ملف المهجرية الجديدة
في الأيّام الأولى من وصولي إلى ليوبليانا، مررت، بالصّدفة، بجانب القصر الرّئاسي، والذي لا يبعد عن وسط المدينة سوى بضع عشرات من الأمتار. كان المشهد مختلفاً تماماً عن قصر المُرادية، في الجزائر العاصمة، والذي لا يمكن أن نبصره سوى على بُعد مئات الأمتار، لا يحقّ لنا الاقتراب منه دون إذن ولا التوقّف بالسّيارة أو على الأرجل.
اقتربت وسألت موظّف الاستقبال إمكانية الدّخول والتّجول في المكان. لم يعترض ولم يسألني عن هويتي، واقترح عليّ المجيء في يوم آخر من الأسبوع، “كي تستطيع زيارته على راحتك”، كما قال. عدت في اليوم الذي حدّده لي، ووجدت قصراً عادياً، بلوحات لفنانين محليين على الحيطان، وستائر حمراء، حرس لا يتعدى أربعة أشخاص، وقاعة مؤتمرات في الطّابق الأول. صعدت إلى الطّابق الثّاني، وولجت مكتب رئيس الجمهورية (الذي كان في زيارة إلى بلد جار): قاعة صغيرة، مع طاولة خشبية في وسطها وكرسي، وصور له في ماراثون وأخرى مع أطفال مصطفة على رفّين. تُجانبها قاعة اجتماعات، عثرت فيها على ما كنت أبحث عنه: مكتبة رئيس سلوفينيا. قلّبت الكتب، وأنا أرمق العناوين، محاولا الإحاطة بما يقرأه، وما هي خياراته، ولم أجد سوى كتب في التّاريخ، باللغتين السلوفينية والإنكليزية، مع سير بعض الشّخصيّات، مثل مالكوم إكس، وبين تلك العناوين وقعت عينيّ، أخيراً، على كتاب لمؤلف عربي: “أنطولوجيا القصّة العربيّة”، للفلسطينية سلمى خضراء الجيوسي. هل يقرأ رئيس سلوفينيا أدباً عربياً؟ أم اقتنى الكتاب فقط بسبب طباعتها الفاخرة؟
واصلت التّجوال في المكان، إلى أن صادفت سيدة، في أواسط العمر، عرّفتني على نفسها وعملها كمسؤولة البروتوكولات في الرّئاسة، وسألتها “هل تذكرين آخر رئيس عربي زار بلدكم؟”. صمتت وهي تفتش في ذاكرتها عن إجابة. طال انتظاري وابتسمت لها، كي تفهم أنه ليس سؤالا ملحّا، ولا ضرر في عدم الردّ. لكن فجأة برقت عيناه، كما لو أنها اكتشفت نجماً جديداً في السّماء. “نعم، نعم، أذكر”. “من هو؟” استفهمت. “كان رئيس تركمنستان”. لم أودّ أن أحرجها بأن تركمنستان ليس بلداً عربياً، حييتها وانصرفت، أسائل نفسي كيف لبلد كان جزءاً من يوغسلافيا، المعروف عنها قربها من العرب، يفقد صلته بهم؟ ففي سلوفينيا لا توجد سوى سفارة عربية واحدة، سفارة مصرية، يقضي موظّفوها جلّ وقتهم في استصدار تأشيرات للسّياح، بينما العربية -لغة وثقافة- تنمو بعيداً عن الدّوائر الرّسمية، ويشرف عليها أفراد مستقلّون لا مؤسّسات، يودوّن الانعتاق بالثّقافة بدل أن تظلّ تابعاً للقاطرة السّياسية.
يقوم المترجم اليمني محسن الهادي، منذ سنوات، على تقريب القارئ السلوفيني من الأدب العربي، ترجم (بصحبة حرمه ماغريت) عدداً من العناوين، منها نصوص لمحمود درويش، مختارات من الشّعر الفلسطيني، أنطولوجيا للشّعر العربي، ومجتزآت من ألف ليلة وليلة، ولكن اسمه اشتهر أكثر منذ ترجمته للقرآن عن العربية مباشرة، فطيلة عقود كانت نسخة القرآن الوحيدة في البلد مترجمة عن البوسنيّة. كما سبق له أن ترجم من السلوفينية إلى العربية مجموعة قصصية بعنوان “متوازيات” لسوزانا تراتينيك، وهي المجموعة الحاصلة على “جائزة بريشرن”، أرفع الجوائز الأدبية والتي تحمل اسم فْرنسي بريشرن، أكبر شعراء سلوفينيا. من جانبها تقوم المستعربة بربارا سكوبيتس بدور هامّ في التّرجمة من العربية، حيث نقلت ثلاثية نجيب محفوظ، وترجمت روايات “بيرة في نادي البلياردو” لوجيه غالي، “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني و”تاكسي” لخالد الخميسي. هذا فيما يخصّ الأدب، مع أن ترجمات كتّاب عرب آخرين تصل إلى السلوفينية عن طريق لغات وسيطة مثل الفرنسية والإنكليزية أو الألمانية، أما في الفنون فلا يمكن لمن يزور ليوبليانا أن يخطئ الطّريق إلى “غاليري ديوان” الذي أسّسه ويشرف عليه الفنّان العراقي أركان نوّاس. إنه نقطة تقاطع بين مثقفين عرب ومهتمّين وباحثين أجانب في الثّقافة العربية. هكذا، شيئاً فشيئاً، يلتئم المشهد العربي في سلوفينيا وتتكتّل نواته الصّلبة. هذه معاينة سريعة تخصّ بلداً صغيراً لا يتعدى سكّانه مليوني نسمة، ففي هذا الجوّ كيف نكتب بالعربية؟
أتّفق مع ما يذهب إليه غاو شينغيان أن الأدب مغامرة شخصية يبدأ وينتهي عند تجارب الفرد، وأيّ محاولة لإخراجه من الحميمية سيحوّله إلى ما يُشبه مانيفستو ويفقده ماهيته.
لقد كان ما يُطلق عليه “أدب مهجري”، في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين مشغولاً بمداواة كتّاب من معاناة نفسية لم يختبروها قبلاً، يستعينون بالكتابة للتّخفيف من حنينهم وشوقهم لبلدهم الأصلي، ولا بدّ أن الأدب حررهم من شعور بالذّنب وقلّل من وحشتهم، ولكن هل كانوا يكتبون لأنفسهم أم للقارئ؟ كانوا يكتبون لأنفسهم، أما القارئ فلم يكن يحرّكه نحوهم سوى شعور بالفضول ورغبة في الاطلاع عما يفكّر فيه عرب مثله يعيشون على ضفاف بعيدة عنه. إن ذلك الأدب غيّرهم وأشعرهم بأمان، لكنه لم يغيّر شيئاً في القارئ، لأن تلك التّجربة لم تدم طويلاً.
أنظر إلى الأدب كما لو أنه نهر على رأي فرانك كونروي، قد تنتهي حدوده داخل بلد واحد أو يستمر في أكثر من بلد، وفي الحالتين من المهم ألاّ ينقطع سير نهر أن لا تختلف الكتابة بين داخل بلد أو خارجه، قد تتطوّر وتتنوّع وتتعدّد دون أن يُقصد من ذلك ابتكار قطائع أو تغيير جلد الكاتب، فلست أؤمن كثيراً بأدب مهجري في هذا الزّمن التكنولوجي المتوحّش، حيث يمكن لأيّ مهاجر أن يتواصل مع بلده في كلّ حين، يتابع الأخبار والأحداث وتتناهى إليه الأحاجي والقصص، وتتدّفق كلّ يوم أمامه صور وفيديوهات، بل قد يكون صانعاً للأحداث وهو يُقيم خارج جغرافيته. لقد امّحت الحدود مع الوقت، ولم تعد الطّائرات تثير في الأنفس حلما، كما في الماضي، ولم يعد النّاس يرغبون في الطّيران بقدر رغبتهم في الثّبات في أمكنتهم. إن زمن الصّعلكة الأدبية أيضاً توارى، هل ما يزال يوجد في القرن الحادي والعشرين شعراء أو كتّاب صعاليك، كما عرفناهم في القرنين الماضيين؟ أولئك الذين لا سقف لهم ولا وطن غير كتاباتهم؟ النّاس باتوا يستأنسون للاستقرار لا للتّرحال. وربما يعود السّبب في ذلك إلى عوائق تقنيّة وصعوبة الحصول على تأشيرات وغلق الحدود بين الدّول، على عكس ما كان عليه الوضع قبل عقود قليلة.
في سلوفينيا لا أشعر بنفسي مهاجراً. أزاول عملي نفسه كما كنت في الجزائر، وأكتب كما كنت أكتب سلفاً عن قضايا تشغلني في التّاريخ وفي تراكمات ما بعد الكولونيالية. أكثر شيء قد يوفّره لنا فضاء مهجري هو الحريّة، ففي بلد مثل الجزائر السّكاكين تشهر في وجه كل من يرتّد عمّا يسمّى “العادات والتقاليد”، إنهم يزرعون رقابة ذاتية في العقول ويمنعون الكاتب من التّفكير خارج الحدود التي يرسمونها له. الشّعور بحرية التّفكير هو جوهر العملية الإبداعية، وهو أهم شيء تمنحنا إياه تجربة في المهجر، ومنها تتفجّر عيون وسواقٍ تخدم كلّها الكتابة.
ما إن خرجت من قصر الرّئاسة حتّى التقيت بصديقة دراماتورج سبق وتعرّفت عليه في ورشة كتابة. جلسنا في مقهى كي تحدّثني عن مشروعها الجديد وهو اقتباس “النّبي” لجبران خليل جبران على الرّكح. “لماذا كتاب النّبي تحديداً؟” سألتها. فأجابتني “قرأته وأنا صغيرة ولا يزال محفوراً في ذاكرتي”. شرحت لي، فيما بعد، أنها أرادت اقتباسه كي تتقاسم شغفها بذلك الكتاب مع آخرين. لم يكن الأمر سهلاً، لم تجد دعماً، وانتهى الأمر بها، بعد أشهر، بإنتاج المسرحية مع مسرح مستقلّ صغير في ليوبليانا. لكن سعادة غمرتها، بعد انتهاء العروض، والتي دامت أسبوعين متتالين، وهي تقول “هذه مجرد خطوة أولى وقد يأتي أحد من بعدنا ويكمل الطّريق”.