مقصلة الجريمة الإلكترونية

الفضاء الأزرق محكوم بـ"الأخ الأعظم" ومقصات الرقباء‎
السبت 2020/02/01
غرافيكس (الجديد)

لا بدَّ لكلّ مجتمعٍ من أنظمةٍ وقوانينَ تحكمُه، وتتحكّم في علاقاته الداخليّةِ والخارجيّة فتضمنَ له استقرارَه وأمنَه وكينونتَه، ومن المفترض أن تمضيَ به نحو مزيدٍ من التقدّمِ والتطوّر، ولا شكّ أنّ تلك الأنظمة والقوانين تتطوّرُ وتتعقدُ وفقاً لتحوّلات المجتمع، وتشعّبِ علاقاتِه، وتغيّر وسائلِ إنتاجه وأدواته التقنيّة؛ فقوانينُ القبيلة تختلفُ عن قوانين المدينة، والقانونُ الدوليّ كان ضرورةً لوجود الدول، وقوانينُ المرور كانت ضرورةً حتميّةً لعصر اختراع السيارات، وقد ربط بعضُ علماء الاجتماع تغيّرَ المجتمعاتِ وأنظمتها بما يسمّى “الحتميّة التقنيّة”، وينطلقون فيها من قناعةٍ خلاصتُها: أنّ قوّةَ التكنولوجيا هي وحدَها المالكةُ لقوة التغيير في الواقع الاجتماعي، وبالتالي هي التي ستفرضُ قوانينَها وأنظمتَها الجديدة، وقد عارضهم فريقٌ آخرُ يقولُ بالحتميّة الاجتماعيةِ التي يَرَوْن فيها أنّ المجتمعَ هو الذي يتحكّمُ في التكنولوجيا ويوجهُها، ولاشكّ أنّ كلا الفريقين له نصيبُه من الصواب، فالتقنيّاتُ المستحدثة بدءاً من اختراع العجلةِ، ثمّ القطاراتِ والسفنِ البخاريّة والبارودِ وانتهاءً باختراع الترانزستور ثمّ الأجهزة الذكية والمحمولة؛ قد فرضت على سيرورة المجتمعات البشريّة قفزاتٍ هائلةً وتغيّراتٍ جذريةً في علاقاتها، وأنماطها الحياتية، وفي المقابل كان على تلك المجتمعات أن تحصّنَ نفسَها أمامَ الزحفِ التكنولوجيّ بقوانينَ ونظمٍ تضمنُ حصانتَها ووجودَها واستمراريّتها وهويّتها.

مع نهاية الألفيّةِ الثانية وُلدَتْ حتميةٌ ثالثةُ عصفَت بثوابتِ العالم بأجمعِه هي “الحتميّةُ المعلوماتيّة” التي كان من أهمِّ المنظّرينَ لها عالمُ الاجتماع سكوت لاش الذي يرى “أنّه لم يعُدْ يُقاس مدى تقدّمِ الدولِ على أساس نتاجها القوميّ؛ بل إجماليّ نتاجها المعلوماتيّ القوميّ، وأكّد أنّنا في عصرٍ يصعبُ على الإنسان العيش فيه دونَ أدواتِه الاتّصاليّةِ، حيثُ تسطّحت أشكالُ الحياةِ، وأصبحتْ وسائلُ الاتصالِ حتميّةً للتفاعل مع كلّ شيء”. إذن نحن أمامَ ثورةٍ تِقنيّة جديدةٍ تعصُفُ بجميع مجتمعات الأرضِ، وأنظمتِها وقوانينِها التي تعارفت عليها، وتحصّنت بها مئاتِ السنين، تنسفُ الحدودَ الوطنيةَ والقومية وتهدّدُ بزعزعة الهُويّات والثوابتِ الفكريّةِ والأيديولوجيّات، والتحدّي الأكبرُ أننا أمامَ بناءِ مجتمعات افتراضيّة جديدة؛ في فضاء الكتروني رقميّ، تتكوّنُ وتتضخّمُ يوماً بعد يومٍ في رحمٍ عملاقٍ اصطُلِح على تسميته بـ “مواقع التواصل الاجتماعي”.

مواقعُ التّواصلِ الاجتماعيِّ وأهميّتُها

هي منظومةٌ من الشبكات الإلكترونيّةِ؛ تسمحُ للمشترك فيها بإنشاء موقعٍ خاصّ به وربطِه مع أشخاصٍ آخرينَ في شتّى أصقاعِ الأرضِ، والتفاعلِ معهم بالكلمة المكتوبةِ والصوتِ والصورة والفيديو، ويصنّفُ المختصّونَ تلك المواقعِ في ثلاثة أنواعٍ:

شبكةُ الإنترنت، وتطبيقاتُها مثل “الفيسبوك” و”تويتر” و”اليوتيوب” والبريد الإلكترونيّ، ومواقع الدردشة.

تطبيقاتٌ على الأدوات المحمولةِ كالهواتف الذكيّة مثل “واتس آب” و”إيمو” و”لاين” ويمكن من خلالها إنشاءُ مجموعاتٍ حواريّةٍ وندواتٍ فكريّةٍ وأدبيّةٍ وغيرِ ذلك.

أنواعٌ قائمةٌ على منصّةِ الوسائلِ التقليديّةِ كالراديو والتلفزيون، حيثُ تُفسِحُ مجالاً لمشاركة المواقعِ السابقةِ في برامجها.

وعلى هذه المواقع تشكّلت المجتمعاتُ الافتراضيّةُ الجديدةُ التي تتضخمُ يوماً بعد يوم، فقد بلغَ عددُ مستخدميّ “فيسبوك” ما يقارب 2.5 مليار مستخدمٍ متفاعلٍ، ما يعني أننا نقتربُ من ثلث سكّان الأرضِ، يتفاعلون بلغاتهم المختلفة من خلال هذا الوسط الضخم للتواصل الاجتماعيّ، بينما بلغ عددُ مستخدميّ “تويتر” حوالي 350 مليون مستخدم متفاعل، وبلغ تدفّقُ المستخدمين إلى موقع “يوتيوب” للفيديوهات المرفوعة إلى الإنترنت 1.8 مليار مشاهدٍ شهريّاً.

وإذا دقّقنا في المهمّة التي تؤديها تلك المواقعُ سنكتشفُ أنّها مهمةٌ مزدوجةٌ، فهي تواصليّةٌ من جهة وتثاقفيّةٌ معرفيّةٌ من جهةٍ أخرى.

صورة

وكي نفهمَ أهميّةَ هذه المهمةِ لا بدّ أن نفهم السياقاتِ السياسيّةَ والثقافيّةَ التي وفّرت سنداً نظرياً وفكرياً لهويّتها وممارساتها.

وأهمُّ تلك السياقات “السياقُ الديموقراطيّ” وخلاصته أنّ بعضَ النماذج الديمقراطيّة القائمةَ على الدعوة إلى المشاركة تشدّدُ على أهميّة مشاركة المواطنين وانخراطِهم الأكثرِ فاعليةً ونشاطاً في الديمقراطية، وتنتقدُ المؤسساتِ النيابيّةَ، سياسيةً أو إعلاميةً، ومنه فإنّ هذه المواقع تفرض مِنصاتٍ جديدةً لجميع المواطنين للمشاركة في العمل السياسيّ، كما أنّها تطرح إعلاماً فرديّاً بديلاً عن الإعلام الرسميّ، أو المؤسساتي الذي هيمن القرنَ الماضي، وغالباً سيكون الإعلامُ الجديدُ معارضاً لما هو سائدٌ، ومنه سيكون منتجاً لثقافةٍ جديدة.

ولا يُشكُّ بأنّ المهمّةَ التواصليّة لتلك المواقع تعمل على تضافر الطاقاتِ، وتوجيهها للبناء والإبداع عبرَ تطوير القديمِ، وإحلال الجديد من قيمٍ وسلوكياتٍ، كما تساهم في زيادة مجالات المعرفة للجمهور وتقبّلِه للتغيير.

أمّا على صعيد السياقِ الثقافيّ الذي شكّلَ سنداً لتلك المواقع؛ فإننا نعتقد أنّ معاناة المفكّر والمبدع؛ وخاصّةً في الدول ذات الأنظمة الشمولية من كم الأفواه، وقمع حرية التعبير، ومقصّ الرقيب، واحتكار دور النشر، وهيمنة مثقفي السلطة على المنابر الفكريّة والإبداعيّة، كلُّ هذا وغيرُه كثيرٌ كان دافعاً إلى اكتظاظ مواقع التواصل الاجتماعيّ التي أمَّنَتْ لروّادها التواصلَ المباشرَ مع الجمهور، فكانت منبرَ مَنْ لا منبرَ له، كما أنّها ألغَتِ المسافةَ والزمنَ بين المبدع والمتلقيّ، والأهمّ التوهّمُ بالقضاء تماماً على مقصّ الرقيب وهيمنةِ الأخ الأكبر.

غيابُ مقصّ الرقيب (إيجابياتٌ وسلبياتٌ)

يبدو للوهلة الأولى أنّ غيابَ مقصِّ الرقيب سيشكّلُ مناخاً واسعاً وملائماً لحرية المبدع، فيطرحَ أفكارَه مباشرةً على جمهوره، وهذا كلامٌ لا غبارَ عليه في حال كان هذا الرقيب هو الرقيب السياسيّ، أو الأخُ الأكبرُ – بتعبير جورج أورويل – الذي يسخِّرُ كلَّ أدواتِه وعيونِه لقمع الحريّات السياسيّة، والفكريّة، والإبداعيّة التي قد تقوّض سلطتَه ووجودَه، وهو صحيحٌ أيضاً في حال كان الرقيبُ هو الماضويّ الرجعيّ الذي أصبحَ عثرةً في طريق تقدّم الحياة.

ولكن هل سيكون غيابُ هذا الرقيب إيجابياً إذا كان رقيباً أدبيّاً أو لغويّاً، أو أخلاقيّاً؟

فغياب الرقيب اللغويّ والأدبيّ عن مواقع التواصل الاجتماعي انعكس سلباً في عالمنا العربي على اللغة والشعر والأدب بشكل عامّ، فعلى الرّغم من اعترافنا أن تلك المواقعَ فرضتْ نماذجَ جديدةً من الأشكال الأدبية، ومتميزةً في ابتكار الفكرة ومعالجتها، وعرفنا وتواصلنا من خلالها مع مفكرينَ وأدباءَ ما كنّا لنعرف نبوغَهم وعظمتَهم لولاها، إلا أنّها أحياناً أخرى كانت وبالاً على اللّغة، ونَحوِها وصرفِها؛ بل إنّنا نراها تساهمُ يوماً بعد يومٍ في ولادة نماذجَ مترهّلةٍ من الأدب، ونعاينُ من خلالها طغيانَ العاميّة واللهجات المحكيّة على حساب الفصحى.

أما غيابُ الرقيبِ الاجتماعيّ والأخلاقيّ فقد شكّل خطراً على خصوصيّة حياةِ الأفراد؛ كاستباحة حرمةِ حياتهم الخاصّة وتهديدها بالنشر الفضائحيّ، أو نشرِ الاشاعات بحقّهم؛ مِمّا يُلحِقُ الضّررَ بهم، بل وابتزازهم ماديّاً ومعنويّاً، كما شكّلَ خطراً على الروابط المجتمعيّة كالدعوة من خلال تلك المواقع إلى التباغض، أو إثارة النعراتِ الدينيّة أو الطائفيّة أو العرقيّة أو الإقليميّة، أو الدعوةِ إلى العنف أو التحريض عليه. وهنا لا شكّ أنّ غيابَ الرقيبِ سيؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه.

الجرائمُ الإلكترونية

صورة

وأمامَ هذا الجدلِ بين سلبيّات منابرِ التواصل الاجتماعي وإيجابيّاتها؛ سارعت الأنظمةُ والحكوماتُ في الدول النامية والمتقدّمة إلى سنّ الأنظمةِ والقوانينَ للحدّ مما اصطلِح على تسميته بـ”الجريمة الإلكترونية” والتي عُرّفت بـ “إنها الجريمة التي تتمثّلُ في كلّ سلوكٍ غيرِ قانونيّ مرتبطٍ بأيّ شكلٍ بالأجهزة الإلكترونيّة؛ يتسبب في حصول المجرمِ على فوائدَ مع تحميل الضحيّة خسارة، ودائماْ يكونُ هدفُ هذه الجرائمِ هو السرقةُ أو القرصنةُ أو الابتزازُ أو الاختراق أو انتهاك خصوصيات وحقوق الأفراد، أو التعدّي على الأمن المعلوماتي للدولة، فضلاً عن التخريب وبثّ الفتن، والكراهيةِ في المجتمع، وغيرُها من الجرائم الأخرى، وما تسببه من إيذاء نفسيّ كبير للأشخاص‎.

قوانين الجرائم الإلكترونية وسقف الحريات

من خلال استقراءِ تلك القوانين، وخاصةَ في البلدان ذاتِ الأنظمة الشموليّةِ التي تحكم البلادَ والعبادَ بسلطة أبديّة نكتشفُ أنّها محاولةٌ لاستعادة سلطةِ الأخِ الأكبرِ، ومقصِّ رقيبه، ولكن بشراسةٍ وضراوة أكبرَ من السابق.

فمثلاً نقرأ في أحد تلك القوانينِ عن عقوباتٍ بالسجن تتراوح بين السنة والعشر سنوات، وغرامةٍ ماليّةٍ تصل إلى ملايين الدولارات لكل مَنْ “يمسُّ النظامَ العام، أو القيمَ الدينيّةَ، أو الآدابَ العامّة، أو يُتهم بتأسيس موقعٍ لمنظماتٍ إرهابيّة، أو الدعوةِ إلى الإرهاب أو العنف أو التمييز العنصريّ، أو وَهْن الشعور الوطني…”، ونقرأ في قانون آخر أنّ “كل مشترك على الفيسبوك يزيد عدد متابعيه عن خمسة آلاف يخضع للرقابة الأمنيّة، ويحقّ للسلطات حجبُه إذا رأت أنه يدعو إلى الإرهاب أو العنف”.

وإذا دقّقنا في تسميات تلك الجرائمِ سنجدُ أنفسَنا أمامَ مصطلحاتٍ فضفاضةٍ؛ كالعنف والإرهاب والتعصب لم يتفق العالمُ على تحديدها حتى اليوم، ومن خلالها يمكن لقضاة الأخ الأكبر إلباسها لمَنْ يشاؤون.

ونقرأ في قانون إحدى الدول أنه يُطلَبُ من مقدميّ خدمة الإنترنت الاحتفاظ ببيانات استخدامِ العملاءِ وهُويّة المستخدم، وتخزينها لمدة 180 يوماً، وفي قانون دولةٍ أخرى لمدة ثلاثِ سنواتٍ وهذا يعني الاحتفاظَ بجميع أنشطةِ المستخدمِ من مكالماتٍ ورسائلَ نصيّةٍ والمواقعِ التي تمّت زيارتُها، والتطبيقاتِ المستخدمةِ على الهواتف الذكيّةِ، وأجهزةِ الكمبيوتر. كما أنّ هناك فقراتٍ في القانون تُلزم مزودي خدمةِ الإنترنت بالتعامل مع الأجهزة الأمنيّة.

وجديرٌ بالذكر أنّ بعضَ تلك القوانينِ الجديدةِ يتناقضُ مع موادِ سابقة من دساتير تلك الدول، خاصّةً التي تنصّ على “أنّ للحياة الخاصّة حرمتَها، وهي مصونةٌ لا تمسّ، وللمراسلات البرقيّة والبريديّة والإلكترونيّة والهاتفيّة، وغيرِها من وسائلِ الاتصال حرمتُها، وسريتُها مكفولةٌ، ولا يجوز الاطّلاعُ عليها إلا بأمرٍ قضائي”.

ونذكر على سبيل المثالِ أنّه بعدَ سَنّ هذه القوانينِ أُغلِقَ في دولةٍ نامية واحدةٍ حوالي 500 موقعٍ إلكتروني واستدعي عشراتٌ من الأدباء والمفكرين إلى قاعات المحاكم.

ورغم مبالغةِ قوانينِ تلك الدولِ في مقدرتها على التجسس على الشبكة الإلكترونيّة؛ فإننا نرى فيها شيئاً من الترهيب وإيهام مواطنيها بمقدرتها على تتبُّعهم، لأن بعض التطبيقات لا يمكن اختراقُها أو مراقبتها إلا من قبل إدارات تلك المواقع، ومقابل مبالغ ماليّة باهظةٍ جداً.

 مقصلة الأخ الأعظم

إذا انتقلنا من محاولات الأخِ الأكبرِ للهيمنة على مواقع التواصلِ الاجتماعيّ إلى سلطة الأخِ الأعظم ونعني به المتحكّمين بإدارات تلك المواقع، سنجد أنّه نتيجةَ تطوّراتٍ متدرّجةٍ في العقد الأخير اجتمعت خيوطُ التحكّم في تلك المواقع في أيدي عدة اشخاص منهم مارك زوكربيرغ (فيسبوك) وجاك دورسي (تويتر) وسوزان ديان ووجيسكي (يوتيوب)، وجعلت منهم مالكين ورؤساءَ لمجالسِ إدارات تلك الشركات الثلاث، ومتحكمين ليس فقط في تدفق المعلومات عبرَ العالم؛ بل وفي درجة ذاك التدفق، وإعاقةِ أو إغلاقِ مساراته، وكل ذلك رهينٌ لما يخطّطُ له أحياناً من تغيير في دفة المجتمع والاقتصاد، بل والسياسة في أماكنَ كثيرةٍ حولَ العالم.

إذن عدةُ أشخاص مع مجالس إداراتهم يمسكون جميعَ مواقع التواصل الاجتماعي، ويديرونها وفقاً لقواعدَ محدّدةٍ، وهم بدورهم يخضعون لقوانين الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت نفسه لسائر المواثيقِ والأعراف الدوليّة.

 ومما يلاحظ أنّ تلك الإداراتِ تفتقر إلى الدقّة، والموضوعيّة في رقابتها، وتطبيق قوانينها؛ وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ، منها اختلافُ المفاهيم والمصلحات والمبادئ واللغات ودلالات الألفاظ من شعب لآخر؛ فما يخدش الحياءَ العامَّ عند شعبٍ قد يكون عُرفاً عند شعب آخر، والإرهابُ عند أمة جهادٌ مقدّسٌ عند أخرى، ومدلول لفظةٍ في مجتمع ما قد يكون ضده عند غيره.

صورة

وهنا قد لا يقع اللومُ على رؤساء مجالسِ الإدارات ومالكي تلك المواقع؛ لأن المشكلةَ تكمن في عدم الاتفاقِ على المصطلحات، وتحديد مدلولاتها بدقّة، وهذا ما يدفعهم إلى حظر منشورٍ أو تجميد حساب حين الإبلاغ عنه بأنه مخالف للمعايير.

ولكن كيف سنجد لهم مبرراً حين نلاحظ أن السماحَ بالنشر، والحظر من تلك الإدارات لا يتعلق دائماً بمضمون المنشور؛ بل هناك اعتبارٌ للشخصيات، والمجموعات، والتوجهات (السياسية، العرقية، الدينية، الطائفية).

ومن أمثلة ذلك حذفُ اليوتيوب لآلاف الفيديوهات المتعلقةِ بالثورة السورية، والتي توثّق جرائمَ حرب ارتكبت بحق الإنسانيّة، بدعوى أنها تتضمن شيئاً من العنف، وكذلك حذفُ حساباتِ بعضِ مناصري القضية الفلسطينيّة، بدعوى أنّهم يبثون تدوينات وتغريدات تحضّ على الكراهية ضدّ اليهود، بينما يتم الإبقاءُ على حسابات يهوديّة تقطر كراهيةً وحقداً على الفلسطينيين.

كيف نفهم تجميد حسابِ الصحفيّ الأميركي ألكس جونز على تويتر حين كتب مطالباً “بتوجيه الأسلحة إلى وسائلِ الإعلام” بتهمة التحريض على العنف، ثم نقرأ تغريدة على تويتر ذاته للرئيس الأميركي دونالد ترامب مضمونها أن العلاقات الدولية الحالية قائمة على المصالح المادية فقط ولو كان على حساب دماء الملايين.

وكيف نفهم معيارَ الإساءة للأشخاص الذي قد يؤدي إلى تجميد حساب المشترك، ونقرأ تغريدة لترامب أيضاً ينعتُ فيها الموظفةَ السابقةَ في البيت الأبيض “نيومان” بالكلبة.

كلّ ما سبق وغيره كثير لا يمكنُ أنْ يُقرَأ إلا في إطار ازدواجيةٍ في المعايير؛ تنحرف بتلك المواقع عن قوانينها وقواعدها الصارمة، التي يُفترضُ أن تطبَّقَ على الجميع دونَ استثناء.

أخيراً، هل نترحمُ على مقص رقيب الأخ الأكبر ونحن نقف مكتوفي الأيدي أمام مِقصلَة الأخِ الأعظم؟ فمقصّ الرقيبِ كان يكتفي بقصّ صفحاتٍ من مجلةٍ دوريّة، أو مقطعاً من فيلم، أو يمنعُ كتاباً من التداول، أو دخول معرضٍ من معارض الكتب، كما أنه كان يُمارس على المؤسسات كدور النشر والسينما والدوريات، ويمارس من قبل مؤسساتٍ وسلطاتٍ، وكلّ هذا كان سابقاً للنشر؛ أيْ أنّ المتّهمَ لم يصل عملُه إلى الجمهور، أي لم يرتكب جريمته حسب زعم الرقيب؛ عكسَ ما يحدث اليوم على وسائل التواصل حيث يحاسب الناشر من خلال ما يقدمه هو من أدلةٍ معروضة منشورة لإدانته، وليس بما ضبطته السلطاتُ بحوزته، فرقيب اليومَ قد عاد مسلحاً بقوانين جديدة، وأدلة يقدّمها المُدان بيده.

هل نترحّم على الرقيب المؤسساتي بعد أن سمحت تلك المواقع لكلّ من شاء بأن يمسك مقصّ الرقيب، فنرى مَنْ يكذّبُ، ومن يُتفّه، ومن يُخوّن، ومَن يكفّرُ، ومن يُدخِلُ الجنةَ والنارَ، ودون تبرير يذكر أحياناً. والجميعُ يملكون صلاحيةَ إبلاغ إداراتِ تلك المواقع بقراراتهم وأحكامهم، وهي بدورها ما تزال تتخبط في المفاهيم والمصطلحات، والاعتبارات الشخصيّة، ولها أيديولوجياتها ومراميها البعيدةُ، كما أنّها في النهاية مؤسساتٌ ربحيةُ، ولا شيءَ محرّم عندها على البيع.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.