه، ولا عقل!
دولة الرجل.. والإنسان الثاني!
فالتراث عندنا دولة شادها الرجال فقط! فلم يسمحوا للنساء بدخولها إلا على مضض، وكجوارٍ، وإماء! فلا اعتراف فيها لهنَّ بشِعر، ولا بفقه، ولا بلغة، ولا بفن من الفنون!
فهي دولة.. المرأة فيها مذلولةٌ، مقهورةٌ، ملعونة، مُعلَّقة..! وهي كائنٌ من الدرجة الثانية، وهي الإنسان الثاني كما أطلق عليها الأستاذ عباس العقاد في كتابه الذي حمل هذا العنوان؛ فلا هي تملك التفكير لنفسها، ولا اختيار زوجها، ولا إدارة أموالها، ولا تسلُّم ميراثها، ولا الحديث عن هواجس نفسها، ولا طلب العلم مثل الرجل! فهي تابعةٌ، بلا إرادةٍ، ولا عزيمةٍ؛ لأنها مكسورة الجناح، مهيضةٌ أبداً.. لا تملك شيئاً!
ويتهكم الأستاذ العقاد من الموضات الجديدة التي تدافع عن المرأة، وهي أبعد شيء عن المرأة؛ لأنها عدو المرأة؛ فيقول: “فإنّا لفي عصرٍ خليقٍ؛ بأنْ ندعوه عصرَ المرأة؛ فإنَّك لا ترى إلاَّ أثراً من آثارها حيث ذهبت، وقليلاً ما تجد عقلاً لا يشتغل بأمرها، أو قلباً لا يشتغل بها!.. ألعلّه بلغ من صلاح النفوس البشرية، ورفقها بالضعفاء في عهدنا هذا، ما نرى بعض علائمه في معاملة النساء المستضعفات، والتلطف مع هذا الجنس اللطيف؟! لو كان ذلك لقلنا قد تحقق الحكم الذي رآه الفلاسفة في دياجي القرون الأولى! ولكننا ننظر إلى سابق العهود، ونستعرضها واحداً واحداً؛ فلا يعرض لنا عهدٌ كان أقسى على الضعفاء وألين للأقوياء من هذا العهد الذي نحن فيه! والنساء أول من تُصيبهنَّ جريمة الضعف؛ إذا هنَّ لم يعرفنَ موضعَ القوة منهنَّ؛ بعرفانهنَّ موضعَ الضعف من نفوس الرجال”!
الرجل هو المبتدأ والفاعل!
فهذه هي الدولة العنصرية، الانتهازية.. فالرجل فيها هو كل شيء! والمرأة فيها لا شيء!
دولةٌ.. الرجلُ فيها هو العامل، والمبتدأٌ، والفاعل، واسم الفاعل، والمصدر الصريح والمؤول بالصريح، وهو المُعَرَّف بأل، وبالإضافة، وهو العَلَم، وهو المذكور الظاهر، وهو المشتق، وهو النعت، وهو النعت السببي، وهو الحال، وهو الأفعال الخمسة، وهو النواسخ، وهو التنازع، وهو الاشتغال، وهو الصفات المُشَبَّهة، وهو أسلوب المدح، وهو أسلوب التعجُّب، وهو المُنادَى، وهو الإعراب الظاهر، وهو ضمائر الرفع المتصلة، وهو القاعدة النحوية، والشرعية، وهو السماع، والقياس، والإجماع، وهو النص، والتراث، وهو الشِّعر العمودي، وهو البدل، وعطف البدل، وهو الحُكم، والعِلَّة، والسبب، والصرف، وهو جموع الكثرة، وجمع التكسير، وهو المصالح المرسلة، وهو الاستحسان، وهو الاستصحاب، وهو الفقه الأكبر، وهو فقه الأولويات، وهو مقاصد الشريعة، وهو الأصول، وهو السُنَّة الصحيحة، وهو الجرح والتعديل، والثقة، وهو التاريخ، واللغة، والسند، والمتن، وهو الفِرقة الناجية، وهو الخير، وهو الرسالات، وهو الالتزام، وهو الشرف، وهو العُرف، وهو العادات والتقاليد، وهو الجوهر، وهو الدين، وهو الوجود!
المرأة.. هي المجرور والمنسوخ!
أما المرأة في دولة الرجل المزعومة؛ فهي: الخبر، والمفعول، واسم المفعول، والمجرور، والممنوع من الصرف، وهي النكرة، وهي الضمير المُستَتِر، وهي المحذوف، وهي الإعراب المُقَدَّر، وهي الاسم الجامد، وهي المنسوخ، والتابع، وهي الإضافة المحضة، وغير المحضة، وهي شبه الجملة، وهي الحَرف، وهي الظرف، وهي الاستثناء، وهي أسلوب الذم، وأسلوب الإغراء، وهي النكرة المقصودة، وغير المقصودة، وهي المخفوض، والمنصوب، والساكن، وهي جموع القلَّة، وهي النادر، والمُوَلَّد، والشاذ، والبِدعة، وهي الحرام، والمُنْكَر، وهي الرِّجس، وهي الأحاديث المصنوعة، والموضوعة، وهي الرواية الضعيفة، وهي الزحاف، وهي الشِّعر الحر، وهي قصيدة النثر، وهي اللغة العامية الدارجة، وهي الحداثة، وهي الفتنة الكبرى، وهي المجاهيل، وهي المتروك، والضعيف، وهي المسكوت عنه، وهي المرض، وهي العَرَض، وهي الحريم، وهي المتاع، والمتعة، وهي المُعَلَّقة، وهي الناشز، وهي الفروع، وهي الخرافة، والأسطورة، والزندقة، والشعوبية، وهي الإباحية، وهي الشرور، وهي الشيطان الرجيم، وهي الغواية، والخطيئة!
جدّاتنا في نظر أجدادنا!
وتحت هذا العنوان اللافت، يقول العقاد “مازالت المرأة رقيقاً مُستَضعفاً منذ كانت، لا إرادة لها في اختيار رَجُلها”!.. قال ماني حكيم الهند “ينبغي أن يُوضَع النساءُ في الليل والنهار تحت كنف أوليائهنَّ، طائعاتٍ كلَّ الطاعة لهم، مُعَوِّلاتٍ كلَّ التعويل عليهم”! فأهل الهند أذَلُّوا المرأة، وامتهنوها؛ فجعلوها أقلَّ من الدواب! وكذلك جعل الرجل العربي المرأة؛ فلا اعتراف لها، ولو كانت أعلم من سيبويه! ولا أهلية لها ولو كانت أشعر من المتنبي!
ملكات مصر!
وكذلك كان حالها في الصين، ومن قبل في مصر القديمة؛ باستثناء بعض الفترات التي حكمت فيها المرأة مصر، من قبيل الملكات الحكيمات: حتشبسوت، ونفرتيتي، وأوزوريس، ونفرتاري، وكليوباترا، وشجرة الدر، وغيرهنَّ من الكاملات عقلاً وعملاً!
وكان الرومان يجيزون للرجل التصرف في حياة امرأته، كما يتصرَّف في دوابِّه وعقاره! ومن عجبٍ؛ أننا ندَّعي أننا نحترم المرأة؛ فهل تهذَّبتْ الطَّباعُ، وتغيَّرتْ السجايا؟!
بالقطع، كلا! فمازلنا نُلْصِقُ بالمرأة كل الرزايا، والنقائص، والعيوب! ولا نكتفي بذلك، ولكننا نحرمها من وظيفتها في الحياة، تلك الوظيفة التي خُلِقَتْ من أجلها؛ وهي إسعاد البشرية وإعمارها؛ بتحقيق نظرية الحب، والمودة، والمشاركة عن طريق السماح لها بالتعبير عن تفوقها، ونبوغها، وعبقريتها، في العلوم، والفنون، وأمور السياسة، والحكم! وليس الوقوف في وجهها بحجةٍ واهيةٍ؛ أنها خُلِقَتْ للبيت، والزواج، والأسرة، ورعاية الأطفال، ليس إلاَّ! أما أمور العقل، والتفكير، واللغة؛ فموكولة إلى الرجل فقط!
كلا، وألف كلا! فما المانع من فتح الباب أمام النساء الناجحات البارزات؛ للإسهام في ارتقاء المجتمع وتقدمه، مثلها مثل الرجل، سواءً بسواء! وما الضير لو أصبحت المرأة عضواً في مجمع الخالدين بالقاهرة؟! فهل في أعضائه الآن مَن يقترب إنتاجه العلمي من إنتاج بنت الشاطئ، أو مي زيادة، أو وداد سكاكيني مثلاً؟!
العباقرة والمرأة!
يقول الشاعر الإنكليزي بايرون مخاطباً الرجل، ومعترفاً بفضل المرأة، ومكانتها، وبروحها الشفيقة الحانية على الرجل مصدر تعاستها “مِن صدر المرأة تستروح أول نسمات حياتك، ومن بين شفتيها تلتقط أحدث ما تتمتم به من حروف كلماتك، وإنها لتمسح أول ما تندَى به عينك من العبرات، ثمَّ إنها لتتلقَّف آخر ما يُصَعِّده الإنسان من زفراتٍ يومَ يزهد فيه الرجل، ويعرض عنه العُوّاد ساعة الأجل”!
ومن قبله، قال الشاعر الجاهلي طُفَيل الغَنَوي مُعْجَباً بالمرأة، مُعْلِياً لها ولمكانتها، ولمكارمها:
إن النساء كأشجارٍ نبتنَ لنا منها المرارُ، وبعض المُرِّ مأكولُ!
إن النساء متى ينهين عن خُلُقٍ فإنه واجبٌ؛ لابد مفعولُ!
وذلك لكون المرأة حازمةً، ولديها القدرة على تنفيذ ما تعد به من أعمال، ومنجزات.
ويقول حسين مجيب المصري في كتابه (المرأة في الآداب العربية والفارسية والتركية) “المرأة هي الحياة؛ فلو فقدناها؛ لفقدنا كل شيء! ولا يستطيع الرجل الحياة من دونها؛ فلا ريب؛ يكون عند فقدها كآلةٍ، ومجموعةٍ من المتاريس والحديد؛ فهو يعمل؛ بلا قلب، ولا مشاعر، ولا روح”!
ويرى الدكتور المعتصم أنور أستاذ الشريعة بالأزهر الشريف: أن المرأة أثبتت حضوراً علمياً ومعرفياً، لا يقل عن الرجل على مدار التاريخ؛ فمَن يستطيع أنْ ينسى أُمَّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وفقهها، واستدراكاتها على جميع الصحابة؛ حتى إنَّ الإمام الزركشي خصَّص كتاباً لذلك سمّاه (الإجابة فيما استدركته السيدة عائشة على الصحابة)؟!
ومَن يستطيع أنْ ينسى السيدة سُكَينة بنت الحسين رضي الله عنهما، التي كانت فقيهةً، وأديبة، وشاعرة، ولغوية، وكان لها صالونٌ يرتاده الرجال؛ للتعلُّم على يديها؟! بل، مَن يستطيع أن ينسى في العصر الحديث باحثة البادية ملك حفني ناصف، ودورها الثقافي، والخيري الكبير، ورسالتها النبيلة في الارتقاء بالمرأة، والمجتمع معاً؟! بل من يستطيع أن ينسى عائشة الباعونية الدمشقية في عصر المماليك، العالِمة التي ترجم لها ابن العماد الحنبلي في شذراته؛ فقال: إنها كانت من نوادر الزمان! فمن مؤلفاتها “الفتح الحنفي”، وكتاب “الملامح الشريفة والآثار المنيفة”، وكتاب” در الغائص في بحر المعجزات والخصائص”، وكتاب “الإشارات الخفيّة في المنازل العليّة”. بل؛ من ينسى.. مي زيادة صاحبة أشهر صالون أدبي في العصر الحديث!
فلا جرم؛ أن التراث خسر كثيراً عندما انحاز إلى الرجل على حساب المرأة؛ فكان صورة هزيلة لنصف البشر! فمتى ننصف حوّاء في عالم الكلمة، والفكرة من سيطرة الرجل؛ بعد أن تجنَّينا عليها طويلاً طويلاً؟!