معتقل الأحلام
ما الواقع؟ أقصد تحديدا التساؤل عن طبيعة الواقع الذي ننتمي إليه. لا أنوي رصد الطبيعة الفلسفية للمفهوم، بقدر ما أجدني مهتما أكثر بالواقع العيني الذي أتعاطاه يوميا أو الذي يشكِّل المشهد اليومي لحياتي الخاصة. ومن جهة أخرى يهمّني تمثّلاته السردية في نصوص روائية وأعتقد بأنّ الرواية، حتى لو أنّها فن التخييل بامتياز، فهي الفنّ المنتبه للواقع في تفاصيله حتّى المبتذلة منها.
ثمّة واقع ثابت يقاوم التحوّل والتغيير وهو الذي ننتمي إليه سوسيولوجيا وثقافيا وسياسيا. وفي المقابل هناك واقع متحوّل ومنتفض، وجسور ينأى عن التكلّس، وهذا واقع لاواقعي ينتمي أكثر إلى منطقة الحلم، على الرغم من أنّ شروط تحوله العنيف باتت واضحة.
فداحة الوهم
ما يسمّى بالربيع العربي، كمثال راهني، خلق الوهم بالثورة على الواقع، وقد أفرز طيلة سنوات الحراك تحولات شكلية في واقع العرب، وعلى الرغم من عنف الحدث التاريخي إلا أنه كان عنفاً مجانيا، أعطى شرعية أكبر للأنظمة الكليانية لكي تجدد جلدها فقط، في مشهدية مسرحية مأساوية في أفقها الإنساني المُلبّذ.
أما بالنسبة إلى المجتمعات التي لم تطلها، بعد، نيران هذه الثورات فقد جعلت من الأخطاء التي ارتكبت طيلة سنوات الحراك الشعبي فزاعة لترهيب الشعوب التي أحسّت بأنّ عصرا قد ولّى وأنّ عصرا جديدا سيبزغ مثل فجر بهيّ، والغاية كانت قتل الحلم في مهده!
مازال الواقع نفسه يعيد إنتاج نفس قيم الأنظمة السابقة، ومازال حق الفرد في أن يعيش متصالحا مع ذاته ومع رغباته وأحلامه وهما بعيد المنال، إذ لا يمكن استبعاد من الذهن هذه الصورة الاستعارية التي تصوّر الواقع العربي في صورة معتقل كبير تراقبه عيون لا تنام، تراقب حتّى حركة الأحلام داخل العقل الباطن للفرد.
إنّه واقع قمعي نفذ إلى المناطق العميقة في النفس لأجل التحكم في مشاعرنا وعواطفنا وأذواقنا، وبامتداده إلى هذه المناطق القصية يكون قد أطبق قبضته على كلية الإنسان.
في ظل هذا الواقع يحدث أن ينتاب الفرد إحساس ملازم بلا جدوى وجوده برعب بارد يتجلى له حتى في الظلال التي تمر بالقرب منه، وحتى وهو يفتح النافذة على مشهد رصاصي بارد لوجود بائس تؤثثه جموع “تتسرمن” بإيقاع بليد.
حيونة الإنسان عربيا
لقد قرأتُ باهتمام كبير كتابا مربكا وخطيرا، يحمل عنواناً لاذعا هو “حيونة الإنسان”؛ العنوان لوحده يومئ بخبث ذكي إلى هذا الواقع المتردي. والكتاب ألّفه الشاعر السوري ممدوح عدوان (1941-2004). يقول الكِتابُ، بجرأةٍ صادمةٍ، السِّيرةَ المغيّبة للواقع العربي، كما خطّتها كتابات -أدبية وسيريّة- لسجناء الرأي في السجون العربية الباذخة.
يدعونا عدوان إلى إرهاف السمع بانتباه شديد إلى هذه الأصوات -الحشرجات- التي اندلعت مثل حرائق بائسة من هامش عربي، هو، شئنا أم أبينا، جزء لا يتجزأ من واقع ننتمي إليه عنوةً. نصوص وشهادات لاذعة توقظ فينا إحساساً بمرارة مصير الإنسان العربي في ظلّ أنظمة قهرية وزجرية، تجلس فوق إرادة التاريخ المُختلس.
وإن كانت تجربة السجن من أشد التجارب قساوة، إلا أنها امتحان رهيب لإنسانية الإنسان، فقد منحت لنا نصوصاً جريئة أسقطت عن نفسها الكلفة لتعرّي واقعاً أو بالأحرى لتدمِّر الزيفَ الخرافيَّ لواقع ملفّق.
تجربة السجن، ولنتعامل مع المفهوم في إسقاطاته المُمكنة، هي تجربة مصادرة الإنسانيّ في الإنسان. من هنا جاء هذا العنوان الجريء ليعرّي فداحة المنظومات الدكتاتورية التي حيونت الإنسان.
وضمن الكتاب، كتب الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي -وهناك شهادات كثيرة أكثر لذاعة- يقول بمرارة “إنّ النظام السجني يعمل على تخريب مقومات الرغبة في العيش والعزيمة والفعل. إنّ مجموع هذه الإجراءات تستهدف خلخلة وتعطيل كل الحواس وقدرات النزيل” (ص 76).
ما يمكن فهمه من كلام اللعبي أنّ تقنيات السجون هي نفسها التي يطبقها النظام على من هم خارج أسوار السجون في هذه الحالة فإنّ المجتمع ككل يتحوّل إلى معتقل جماعي.
تهمة أن تكون مواطنا عربيا
نقرأ في رواية وحيد طويلة “حذاء فيلليني” (منشورات المتوسط 2016) كيف أنّ الإنسان العربي متهم في انتظار إثبات العكس؛ وتهمته أنّه مواطن لا يحق له أن يتنفس دون أن يأخذ تصريحا رسميا من مكتب الأمن القومي. أيّ حركة يمكن أن يقوم بها، مهما كانت بساطتها وعفويتها، تسجّل في تقرير البوليس السياسي كفعل مخلّ بالنظام السياسي.
وبذكاء رهيب تسلّل الروائي الطويلة إلى دهاليز نفسية الجلاّد يطرق أبوابها المُوصدة، ويضيء عتماتها المُريبة، لنرى العالم بعيونه وكم هو عالم تعيس عالم الجلاّد. وفي المقابل، ووفق آلية الاعتراف السردي، ترك ضحايا الجلاد ينتقمون بطريقتهم. سنكتشف أيضاً أنّ الضحايا هم من يصنعون الجلاّد.
يباغتنا بطل الرواية (لكن هل هو بطل؟) والذي يُدعى في الأصل مُطاع، والذي سيتحوّل إلى مطيع بقرار سياسي نافذ. قلتُ يباغتنا مطاع/مطيع بسؤال يلخّص معضلتنا العربية: لماذا يتعرّض المواطنُ للعقاب؟ ألا يبدو سؤاله لاذعا؟ بالنسبة إليّ، هو كذلك، لأننا كلنا نطرح السؤال نفسه: لماذا تكره الأنظمة العربية شعوبها؟ هذا يعني أنّ الواقع العربي هو في قتامة الرؤى الكابوسية لكافكا الرهيب.
إنّ ما يحدث في السجون العربية صورة مصغّرة عمّا يحدث خارج أسوارها، إذ ثمة قمع حيث ولَّيت وجهَك، وأخطره ذلك النوع اللامرئي من القمع.
تزداد شراسة هذا الواقع حين تتدخّل القوى الدينية في المجتمع، لتمنحه شرعية قوية، فما يمتّن دعامة الزعيم الجائر هو رجل دين أجير، وما يمنح شرعية استمرارية نظام قهري هو إطلاق كلاب الأصولية الدينية لتنشر سمومها في المجتمع وتفشي جوا ملوثا بالخوف.
ما يسمّى بالربيع العربي، كمثال راهني، خلق الوهم بالثورة على الواقع، وقد أفرز طيلة سنوات الحراك تحولات شكلية في واقع العرب، وعلى الرغم من عنف الحدث التاريخي إلا أنه كان عنفاً مجانيا، أعطى شرعية أكبر للأنظمة الكليانية لكي تجدد جلدها فقط، في مشهدية مسرحية مأساوية في أفقها الإنساني المُلبّذ
ما الذي جعل بطل رواية “عازف الغيوم” للروائي العراقي علي بدر يتخذ قرار الهجرة إلى بلجيكا؟ إنّه الواقع العراقي الكابوسي في عصر سيادة القوى الدينية المتعصبة والتي استغلت غياب الدولة لفرض قوانينها المتشددة.
قرارا الهجرة بالنسبة إلى نبيل عازف التشيللو هو لإنقاذ ذاته المؤمنة بالفن من الانهيار الكلي، فقد رأى أنّ الإنسان العراقي ينهار يوما بعد يوم، بفعل انهيار مفهوم الدولة الحديثة، وتفتت المجتمع داخليا إلى تشكيلات اجتماعية متناحرة لا تؤمن بالحياة ولا حتى بالفن.
في اللحظة التي اعترضته جماعة من المتشددين، والذين حطموا آلة التشيللو الخاصة به، فهِم بأنّ العراق لم يعد المكان الأثير لبناء مدينته الفارابية، وهي المدينة التي آمن بها والتي تقوم على مبدأ الانسجام الكوني، وقد رأى في الموسيقى المنظومة الجمالية القادرة على تحقيق هذا الانسجام.
يهاجر إلى بلجيكا لكنه هناك، وفي إحدى ضواحيها، يكتشف وجها آخر لأوروبا المهاجرين؛ فلم يجد تلك المدينة المسكونة بهوس الفن والجمال، بل على العكس تماما اكتشف مدينة غارقة في الفوضى، تعيش فيها جماعات من إثنيات إسلامية مختلفة، لم تتخلّص من جِلدها القديم.
إنه الواقع الذي يعادي أيّ شكل من أشكال التحرر من ربقة الإرث الديني المتعصب، واليوم نعيش هذا النكوص المرضي نحو نقطة بعيدة في لاوعينا التاريخي إلى ذلك الجذر النقي الذي ألهم جماعات الواقع بحلم إعادة ترميم ماضيها المُشرق، ولو بالتنكر لحاضرها وترهين مستقبلها.
إنّ واقعا اغترابيا كهذا ينتج أفرادا عاجزين عن مواجهة تحديات العصر، بل وبدل التفكير في إصلاح واقعهم وتغييره يكتفون بالتكيف معه والتواطؤ مع النظام السياسي.
يقول حليم بركات موصّفاً واقعنا العربي “إنّ الإنسان في مثل هذه المجتمعات المستبدة قد يضطر إلى تقبّل واقعه ولعله يفقد الجرأة على أن تكون له أحلام وطموحات تتجاوز عجزه. تلك هي أقصى أنواع التدجين والتهميش والإفقار” (ص 28).
لم يتخلّص العرب من روح البداوة رغم مظاهر التقدم الشكلي، ورغم عقود من محاولات الإصلاح والنهضة والتي باءت بالفشل. إنّ خلف المدن العملاقة مازالت خيام البادية منتصبة في عمق الصحراء، وخلف النظام الاجتماعي والسياسي المعاصرين مازال شيخ القبيلة حياّ. مازالت التراتبية القبلية تهندس وجودهم الاجتماعي، أمّا مشاعر النخوة والولاء للسلالة فهي تتحكم في كيمياء العواطف والمشاعر، فالعاطفة القبلية هي الجذر الأصلي للعاطفة القومية المعاصرة. وإذا تحدثنا عن علاقة الرجل بالمرأة ندرك بأنّها مجتمعات منتصبة.
تهمة الحياة
يتخيّل شاكر نوري في روايته “كلاب غلغامش” مدينة يقطنها الخالدون، فيضع بطله أمام مهمة خطيرة وهي نقل جثّة صديقه أنور المتوفّى ودفنها في سوايديا، قريته الأصل، والتي أصابتها لعنة الخلود.
لم يكن على علم بخطورة المهمة لأنّ إدخال جثّة إلى قرية خالدة هو بمثابة تهديد لأمنها العام، فقد سقطت لفظة الموت من قاموس الخالدين واختفت المقابر وبُنيت فوقها المراكز التجارية الكبرى.
يقدّم لنا نوري رؤية معكوسة للواقع العربي، فإذا كان العربي محروما من الموت في الرواية، بعد اكتشافه لسر الخلود، فهو في خارج هذه السردية التخييلية محروم من الحياة؛ لكن نكتشف أنّ الخلود، كما قد يتوهّمه الحاكم الطاغية لعنة ومأساة لا تُطاق. فأكبر مآسي سكان سوايديا أنهم لا يموتون في حين يتوقون إلى الموت لأنه بمثابة السعادة الحقيقية.
في واقعنا العربي تصير الحياة تهمة، وقد تعززت هذه الرؤية أكثر بإرجاعها إلى الجذر الديني حيث الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة، أي حياة الخلود، هناك في ذلك العالم الميتافيزيقي. أما مفاتيح ذلك العالم فهي ازدراء الحياة والتعامل معها بحذر شديد.
ننتمي للأسف إلى مجتمعات تغرس فينا كراهية الحياة بل الخوف منها، ويجب أن نتخيّل حجم هذا التراث العتيد من الأحكام التي تلقي بكاهلها على لاوعينا، وكانت الرواية إحدى الأدوات التعبيرية التي استطاعت أن تجسّد فنيا وجماليا هذا الإحساس بعنف الواقع في كل أبعاده المختلفة.