حكاية خيسوس

مهمة في بَريش
موسى النعنع

مهمة في بَريش

ما إن خرجنا من مضيق دردنيلوس، الذي يسميه الأتراك “جنق قلعة بوغاز”، حتى بدأت سفينتنا بالانحراف غرباً باتجاه مرسى مدينة أطناش، قاعدة بلاد الإغريقو، حيث نرسو يومين أو ثلاثة، بحسب الرياح، نقلع بعدها إلى البندقية، محطتي البحرية الأخيرة.

اعترتني غمة شديدة وأنا أراقب سفينة فيروزة التي غربت بعيداً في أفق البحر المتكسر. شعرت بأنني أرسلت في غامض البحر جزءاً من روحي. هذه الغمة واحدة من أطوار الخوف التي خبرتها طوال سنوات عمري لا أعرف بماذا أسمّيها.

في هذه الحياة؛ ثمة أشياء لا يدرك معناها المرء إلا إذا خاض غمارها. كثير من الناس لا يميزون الخوف من الهلع. الهلع شعور عابر يشعر به الأطفال، ممن لديهم آباء وأمهات. هؤلاء تجدهم يصرخون باسم الأب أو الأم حين تفاجئهم قطة شرسة، أو كلب ضال، أو نقاط دماء من جرح عرضي. وحين يحضر أحد الوالدين؛ يتبدد الهلع في الحضن الدافئ وكأنه لم يكن. أما الخوف فهو ظل يرافق يتيم الأبوين أينما حل، ويتسلل حتى إلى مناماته. سأسمّي هذه الغمة فقداً. نعم هو الفقد الذي استشعرته في نظرات خالتي إيزابيلا وهي تتحدث عن ابنها ياغو الذي هاجر إلى مخيكو، ولم يكن لديها أمل برؤيته مرة أخرى.. نظرات الفقد لا تشبه نظرات الشفقة التي رأيتها في عينيها وهي تقبلني حين غادرت قبل أكثر من عشر سنوات وعائلتها إلى مذريل.

يعرف اليتيم جيداً كيف يميز الشفقة عن الحب أو الفقد، يشعر بها من نظرة خاطفة، من نبرة الصوت، من تمسيدة اليد على الشعر، من حرارة القبلة.

 استغرقت الرحلة من أطناش إلى البندقية نحو خمسة أيام بلياليها، لم تفارق مخيلتي صورة فيروزة لحظة واحدة. وحين كان الشوق يشتد بي، كنت أخرج منديل عطر الناردين وأشتمه وأنا مغمض عيني، فتحضر صورتها من غياهب قبة السماء، وتبقى معي طالما بقي عطر الناردين.

المكان الأول الذي قصدته ساعة حلولي في البندقية كان مخزن البدر بن الحكم. واكتشفت أنه كان ينتظر وصولي على أحرِّ من الجمر. حين رآني مقبلاً على مخزنه، هرع إليّ معانقاً، ودعاني إلى غداء عامر من أسماك البحر وثماره.

قال وهو يقدم لي قطعة من سمك السردينا المقلي، لما رأى من ترددي في تناول الطعام:

– عودت نفسي على تناول السمك في هذه البلاد، يبقى السمك خيراً من الذبح غير الحلال.

قلت وأنا أتناول قطعة السمك وأمضغها:

– لقد أحل الله عز وجل لنا ذبح أهل الكتاب.

تبسم ابن الحكم وقال:

– اسألني عنهم لقد رأيتهم كيف يذبحون الدجاج، إنهم يكتفون بليِّ عنقه وخنقه! واللحم ما أدراك إنه ليس لحم خنزير؟

– شيخنا أبوبكر بن العربي أفتى بجواز تناول طعامهم الذي يبيحونه لأنفسهم أياً كان، بدليل قوله تعالى: “اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم”.

قال وهو يمضغ لقمته:

– لن أدخل معك في جدال فقهي، ولكنني أظن أن ابن العربي مخطئ، هم يحلِّون أكل الخنزير، وهو محرم عندنا بنص شرعي لا جدال فيه.

– في رأيي أن النص القرآني واضح: يُحل لنا أكل الخنزير في موائدهم، ولا يُحله في موائدنا نحن.

تأملني ابن الحكم ملياً ثم قال بتشكك:

– لو لم يوصني بك الشيخان الأشقر، والشريف الأندلسي لقلت إنك من الجماعة الملعونة جماعة الأكيحل الأندلسي عليه من الله ما يستحق.

تبسمت وأنا أقول:

– وإذا كنت منهم ماذا ستفعل بي؟ هل ستذبحني مثل شاة؟ أم ستلوي عنقي مثل دجاجة؟

أشاح ابن الحكم بوجهه خجلاً، كأنه شعر بخطئه، وأردف قائلاً:

– المهم الآن هو ما أود إطلاعك عليه لتخبر به الشريف الأندلسي. فقد بلغني من أحد إخواننا في مذريل بوجود جاسوس للملك فيليب بن فيليب في قصر سلطان المؤمنين حفظه الله. وأظن أن مهمة كشفه وحماية السلطان منه ينبغي أن يتولاها واحد من جماعتنا.

قلت ساخراً:

– هل ترانا قادرين على حماية أنفسنا حتى نتولى حماية سلطان بني عثمان؟

قال متبرماً:

– أنت مازلت غرّاً، لا تدرك ألاعيب الدول.. هذا الجاسوس مكلف بمهمة واحدة، وهي منع سلطان المؤمنين من تقديم يد العون لأمتنا.. هل فهمت الآن؟

– نعم فهمت؛ وماذا أيضاً؟

– هناك خبر آخر لا يقل أهمية، وهو أن الشاه عباس الكبير، ملك الفرس، أرسل سفارة إلى فيليب بن فيليب حول ترتيب حرب ضد سلطان المؤمنين على جبهتين، في البحر من جانب الإشبان، وفي البر من جهة بلاد فارس، وأنهم سيطبقون الخناق عليه، ويقضون على دولته. هذا ما وصلني، ولذلك أرجو أن تحمل هذا الخبر عاجلاً إلى الشريف الأندلسي لكي يتصرف في الأمر وفق معرفته، وليس عن طريق موظفي القصر. هل فهمت الآن؟

هززت برأسي هزات خفيفة، فأردف:

– أرجو أن توصل نصيحتي للشيخ الشريف الأندلسي لكي ينقلها إلى السلطان أحمد: الملك الفرانصاوي هنري الطيب هو الآمر الناهي على ملك إشبانية فيليب بن فيليب، وهو وحده من يستطيع أن يأمره بتسهيل خروج أبناء أمتنا المسحوقة بأدنى كلفة من الخسائر. فالأخبار التي بدأت تصلني أن لصوص الفرانصاويين والجنويين والقشتاليين بدؤوا يستعدون لنهب مهاجري الأندلس. وذلك بعد أن مرت، من دون محاسبة، جرائم نهب طلائع المهاجرين من جانب ربابنة السفن المستأجرين لإيصالهم إلى مراسي بلاد المغرب، كما يبين كتاب ابن البرطال الذي بعثت به إليكم.

– أرجو أن تعذر جهلي يا سيدي، لكن ما الذي سيدفع سلطان المؤمنين لإرسال كتاب إلى ملك فرانصة؟ وما الذي يضمن أن يمتثل ملك فرانصة لطلبه؟

– خبر سفارة شاه الفرس، سوف يدفع السلطان لأن يسرع في إرسال سفارته إلى ملك فرانصة، لأن إشعال حرب في مياه بحر الروم مع أسطول العثمانيين، المرابط في الجزائر، من شأنه أن يضر بمصالح فرانصة، ويقوي مركز إشبانية. ولا تنس أن ملك فرانصة يبطن إيمانه بدين قلبن، رغم أنه عاد إلى دين الكاثوليك لمصلحة فرانصة، كما قال. مصلحة القلبنيين مع المسلمين، وضد الكاثوليك.. ولذلك فإن أفضل خيار أمام السلطان في هذه الفترة، عقد هدنة مع الشاه عباس، ومنع وقوع الحرب البحرية لأنها ستكون وبالاً على السلطنة.

لا أكتم عنكم سراً؛ فقد أثار ابن الحكم إعجابي الشديد بمعرفته الوثيقة بأمور الدول، ودهاليز سياساتها، كما أكبرت فيه هذا الدهاء الذي يستقرئ مصلحة أمتنا بين نقائض الملوك، وهذا واحد من الدروس التي تعلمتها منه.

عدت إلى إسطنبل على متن السفينة التي أقلتني منها إلى البندقية، وفور وصولي توجهت إلى الشريف الأندلسي، وأحطته علماً بما طلب البدر بن الحكم أن أوصله، فأخذني الشيخ من يدي وتوجه بي إلى صديقه شيخ الإسلام محمد أفندي خوجة زاده، وكان يجيد العربية كأحد أبنائها، فأعدت عليه كل ما سمعته من ابن الحكم، وقد سُرَّ كثيراً بما سمعه، إلى درجة أنه أهداني خلعة ثمينة، ونقدني خمسين قطعة ذهبية، وطلب مني أن ألزم بيتي ريثما يردني خبر منه.

في فترة الانتظار، كان الشريف الأندلسي يزورني كل يوم، لدى عودتنا من صلاة الظهر، نتذاكر فيما ينبغي علينا فعله في هذه الأيام العصيبة، وكيف يمكن أن نساعد أبناء أمتنا. وكان رأي الشيخ أن لا سبيل لنا سوى سلطان المؤمنين، فهو وحده القادر بعد أن خذلنا سلاطين المسلمين الآخرين.

في إحدى هذه الزيارات سألته عن الطبيب ابن أبي العاص، فأخبرني بأنه علم عن توجهه إلى بلاد الأناضول منذ مدة، لكي يبارك لصديقه القاضي إسعاد أفندي، شقيق شيخ الإسلام، بتعيينه قاضي قضاة تلك الناحية من البلاد.

شجعني هذا الخبر على معاودة المحاولة للوصول إلى الطابق الخامس في برج غَلَطه، فلربما استطعت أن أكشف شيئاً يوصلني إلى يقين يقطع شكوكي بهذا الرجل الغريب. وفي الليلة نفسها بعد صلاة العشاء صعدت الشارع نحو البرج، ودرت حوله، كما هي العادة. وكم كانت المفاجأة مخيبة لي، فقد كان ثمة ضوء منبعث من النافذة، وهذا يعني أن ابن ابي العاص هنا، أو ربما هو شخص على صلة وثيقة به، عدت إلى البيت، وقررت أن أبقى سهراناً، أراقب بيته من النافذة المطلة على الزقاق، لكي أتأكد من عودته إلى بيته إن كان هو حقاً من أضاء السراج في البرج. ومن أجل ذلك فاتتني صلاة الفجر، ثم طلعت شمس الصباح ولم أره عائداً إلى بيته!

وأخيراً؛ وبعد أن أخذ مني التعب مأخذاً، تمددت على الأريكة ساهم الفكر، تتقاذفني الهواجس والهموم، بين وجه فيروزة الحبيب، ووجه الطبيب ابن أبي العاص المخيف، وإذ بطرقات قوية على الباب أثارت ريبتي، فهرعت إلى النافذة لأرى الشريف الأندلسي يدعوني للنزول من فوري، ومرافقته إلى شيخ الإسلام.

انتظرنا نحو ساعة في بهو الاستقبال حتى سُمح لنا بالدخول، وكم كان مفاجئاً لي أن أصادف الطبيب ابن أبي العاص خارجاً من المكتب، في اللحظة التي دخلت فيها مع الشريف الأندلسي. اكتفينا بابتسامات مجاملة خاطفة، بينما كانت نظراته نحوي غريبة، كأنه كان يتحقق من شيء ما.

أخبرنا شيخ الإسلام بأنه قابل السلطان أكثر من مرة في الأيام الأخيرة، وكلفه بأن يتولى هو شخصياً إرسال السفارة إلى ملك فرانصة، وزوده بكتاب عليه خاتمه، ترجمه إلى الفرانصاوية الطبيب ابن أبي العاص، كونه من العارفين بلغة القوم. وقد كلفني شيخ الإسلام بمرافقة آغات البعثة بصفتي مترجماً، ونقدني خمسين قطعة ذهبية أخرى، وعيَّن سفرنا على متن أول سفينة تتوجه إلى البندقية، ومن هناك نسافر في طريق البر إلى بريش.

في الحقيقة أردت أن أحذر شيخ الإسلام من ابن أبي العاص هذا، ولكنني أحجمت في اللحظة الأخيرة، حين رأيت الشريف الأندلسي يشيد به ويمتدح سعة معارفة وإخلاصه وتفانيه. وحين غادرنا؛ أبديت للشيخ امتعاضي من تكليف الطبيب ابن أبي العاص بترجمة هذا الكتاب، فهو رجل غامض، لا يكاد يعرفه أحد، وقد يكون هو الجاسوس الذي حذرنا منه البدر بن الحكم.

قهقه الشريف الأندلسي ضاحكاً من مخاوفي، ثم قال وهو يربِّت على كتفي:

– “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ”. صدق الله العظيم.

– ربما سوء الظن من حسن الفِطَن يا شيخي، وشيخنا القرطبي يقول: “لَا حَرَجَ فِي الظَّنِّ القَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِره القُبْحُ”.

رمقني الشريف الأندلسي بنظرة “ما وراءك يا فتى؟”، فقلت:

– قلبي لم يرتح له.

– أما أنا فقلبي مرتاح، وصدري منشرح له.

أمضيت سحابة اليوم الذي سبق موعد السفر في بيت الشريف الأندلسي، نبحث مسألة بقائي في بريش بعد إنجاز المهمة، فقد أخبرني الشيخ أن رسائل عدة وصلته من بعض وجوه أمتنا الأندلسية، وخصوصاً أولئك النازلين في فاس ومراكش، وأنهم سوف يوفدون مبعوثاً عنهم إلى بريش لبحث تسهيل انتقال المهاجرين إلى موانئ فرانصة ومنها إلى الإيالات العربية التابعة لسلطنة بني عثمان مثل الجزائر وتونس ومصر وطرابلس وغيرها.

وفي اليوم الموعود أقلتنا سفينة غليون إلى البندقية في عشرة أيام، وبعد أن مكثنا فيها يومين اشترينا خيولاً فارهة للركوب، وبغالاً لحمل الأمتعة، واستأجرنا عدداً من الخدم، وسافرنا إلى بريش.

ومما منح قافلتنا عناية مضاعفة من جانب قنصل مملكة فرانصة؛ أن عربتين مخصوصتين لامرأتين من خواص الملكة ماريا التوسكانية، كانتا تتقدماننا في المسير إلى بريش، ترافقهما سرية من الحرس الملكي موكلة بحمايتهما.

كانت رحلة ممتعة رغم طولها، فقد عبرنا بلاداً شتى، وبتنا ليالينا في خيام حملناها معنا، وكنا نشتري طعامنا وشرابنا من الأسواق التي نصادفها في طريقنا. وكان موكبنا الكبير المكون من عربتي المرأتين الغامضتين، وجماعة الحرس الملكي، وقافلتنا التي تجاوز عدد رواحلها العشرين راحلة، مدعاة لتجمع الناس في الشوارع والأزقة، وعلى وجوههم علامات الذهول والتعجب من هندامنا الشرقي الغريب.

وأخيراً وبعد مسير ثلاثة أسابيع وصلنا بريش، فذهبت المرأتان نحو القصر الملكي، ونزلنا نحن، امتثالاً لنصيحة البدر بن الحكم، في نزل يديره رجل من أبناء أمتنا يدعى ميغيل هيرنانديز، واسمه العربي محمد بن حمدان، وكانت نعم النصيحة.

في اليوم الثاني على وصولنا ذهبت إلى القصر الملكي، ولم يكن بعيداً عن النزل، ووجدت وكيل التشريفات على علم بخبرنا ومحل نزولنا، فقال لي: انتظروا مني خبراً يأتيكم في أقرب وقت. ولم يمض يوم واحد حتى أتى بنفسه إلى النزل، وأخبرنا أن الملك الطيب هنري ينتظرنا في صباح الغد، فتوجهنا إليه في الموعد المضروب، وسلمناه الكتاب ومعه الهدايا والخلعة السلطانية، فقبلها بكل سرور وقرأ الكتاب بحضورنا، وفيه إعلام من السلطان أحمد بأن الأندلسيين في أي مكان كانوا، وحيثما حلوا هم من رعايا السلطنة العثمانية. وقال الملك هنري إنه أخذ علماً بهذا الاعلام، وسيصل جوابه مع سفارة سيرسلها إلى إسطنبل في أقرب وقت.

أمضيت ورفاقي الأتراك في بريش أياماً عدة، يصحبنا في حلنا وترحالنا طبيب فرانصاوي يدعى إتيان هوبيرت يعمل في بلاط الملك، زعم أنه يجيد العربية، وعندما امتحنته ببعض الأمور تبين لي جهله.

وبينما كنت مشغولاً بخوض جدالات مع هوبيرت، كان حسين آغا، كبير البعثة ورئيسها، قد شرع بكتابة موجز لوقائع الرحلة ضمَّنه وصفاً للمدينة وما تحتويه من عجائب، بغية تقديمه للسلطان أحمد. وبعد عشرة أيام عادت البعثة إلى البندقية من دوني، فيما أفرد لي محمد بن حمدان حجرة مطلة على نهر كبير غزير الدفق، تطل عليه أبراج وحصون، يسمونه السين، انتظاراً لوصول أحمد بن قاسم الحجري القادم من مراكش. ومن غريب الاتفاقات التي وقعت أثناء مقامي في بريش أن متعصباً كاثوليكياً مجنوناً اغتال الملك هنري الطيب في أحد الشوارع القريبة من النزل، فكان ذلك مدعاة لمكوثي فيه أشبه بسجين.

موسى النعنع
موسى النعنع

///////////////////

أقفال الكتب ومفاتيحها

مضى شهران ولم يصل خبر من أحمد بن قاسم الحجري، وطوال مدة انتظاري كان يتردد عليِّ في النزل المتطبب إتيان هوبرت السالف ذكره. وقد اقترح عليّ، حين رأى ضيقي من الانتظار، أن أقرأ عليه إحدى مخطوطات الكتب العربية الكثيرة التي جمعها في رحلاته إلى مراكش وفاس وتلمسان. وقد وقع اختياره على كتاب “الجامع لمفردات الأغذية والأدوية” لابن البيطار الأندلسي، وهو سِفر كبير يشتمل على مفردات غريبة تحتاج عطاراً متمرساً كي يفهم الكثير منها؛ وسرعان ما سئمت القراءة وأسئلته المكرورة، حول أمور كنت أظنه عارفاً بها. وبدأ هاجس العودة إلى إسطنبل يلح عليَّ، وزاد في إلحاحه عثوري بين ثيابي على منديل فيروزة المعطر بالناردين.

أعلمت محمد بن حمدان بأنني عازم على الرحيل في أقرب وقت، وكان هوبيرت جالساً معنا حينها، فلم يُبدِ رأياً، وانسل مغادراً ونحن منشغلان بالحديث. وفي اليوم الموعود ارتديت ثياب السفر الفرنجية، وودعت محمد بن حمدان، وأخذت مكاني في قافلة متوجهة إلى مدينة روان ومنها إلى مرسى البركة على المحيط العظيم، ومن هناك على متن سفينة غليون وجهتها النهائية جنوة.

ما إن تجاوزنا بريش نحو الغرب، ودخلنا في دغل غاص بأشجار الكستناء المعمرة، حتى عرض لنا فارسان، معهما حصان ثالث، أوقفا القافلة ونادياني باسمي العربي: عيسى بن محمد!

نزلت عن الراحلة وأنا في غاية الاستهجان من معرفتهم اسمي العربي، بينما انبرى المسافرون يزجون آيات الشكر للفارسين اللذين كشفا خدعتي لهم بملابسي الفرنجية، وأوراقي الإشبانية التي تحمل اسم خيسوس غونثالث!

لم يرد الفارسان على عبارات الامتنان، واكتفيا بإشارة للقائد، الذي أعطاهما أمتعتي، قبل أن تواصل القافلة سيرها على وقع شتائم المسافرين وتوعدهم لي بالثبور وعظائم الأمور.

طلب مني الفارسان أن أركب الحصان الشاغر، وعادا بي إلى المدينة. والحق أنني لم أشعر بأدنى خوف أو قلق من هذا “الاختطاف”، إذ كنت خليّ البال من أن يجرؤ أحد على أذيتي بعد إعلام السلطان أحمد لملك فرانصة أننا، نحن الأندلسيين، أصبحنا من رعايا سلطنته، وتحت وصايته.

توقفنا قرب بوابة دير مسوَّر شاهق الأبراج على اسم القديس جرمين. جذب أحد الفارسين عوداً مربوطاً بحبل يتصل بناقوس صغير، معلقاً أعلى البوابة، راح يقرعه بقوة. وبعد هنيهة من الوقت انفتحت طاقة صغيرة أطل منها راهب تعرف على الرجلين بسرعة، وفتح الباب من فوره.

عبرنا البوابة على متون أحصنتنا، وسرنا نحو بوابة داخلية تقع إلى الشمال من مبنى الدير الكبير. كان هناك راهب ينتظر وصولنا عند درج صغير. طلب مني أحد الفارسين أن أترجل عن صهوة الحصان، فترجلت بسرعة، وحين رآني واقفاً قال للراهب باللسان الفرانصاوي:

– ها هو السيد عيسى بن محمد.

ثم ألقى عليَّ أمتعتي ومضى هو وصاحبه عائدين نحو البوابة الخارجية.

أشار لي الراهب بأن أتبعه إلى قاعة مقبوَّة، شاهقة الارتفاع، شحيحة الضوء، وطلب مني، وهو يغادر، أن أجلس على كرسي خشبي وأنتظر.

مرت دقائق تميزت خلالها ما في القاعة جيداً. غالبها مخطوطات مجلدة بجلد سميك، مصفوفة على مناضد وكراسٍ خشبية من تلك التي يجلس عليها المصلون في الكنائس.

لفت نظري وجود حلقتين من الحديد مثبتتين بإحكام في جلدتي كل كتاب، تُداخلهما سلسلة حديد تحوز على جميع حلقات الكُتب. للمرة الأولى أرى شيئاً مثل هذا! ألم يجدوا سبيلاً آخر لحفظ الكتب من السرقة غير تكبيلها بالأصفاد؟!

حاولت عبثاً فتح الكتاب الأول. كانت السلسلة تضغط بقوة على حلقتيه المتقابلتين؛ كأن قفلاً قوياً يطبق عليهما، انتقلت إلى الكتاب الثاني؛ فكان مثل الأول. تابعت السلسلة إلى نهايتها وإذ بها تحوز على عشرين كتاباً، ضرب عليها جميعاً قفل حديدي نقش عليه رقم من أرقام اللاطين. في القاعة أكثر من مائة قفل، وهذا يعني أن عدد المخطوطات يتجاوز الألفي مخطوطة.

لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا منشغل بِعدِّ المخطوطات ومقارنة أحجامها، إنما يمكن أن أخمن بأن وقتاً طويلاً مرّ، إذ أن الشمس مالت عن النافذة الوحيدة ذات الزجاج المعشق بالألوان.

وبينما أنا منشغل بعد المخطوطات؛ تناهى إليّ صوت رخيم من مدخل القاعة يقول بالعربية:

–  أهلاً بعيسى بن محمد!

عرفته حتى قبل أن ألتفت نحوه. كان صوت المتطبب هوبيرت.

أضاف وهو يقترب مني:

– أرجو أن تعذرني على طريقة استضافتك.. لا شك أنها كانت مزعجة! والحق أنك لم تترك لي خياراً آخر.

كان الراهب الذي أدخلني إلى القاعة يقف خلفه متصنعاً اللامبالاة بما يدور بيننا من حديث نصفه بالعربية، ونصفه الآخر بالفرانصاوية.

قلت بيأس:

– أكان لا بد من ذلك؟

– أجل للأسف! كما ترى هذه الكتب تحتاج إلى تصنيف وتلخيص، فقد أنقذها الرهبان من الحرق، ولم أعلم بأمرها إلاَّ قبل شهور قليلة.

قبضت على جلد مخطوط منها، وحاولت أن أفتحه أمامه وأنا أقول:

– أنت من أمر بتكبيلها هكذا؟

تبسم بخبث، وهو ينظر إلى الراهب الواقف خلفه:

– لا؛ لست أنا؛ بل هو صاحب السعادة رئيس الدير، والمفاتيح جميعها بحوزته!

– وكم سأمكث هنا؟

– حتى تنتهي، وعندها سوف يدفعون لك أجرك، ويخلون سبيلك.

وقبل أن يسمع جوابي، قدم لي ورقة من الكاغد الفاخر، مكتوب عليها بالفرانصاوية عقد اتفاق بيني وبين رئيس الدير، ينص على قيامي بتصنيف، وتلخيص المخطوطات العربية الموجودة في هذه القاعة، وترجمة ما يرتأونه منها، مقابل مبلغ من المال يعطى لي في نهاية المهمة الموكلة لي، يحسب من إجمالي العمل، ويتفق عليه في وقته. ومن أجل القيام بهذه المهمة على أحسن وجه؛ فقد خصصوا لي حجرة لائقة من حجرات الدير، وطعاماً وشراباً وكسوة طوال مدة عملي، ومن دون ذكر أجل محدد لنهاية هذا العقد. وقد وضعوا عليّ جملة من الشروط المجحفة، أهمها أنني لا أستطيع أن أغادر قبل إنجاز العمل كاملاً. وإذا حاولت الفرار وقبضوا عليّ خارج الدير، فعند ذلك يحق لهم أن يبيعوني في سوق النخاسة. وفي نهاية العقد إمضاء وختم رئيس الدير.

قلت لهوبيرت:

– وإذا لم أقبل؛ ماذا ستفعلون بي؟

راح يفرك يديه ببطء شديد، ثم قال وقد ارتسمت على وجهه نظرة تشفٍّ:

– أظنك أعقل من أن ترفض. الرفض يماثل محاولة الفرار.

ثم تقدم نحو إحدى السلاسل وراح يتفحص قفلها:

– عندها سنبيعك في سوق النخاسة.

لم أدرك لحظتها سبب انحرافه عنّي بهذه الطريقة، فقد بدا لي صديقاً ونحن نتجول في بريش بصحبة بعثة السفارة. ربما تعليقاتي الساخرة من أسئلته، حين كنت أترجم له بعض عبارات كتاب ابن البيطار، هي السبب في هذا التشفي، وربما هو سبب آخر أجهله الآن، فأيقنت لحظتها أنني وقعت في شرك لا فكاك منه سوى بإمضاء العقد، وتنفيذه كاملاً، من دون نقصان.

خُصصت لي حجرة في الطبقة الثانية من مبنى منام الرهبان، وهي ذات نافذة خشبية عالية، مزينة بالزجاج المعشق ذي الألوان المختلفة، تطل على زاوية من زوايا سور الدير، منظرها كئيب على الرغم من أنهم زرعوها بشجيرات زينة تحيط بمرج أخضر مزدهر بمختلف ألوان الزهور.

يومها كنت أحسب زاوية السور وارتفاعه الشاهق هما سبب كآبة المنظر، أما اليوم فأظن أن الكآبة كانت نابعةً من يأسي، فقد تتزوج فيروزة في غيبتي التي لا أعرف متى ستنتهي، وأفقدها إلى الأبد.

إطلالة النافذة على سقوف الأبنية الممتدة بعيداً نحو غروب الشمس، كانت تدعو للكآبة أيضاً. تنقلب السقوف الرمادية إلى سوداء عند هطول زخات المطر. ليس هناك أكثر بؤساً من تجاور اللونين الرمادي والأخضر، عند ذلك يستحوذ الرمادي على العين ويخدعها، فترى الأخضر رمادياً! وحده الأحمر يقهر الرمادي. حين يحضر الأحمر تخجل الألوان جميعاً، وتتوارى خلفه.

في صبيحة اليوم الأول حضر الراهب نفسه الذي كان في انتظاري لحظة وصولي إلى الدير. قرع الباب بهدوء، وحين فتحت له، قال إن علينا أن نتوجه إلى مكتب رئيس الدير كي نجلب المفتاح.

ارتديت ثوبي التركي الذي أهدانيه شيخ الإسلام، وسرت خلفه حاسر الرأس. هبط الدرج الخشبي القلق مسرعاً، وأنا ألهث خلفه. بدا لي أكثر نحافة، ورشاقة، ونشاطاً مما كنت أظن. للدرج صرير ينذر بأنه على وشك التحطم. تنفست الصعداء حين فارقت قدمي الدرجة الأخيرة. ردهة المبنى طويلة، شاهقة الارتفاع، شحيحة الضوء، تعبق فيها رائحة العطن التي ذكرتني برائحة أقبية الأندلسيين في طليطلة!

تأملني وكيل رئيس الدير ملياً؛ قبل أن يفتح سجلاً فيه زيج بعشرين صفاً، في كل صف خمسة حقول، واحد للتأريخ، وآخر للوقت، وثالث لرقم المفتاح، ورابع لإمضاء الاستلام، والخامس لإمضاء التسليم عند نهاية اليوم.

ما زلت أذكر المفتاح الأول، يومها واجهت صعوبة كبيرة في تخليص السلسلة من القفل الذي غلَّفته الرطوبة بطبقة رقيقة من الصدأ. نصحني الراهب بلسان قشتالي أن أحاول تقريب الكتب من بعضها البعض، حتى أستطيع تخليص السلسلة من القفل. كانت نصيحة ثمينة شكرته عليها، فهز رأسه وتابع بالقشتالية:

– هذه الكتب نقلناها من إشبانية قبل عامين أنا وشقيقي إلى هذا الدير.

سألته بتلقائية؟

– أنت إشباني؟

تردد قليلاً قبل أن يجيب:

– نعم.

ثم أردف:

– انتقيناها من بين عشرات ألوف المخطوطات التي وزعت على أصحاب الأفران.

سألته:

– كيف انتقيتموها؟ هل تقنون العربية؟

– نعم، شقيقي يتقنها، ولكن ليس إلى درجة قراءة كتاب أدب أو فلسفة.

– وأنت؟

– أنا! ما شأنك بي؟

– لا شيء؛ محض فضول منّي أرجو أن تعذرني عليه، فقط أردت أن أسأل إن كنتم عربا في الأصل؟

نظر إليّ بريبة وقال متبرماً:

– ربما يكون أصلنا عربي، ولكننا الآن إشبان كاثوليك كما ترى!

ثم ركز نظرته إلى عيني وقال بثقة العارف:

– أنت من طليطلة أليس كذلك؟

فاجأني سؤاله:

– نعم! كيف عرفت؟

قال وقد افتر ثغره عن ابتسامة خفيفة:

– صحيح أنني ولدت في سرقسطة، وقضيت فيها طفولتي وشبابي، ولكنني عشت الشطر الأكبر من حياتي في طليطلة، وأعرف جيداً لهجة التطيليين عند تحدثهم بالقشتالية.

صمت قليلاً وعاد للتحديق مجدداً في عينيَّ وهو يقول:

– من أتى بك إلى هنا؟

باغتني سؤاله، فقد كنت أظنه عارفاً بكل شيء، فخرج الاسم من فمي على دفعتين:

– هو.. هوبيرت.

هز رأسه هزات خفيفة ثم قال:

– كنت متأكداً من ذلك! منذ خمسة شهور وهو يتردد على رئيس الدير محاولاً أن يستحوذ على المخطوطات بدعوى أن أحداً لن يفهمها غيره، ولكن الموضوع أكبر منه كما يبدو.

ثم أردف؛ وهو يطوف بين صفوف المخطوطات:

– ثمة خلاف بين كبار الرهبان، هل يحتفظون بها جميعاً أم ينتقون منها المفيد؟ الرأي الغالب أنهم سيُبقون على كتب العلوم الدنيوية، كالطب، والجبر، والهندسة، وعلم الحيل، والبصريات، ويتخلصون من كتب الدين والأدب واللغة والفلسفة.

قال كلمته الأخيرة ثم توقف وتابع قائلاً:

– لو كنا نعلم أن الموضوع سيتعقد إلى هذا الحد لما تكبدنا عناءها.

– لماذا جلبتموها إلى هنا؟

قال بشيء من الضجر:

– تربط أخي صداقة قوية بعائلة الملكة ماريا في فلورنسا، وهي التي نصحته بأن يقدم هذه المخطوطات للملك هنري هدية، لأنه كان عازماً على تأسيس مكتبة كبرى تنافس مكتبة الفاتيكان. ولكن، للأسف الشديد، لم يكن المقر الذي اختاره الملك مؤقتاً للمكتبة، وهو دير كورديليريس للرهبنة الفرنسيسكانية، مهيئاً لاستقبال هذا العدد الضخم من المخطوطات، فأمر بإيداعها هنا في دير البندكتيين هذا.

ثمة أمور غامضة لم أفهمها في القصة، فسألته:

– أرجو أن تعذر جهلي؛ فأنا لم أفهم حتى الآن لماذا أنت باق هنا؟ لماذا لم تعد إلى إشبانية طالما أنك سلمت المخطوطات؟

نظر إليَّ بحدة، ثم اقترب وقال هامساً في أذني:

– أنا محتجز هنا مثلك!

– مثلي؟

– أجل! رئيس الدير قايض شقيقي على أن أبقى هنا مع المخطوطات بدلاً منه ريثما يبتون في أمرها، وها قد مضى أكثر من عام، وأنا أنتظر حضور شقيقي أو شخصاً مثلك يفهم العربية جيداً، لكي يصنفها وأنتهي من هذا العذاب.

وجدتني أسأله بتلقائية؟

– وشقيقك أين ذهب؟ ولماذا تركك هنا؟

– هذا الأمر يكاد يفقدني صوابي، فقد ذهب منذ أكثر من عام إلى الفاتيكان، ولم يعد. ولكن؛ ويا لحظي السيء، فقد علمت أخيراً أنه يعيش الآن في إسطنبل، بعد أن اعتنق الإسلام واتخذ اسماً عربياً.

قال كلمته الأخيرة ثم صمت لحظة فتغيرت نظرته، وبدا القلق عليه، كأنه أرتكب خطأ كبيراً. فأشار إلى الكتب:

– عليك أن تنجز المهمة في أسرع وقت من أجلك ومن أجلي.. أريد أن أغادر هذا المكان كما تريد أنت.. هل اتفقنا؟

– نعم هذا ما أريده بالضبط.

استدار مغادراً، فهتفت به:

– ولكن لم تخبرني باسمك أيها الراهب.

توقف لحظة، ثم التفت نحوي وهو يقول:

– اعذرني أيها الشاب، نسيت أن أقدم لك نفسي. اسمي البادري راميرو. وأنت ما اسمك النصراني؟

– خيسوس.

هز رأسه عدة مرات، وقبل أن يعلق على اسمي، سألته:

– وشقيقك ما اسمه؟

تأملني للحظة ثم قال بنزق:

– أنت تكثر الأسئلة أيها الشاب.. عليك بإنجاز العمل سريعاً لكي تغادر.. هل فهمت؟ اهتم بهذه الكتب فقط.

قلت مباغتاً كأنني لم أسمع نصيحته:

– هل يدعى دون خيرونيمو؟

اتسعت عيناه دهشة، فأردفت:

– راميريز.

وهنا تقدم نحوي وقبض علي من تلابيبي وجذبني نحوه بقوة وهو يقول:

– من أين تعرف دون خيرونيمو؟

قلت وقد حافظت على ثباتي:

– لا أعرفه، ولكني سمعت اسمه أكثر من مرة.

– ماذا سمعت؟ وممّن؟

– أشياء متناقضة، أحدهم شاهده على متن سفينة متوجهة إلى إسطنبل، وآخر قال إن قرصاناً من بونة اختطفه وباعه في إسطنبل.

– وماذا سمعت أيضاً؟

– لا شيء آخر..

نظر إلى عيني مباشرة محاولاً سبر غوري، ثم هدأت ثائرته، وترك ياقتي وقال:

– صحيح؛ سمعنا أن قرصاناً بريرياً اختطفه قبالة رومة وباعه في إسطنبل، هو الآن في إسطنبل هذا ما تأكدنا منه.

ثم أردف:

– لكن ما يثير قلقي هو رفضه الفدية التي عرضها سفير فرانصة، وإصراره على البقاء في إسطنبل بعد اعتناقه الإسلام.

عندها تشجعت وسألت:

– هل هو طبيب؟

لم يجب عن سؤالي، بل راح ينتظر ما سأقوله، فأردفت:

– وهل اتخذ اسم محمد بن أبي العاص؟

نظر إلي ملياً ثم سحبني من يدي:

– تعال لنجلس.. يبدو أن الحديث بيننا سيطول.

جلسنا على كرسيين متقابلين في إحدى زوايا القاعة، وتحدثنا طويلاً. وإن شئتم الدقة؛ كنت أجيب عن أسئلته القصيرة، والتي تقتضي إجابات مستفيضة. وقد أخبرته بأنني كنت في إسطنبل، والتقيت بطبيب أندلسي يدعى ابن أبي العاص، وأن لدي شكوكاً كبيرة بأن يكون هو نفسه دون خيرونيمو راميريز. فأكد لي أنه لا يعرف الاسم العربي لشقيقه بعد إعلان إسلامه، رغم أنه لا يستبعد أن يكون قد قدم نفسه كطبيب، كونه تعلم مبادئ الطب في شبابه. ووجدتني أحدثه عن فيروزة وخشيتي من فقدها إن طال مكوثي في الدير، فكان هذا الخبر مبعث تفاؤل كبير بالنسبة له، إذ أدرك أن توقي للخلاص يفوق توقه.

////////////////

البادري راميرو

لم يدر بيني وبين البادري راميرو أي حديث بعد ذلك، كان يكتفي باصطحابي إلى مكتب الوكيل مرتين في اليوم، الأولى صباحاً لأستلم المفتاح، والثانية مع غروب الشمس لتسليمه. وبين الحين والآخر كان يدخل إلى القاعة؛ يتأمل صفوف الكتب، ويقارن بين المنجز وما ينتظر الإنجاز، فيهز رأسه هزات حفيفه، ثم ينصرف بهدوء.

والحق أنني لم أقف على سبب تحفظ الأب راميرو وزهده في الكلام. كان من العسير عليّ أن أعرف ما كان يدور في خلده، كأن الكلام خطيئة يخشى أن يقترفها، أو ضوء كاشف يخاف أن يفضحه! ولكن؛ بعد شهور قليلة من رؤيته بشكل يومي، بت قادراً على فهم قسماته، وحركات يديه، وقراءة نظراته التي كان يقول فيها كل شيء، من إشعاع السعادة وهو يحصي حقول الزيج الممتلئة بإمضائي، إلى سحابة الغضب المتلبدة بين عينيه بسبب إبطائي في الإنجاز لسبب يخصني ولا يفهمه. أما أقصى درجات الرضا فهي تلويحة بيمناه وهو يتوجه إلى مخدعه من دون التفاتة إلى الوراء.

كنت أراجع المخطوطة صفحة صفحة، وألخص بلسان اللاطين، على أوراق سميكة لا يتجاوز حجمها راحة الكف، وصف كل مخطوطة وفحواها، ثم أصنفها في واحد من الأقسام العديدة التي اقترحتها، وهي: قسم للطب وعلم الحيل والجبر، وقسم ثانٍ للخيماء، وقسم ثالث للفقه والفرق المذهبية، ورابع للتاريخ والتراجم، وخامس للغة والأدب.

في بعض الأحايين كنت أعيد طلب أحد المفاتيح أكثر من مرة في الأسبوع الواحد، بسبب صعوبة قراءة حروف بعض الكتب، إذ أنني لم أكن معتاداً على أشكال الحروف المشرقية، وعلى الأخص منها حروف الجيم، والحاء، والخاء، والراء، والزاي، والسين، والشين، والتاء المربوطة وهاء آخر الكلمات. لقد احتجت أياماً عدة لأدرك أن المَدَّة بين حرفي اللام والراء هي حرف سين في كلمة “السر”، وأن الانحناءة القصيرة المائلة، في نهاية المَدَّة الطويلة، هي تاء مربوطة في كلمة السياسة!

ولم يطل الوقت حتى اعتدت على قراءة النصوص المشرقية، بجميع حرفها وأشكال نقاطها، من الشرطة الصغيرة التي تعادل النقطتين، إلى رقم الثمانية المشرقي الصغير فوق الثاء بدلاً من النقاط الثلاث.

حين كنت ألحظ نظرات الأب راميرو المستنكرة، وهو يراني أعيد طلب المفتاح ذاته أكثر من مرة، كنت أقول له، وأنا أبتسم معتذراً، حتى من دون أن يسألني، بأنني أحتاج إلى وقت أطول كي أُلمَّ بالكتاب إلماماً يسهِّل عليّ تلخيصه، وكعادته كان يكتفي برسم امتعاضه على قسمات وجهه، من دون أن يعلق بكلمة واحدة.

معظم الكتب من مقتنيات ملوك غرناطة، أو وزرائهم، أو من مكتبات الفقهاء المعروفين في وقتهم، والذين ثبَّتوا أسماءهم في الصفحات الأولى أو الأخيرة من تلك المخطوطات.

كنت أعمل بهمة الجاحظ، ودأب ابن قتيبة، وتمحيص ابن حزم. أقضي جُلَّ وقتي في القاعة التي بدأت أعتادها حتى غدا المكوث فيها مبعث الراحة الوحيدة لروحي المتعبة، أما رائحة كتبها العطنة فأصبحت عندي أزكى من الطيوب العربية كلها. وكم تمنيت أن يقبل رئيس الدير طلبي بنقل سرير نومي إليها حتى أواصل الليل بالنهار في مطالعة المخطوطات، ولكنه رفض الطلب وراضاني بقبول إحضار وجبة الغداء إلى القاعة لأتناولها بين الكتب وأنا أعمل.

أمضيت الخريف والشتاء، وبلغت ربيع سنة إحدى عشرة وستمائة وألف مسيحية، ولم أبارح الدير. ومع ذلك لم أنجز سوى عُشر المخطوطات. وكان هوبيرت يزورني في الأسبوع الواحد مرتين أو ثلاث مرات، ينسخ الملخصات التي ألصقتها على جلد المخطوط ، ويراجعني في بعض الأمور التي لم يفهمها، فيطلب مني إعادة صياغة الملخص من جديد، فكنت أفعل من دون مجادلة. كنت أريد أن أنهي عملي بسرعة وسلام.

وشيئاً فشيئاً تعلمت الكتابة بفرانصاوية بَريش، فهي تشبه إلى حد كبير القشتالية واللاطينية. وأقرب اللغات إليها الإيطاليانية، ولكنها تختص بمفردات دخلت إليها من لغات الألمان، إضافة إلى تعقيد لم أستطع فهمه البتة، وهو بتر الصوامت المسبوقة بحروف صوتية!

في الأيام المشمسة الدافئة، وهي قليلة على كل حال، كان هوبيرت يطلب مني أن نتجول بين أشجار الحديقة، نتجاذب أطراف الحديث حول بعض ما يرد في المخطوطات، وعلى رأسها “القانون في الطب” للشيخ الرئيس ابن سينا؛ فقد كان هذا السِّفر يحظى بعناية غير عادية من جانبه، كأنه كان يريد أن يفهم كل كلمة، بل كل حرف فيه، وقد اضطررت إلى ترجمة الجزأين الثاني والرابع من هذا السِّفر الضخم بناء على إلحاحه الشديد، لأنه لاحظ اختلافاً كبيراً بين النسخة المترجمة التي كانت بحوزته، وبين ما كنت ألخصه له. ونتيجة إلحاحه ذاك وافق رئيس الدير على أن أتفرغ للعمل على هذين الجزأين طوال فصل الصيف، فكنت أصل الليل بالنهار حتى أنجز العمل بأقصى سرعة ممكنة، وقد منحني الرئيس استثناء من استلام وتسليم المفتاح طوال هذه المدة لأنه مفتاح واحد لا يتغير!

كان الأب راميرو يراقب ذلك كله، وسحائب الغضب تتلبد بين عينيه! ما إن يرى هوبيرت داخلاً إلى القاعة، حتى ينسل مغادراً، متخذا طريقاً ملتويةً نحو الباب كي يتجنب إلقاء التحية عليه، بل تناهت في إحدى المرات إلى سمعي شتيمة قشتالية مقذعة، تلفَّظ بها همساً وهو ينسحب إلى زاوية معتمة من زوايا القاعة، قبل أن ينصرف مسرعاً.

أما هوبرت فلم يكن يعبأ براميرو، ولم يعلق في يوم من الأيام أي تعليق بشأنه، وكأنه غير موجود، كان اهتمامه منصباً على المخطوطات فقط، ولا شيء آخر سواها. وكلما رآني يلح عليَّ، من دون كلل أو ملل، بدعوى إسداء النصيحة لي، بأن أركز جهودي على مخطوطات الطب وعلم الحيل، والجبر، والهندسة والمقابلة، وأن أمر على مخطوطات الفقه والأدب والتاريخ مرور الكرام، لأن ذلك سيختصر مهمتي، ويسرِّع بإطلاق سراحي.

كنت مؤمناً بأن حريتي لا تعني لهوبيرت شيئاً، ونصيحته لي إنما تصب في مصلحته هو، فهي أقرب إلى التهديد والوعيد، خصوصاً وأنه كان يؤكد على عبارة “إطلاق سراحي”، مذكراً إياي بأنني أشبه بأسير الحرب. ومع ذلك لم أكن أعبأ بتهديداته أو “نصائحه”، وكنت أسترسل في قراءة مخطوطات التاريخ والتراجم، وأمحِّصها وأعيد قراءة بعض فقراتها مرات عدَّة.

مرت أيام لم يحضر البادري راميرو كعادته، فحسبت أنه متوعك بسبب تقلب الجو، وحين طالت غيبته أكثر من أسبوع، سألت عنه الراهب الشاب المكلف بإحضار الطعام إلى القاعة، فأخبرني، وهو يعتذر بشدة، أن البادري دون راميرو غادر الدير منذ أيام، وأنه ترك عنده، يوم مغادرته المفاجئة، كتاباً لي نسي أن يسلمني إياه بسبب انشغالاته الكثيرة، وبعد ساعة، عندما أتى ليأخذ آنية الطعام، حمله لي مكرراً اعتذاراته على النسيان غير المقصود.

فضضت الكتاب المكتوب بالقشتالية، وبدأت بقراءته على عجل، وكان نصه مفاجئاً في وُدِّه، إذ كتب يقول:

“إلى خروفنا الضال خيسوس

عندما تستلم كتابي هذا، أكون في طريقي إلى مدينتنا الحبيبة طليطلة، لم أتمكن من رؤيتك لأن قرار تسريحي من المهمة أتى مفاجئاً وسريعاً ولم أتوقعه. صحيح أنني سبق وألححت على قدس رئيس الدير الموقر بأن يتركني في حال سبيلي بعد أن تيقنت من أنك قادر على القيام بالمهمة لوحدك، ولا حاجة لبقائي مع المخطوطات، غير أنني لم أتوقع أن يستجيب لطلب رهبنتنا الجزويتية بأن يخليني من المهمة، ويرسلني سريعاً إلى طليطلة لأمر يتعلق بخدمة جديدة يريدونني من أجلها بطلب من قداسة سيدنا البابا شخصياً.

أتمنى من كل قلبي أن تنجز المهمة في أسرع وقت ممكن، رغم أني بدأت أشك في ذلك بسبب تسلّط هوبيرت عليك وعلى المخطوطات، وكأنكما ملك شخصي له. أتمنى أن تضع حداً لهوبيرت وجشعه ومحاولة استئثاره بالمفيد من المخطوطات لمصلحته الشخصية، فإن سارت الأمور على هذا المنوال، وواصلت الاستجابة لطلباته؛ فلن تكفيك تسع سنوات أُخر.

أتضرع إلى الرب بأن تكون عودتك إلى إسطنبل سريعة لكي تتزوج الفتاة التي أحبها قلبك. واسمح لي أيها العزيز أن أطلب منك هذا الطلب الملحاح إن أتيحت لك هذه العودة السريعة، طلبي هو أن تبحث عن شقيقي دون خيرونيمو راميريز، وأن تحيطه علماً بأنني عدت مؤقتاً إلى مقر رهبنتنا الجزويتية في طليطلة، وأنني أنتظر منه رسالة يخبرني فيها بما جرى معه، مهما كان الوضع، فأنا أعيش متقلباً على جمر القلق والانتظار، حتى يأتيني خبر منه.

سامحني أيها العزيز إن بدر مني ما يزعجك طوال المدة السابقة، وسوف أصلي من أجلك بأن تتكلل مهمتك بالنجاح، وأن يطلق سراحك في أسرع وقت ممكن. 

الخاطئ راميرو راميريز”.

أثار الكتاب شجوني، وأعادني إلى أيامي الأولى في هذا الدير، حين كان وجه فيروزة الحبيب مؤنسي الوحيد من وحشة المكان وكآبته، ورائحة الناردين المخزَّنة في منديلها، وإن بدت أقل نفاذاً، سلوتي ودافعي لأن أصل الليل بالنهار حتى أنتهي من المهمة وأعود إلى إسطنبل وأدركها قبل أن يقترن بها غيري.

رحت أتأمل عامي المنصرم وقد مضى سريعاً كأنه أحد منامات آخر الليل. كانت مشاعري حيال انقضائه السريع متناقضة. في البداية كنت أظن أن الأمر لن يتعدى تصفح مقدمة المخطوط وكتابة ملخص صغير يصفها ويحدد موضوعها، ولكنني وجدت نفسي متورطاً في قراءة مخطوطات بكامل أجزائها، لأن موضوعها جديد عليِّ. وها قد مضى عام ويزيد، ومازلت في العشر الأول من المهمة، ولا أدري كم سيستغرق العمل على باقي المخطوطات إن واصلت اللهاث وراء فضولي لمعرفة المزيد مما كنت أجهله من تواريخ، وعلوم، وآداب عربية.

أشد ما أثار حيرتي انقضاء هذا العام سريعاً رغم حالة الانتظار التي دخلتها منذ يوم وصولي الأول إلى الدير؟ كنت أعرف تمام المعرفة أن الانتظار يجعل الوقت ثقيلاً كالرصاص، تعبر أيامه ولياليه بصعوبة بالغة كأنها سنوات. سبق لي أن اختبرت هذا الأمر خلال الشهور الخمسة التي أمضيتها في إسطنبل وأنا أبحث عن دون خيرونيمو. لقد مرت عليّ تلك الشهور وكأنها دهر كامل، بل كنت أشعر في بعض الأحيان بأنني ولدت في إسطنبل، وأنني لم أبارحها في يوم من الأيام، وما ذكرياتي في طليطلة سوى منام عابر من دون ملامح ولا تفاصيل.

ما الذي يجعل الوقت ثقيلاً بطيئاً في إسطنبل إلى هذا الحد؟ وما الذي يجعله سريعاً هنا في هذا الدير كأنه ومضة حلم؟ لا شك أن تقسيمه إلى ساعات، وأيام، وأسابيع، وشهور، وسنوات فيه الكثير من المجاز، أما الحقيقة فهي تنبع من ذواتنا وإحساسنا به. لقد بت أفهم اليوم قوله عزَّ وجلَّ: “ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ”. الزمن بمنطوق القرآن الكريم متغير الطول بين السموات والأرض، فاليوم في السموات يعادل ألف سنة أرضية، وإن كان الأمر كذلك؛ فما المانع إذن في أن يكون يوم إسطنبل بمائة يوم من أيام بريش؟

قبل كتاب البادري راميرو مرَّ عليّ وقت كدت أنسى معه وجه فيروز الحبيب،  وسألت نفسي:

– ما الذي أنسانيه هكذا؟

لا شك في أنه سيل الأخبار والعلوم العرم الذي كان يتدفق عليَّ من صفوف المخطوطات. إذن؛ فالقراءة هي التي تجعل الوقت يمضي سريعاً، والتفكر هو الذي يجعله بطيئاً مملاً. أثناء مكوثي في نُزل ابن حمدان، منتظراً أحمد بن قاسم الحجري، كان الوقت عبئاً ثقيلاً يعذب روحي، ويجعلني أبحث عن خلاص في مكان آخر. يومها حزمت أمري، وقررت اتخاذ إسطنبل وطناً، فثمة بيت ينتظرني، وأمل بأن تجمعني الأقدار بفيروزة مرة أخرى، وأكمل حياتي معها في بيت واحد كزوجين على سنة الله ورسوله، ولكن الأمور بدأت بالتغير مع اعتيادي على قاعة المخطوطات، بقبتها العالية المزينة بصورة الملاك جبريل وهو يبشر السيدة العذراء بحملها، وأقواسها المتناظرة التي تسندها أعمدة المرمر المُجزَّع، ورائحتها العطنة، وإضاءتها الشحيحة.

في اليوم التالي لكتاب البادري راميرو عادت أموري إلى سابق عهدها، فاستأنفت العمل على ترجمة الجزء الرابع من كتاب “القانون في الطب”، ولم يمض شهر حتى وصلني كتاب ثان منه. عندما فضضته صدمني نصه المكتوب بـ“الخميادو”.. ما الذي يخفيه البادري راميرو ياترى؟ وبدأت بقراءة الكتاب:

“إلى عيسى!

أحييك أيها العزيز من طليطلة وأود أولاً أن أجيب عن تساؤل يشغل بالك الآن: نعم أنا أجيد العربية قراءة وكتابة، وكما ترى أجيد كتابة الخميادو! وكنت قادراً على فهرسة وتصنيف هذه المكتبة التي تعمل عليها الآن، ولكنني كنت أعرف أن الأمر سيستغرق مني سنوات وسنوات، كوني كنت واثقاً من أنهم سيطلبون ترجمة بعض المخطوطات، فتظاهرت بعدم المعرفة، ومع ذلك أمضيت ما يقارب العامين، ولذلك فأنا متعاطف معك أشد التعاطف، وأدعوك أيها العزيز لأن تجد حلاً ما، وتنتهي من هذا الفخ بأسرع وقت ممكن، فهوبرت لن يتركك حتى تترجم له جميع الكتب التي يحتاجها.

وددت أن أخبرك بأن رهبنتنا قررت إرسالي في مهمة إلى جزر الهند الشرقية، وسوف أماطل في تنفيذها ما استطعت إلى المماطلة سبيلاً، وأظن بأنني أستطيع أن أماطلهم عاماً أو يزيد.. فإذا منَّ عليك الرب بالخلاص، ونجحت في لقاء شقيقي دون خيرونيمو في إسطنبل، أرجو أن تخبره بموضوع مهمة جزر الهند الشرقية، وبأن يرسل كتاباً لي إلى مقر رهبنتنا في رومة، حيث سأكون هناك، وإذا فات الأمر وسافرت إلى الهند الشرقية، فهم سيوصلونها إليّ بطريقتهم.

أرجوك يا عيسى أن تسرع في تخليص نفسك، فمصير حياتي متوقف على كتاب شقيقي، إن كنت سأواصل ما أنا فيه أم ألتحق به في إسطنبل وأفعل ما فعل!

اعذرني أيها العزيز فالأمر جد مهم لي.

الخاطئ راميرو”.

أذهلني كتاب البادري راميرو عما كنت فيه، ودفعني نحو كهف حالك الظلمة؛ تتردد فيه أصداء أسئلة لا تنتهي ولا تنتظر إجابات.. تُرى ما هو اليقين؟ ما كنهه؟ ماذا يعني؟ ما الذي يدفع راهباً جزويتياً أمضى حياته في الصوامع للتفكير بتغيير دينه؟ ما الذي جعلني متيقناً من أن راميرو كان يتمتع باليقين؟

في تلك الأيام؛ بدا لي أن اليقين الوحيد في هذه الدنيا هو اللايقين!

//////////////////

الخروج من الدير

كان يوماً صيفياً، وكنت أتفيأ ظل شجرة كستناء عملاقة غربي الدير، أتأمل روعة الوجود وطرافته في فراشات صغيرة ترتجف أجنحتها الرقيقة وتنسلُّ من أوراق الشجرة المائلة إلى صفرة ما قبل الخريف، يا الله، كيف يمكن للإنسان أن يسهو عن جمال الكائنات التي تشاركه سكنى عالمه، كائنات صغيرة ضعيفة، لوجودها مغزى عميقاً، رغم سرعة زوالها.

أخرجني مما أنا فيه صوت خاطبني بالعربية:

– عيسى أنت هنا؟

للمرة الأولى أسمع العربية منذ زمن طويل! التفت لأرى المتكلم، كان محمد بن حمدان واقفاً إلى يميني يحدق فيَّ بخوف وذهول، وبجانبه الراهب العجوز المكلف بملازمتي.

نهضت بسرعة لكي أسلم عليه، فاحتضنني بقوة، وقال وهو يغالب دموعاً ترقرقت في عينيه:

– حسبناك مت.

لم أعلِّق بحرف، ففي تلك اللحظة لم أعِ سبب ظنه بأنني متّ، ولا من هم أولئك الذين يشاركونه مخاوفه، حين تكلم بصيغة الجمع (حسبناك!). راح يتأمل وجهي، وشعري الطويل، ولحيتي التي وصلت إلى صدري، كأنه يتحقق من أن الشخص الواقف أمامه هو نفسه من كان يبحث عنه.

قلت ببرود:

– كم مضى مذ غادرت النزل؟

افتر ثغره عن ابتسامة خفيفة، وشعَّت عيناه بالأمل، فقد أيقن بأنني أدرك ما يدور حولي.

قال بحماس:

– أربع سنوات..

ثم قبض على يدي وسحبني لأسير معه وهو يقول:

– هيا بنا لنغادر هذا المكان.

يا إلهي! أربع سنوات مضت مثل حلم عابر؛ بالكاد أتذكر نتفاً من تفاصيلها. كيف مضى الوقت سريعاً هكذا؛ كيف؟! في الطريق إلى المبنى، حاولت أن أستجمع شتات ذهني، وأن أرتب ما استطعت تذكره، ترتيباً يعينني على فهم ما جرى منذ يوم وصولي إلى الدير وحتى هذه اللحظة، فعجزت. كل ما تذكرته هو أيام متشابهة بين قاعة الكتب وحجرتي، وسلاسل وأقفال تُفتح وتُغلق، ثم تُفتح وتُغلق، ثم تفتح وتغلق، ووجوه تعرض صباحاً ومساء في طريقي إلى ديوان رئيس الدير، أو قاعة الكتب، تنظر إليَّ بريبة وتمضي، من دون أن أنجح في تمييز وجه عن آخر.

حين وصلنا إلى المبنى حيث حجرتي، انتبهت إلى أن ابن حمدان كان يكلمني من دون أن أصغي له، ويسألني أسئلة لم أجبه عنها. فجأة أوقفني أمام باب المبنى:

– ما بك؟ لم تجبني على شيء مما سألتك؛ هل تركوا لك أمتعتك حين ساقوك إلى هنا؟ هل تود أن تأخذ معك شيئاً إلى النزل؟ هل تريد منهم أي شيء؟

قلت بنبرة باردة:

– لا أريد إلا جراب أمتعتي؛ ففيه كل ما يهمني.

رافقني الراهب العجوز إلى حجرتي لأحضر أغراضي، وطوال سيري خلفه في ردهة المبنى؛ كان الرهبان ينظرون إليّ بإشفاق، وعلى وجوههم علامات الرضا، فالظاهر أن حالي في الفترة السابقة لم يكن يعجبهم، وقد أسعدهم خبر إخلائي من الدير أخيراً، بعد أن يئسوا من عودتي إلى سابق عهدي كما رأوني في عامي الأول، شاباً نشيطاً، نظيفاً، مقبلاً على العمل بانتظام لا تشوبه شائبة.

والحق أن الرهبان كانوا في منتهى الظرف والدعة معي، على الرغم من أنني كنت أميل للانزواء تجنباً للمماحكات اللاهوتية العقيمة، وكنت أكتفي بعبارات المجاملة متذرعاً بضيق الوقت، حين يحاول أحدهم فتح حديث معي. والأحايث في غالبها حول الإسلام، وسيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وما يُبث حولهما من أباطيل وافتراءات صادرة عن قلوب مريضة.

هيأ ابن حمدان لي حصاناً، فقد كان حريصاً على أن أرافقه إلى النزل بشكل لائق، وقبل أن أمتطي ذلك الحصان المطهَّم المزين بسرج تونسي باذخ، ألقيت نظرة أخيرة على الدير. ثمة عيون تتطلع إلىَّ من خلف النوافذ المعتمة، كأن أصحابها يخشون أن يراهم أحد متلبسين بالحزن على فراقي. لم يتغير شيء في الدير مذ دخلته أول مرة، ولكنه بدا لي ذلك اليوم؛ أقل ضخامة مما كنت أراه في السابق، وجدرانه أقل ارتفاعاً وأكثر اتساخاً. أما الرياح العابثة بأشجاره، فكان هريرها أعلى بدرجات من أيّ مرة سابقة. بل؛ بدا لي ذلك الهرير شبيهاً بنشيج أمهات يندبن أولادهن.

امتطيت الحصان بصعوبة بالغة، فقد أفلتت قدمي من الركاب مراراً وكدت أقع أرضاً؛ لولا يد الراهب العجوز المكلف بملازمتي. وما إن غادرنا بوابة الدير؛ ووصلنا إلى الشارع المفضي إلى النهر، حتى أصابني دوار مادت معه الأرض وآخت السماء.

سألت ابن حمدان أن نتوقف قليلاً. هدأنا في ظل شجرة حتى ذهب الدوار واستجمعت قواي من جديد، ثم سرنا الهوينى مع جموع السائرين؛ نجر حصانينا خلفنا بتؤدة، في شارع يظلله صفان لنوعين من الأشجار، شجر الكستناء المعمر، وشجر البلوط بجذوعه الضخمة.

تغير المنظر ونحن نبتعد عن الدير. بدت ألوان حجارة الأبنية أكثر نصوعاً، وأوراق الأشجار أكثر اخضراراً، وحتى ماء نهر السين، بدا لي وهو يجري تحت الجسر الجديد المسمى “بونت نوف”، أزرق أزرق كأنه قطعة من بحر عميق.

انتبهت إلى جرحٌ غير ملتئم في سبابتي اليمنى راح يؤلمني فجأة، كأنه شُطِبَ للتو. لا أذكر متى جُرحت ولا كيف، ولكن؛ من المؤكد أن الأمر نجم عن قرصة بحديد القفل، أو السلسلة الأخيرة التي حاولت فتحها قبل يومين ولم أنجح!

أوصلني ابن حمدان إلى حجرتي القديمة في الطابق الثاني. كانت كما غادرتها قبل أربع سنوات، لم يتغير فيها شيء البتة، حتى قماش الفراش والأغطية، والستارة المجلوبة جميعها من تونس. وفور استلقائي على السرير، بدأت أتشمم رائحة نتنة تنبعث من ثيابي وجسدي. لا أذكر آخر مرة استحممت فيها! وفجأة انتابتني حكة شديدة في جلد رأسي انتشرت إلى باقي جسدي، فأيقنت لحظتها أن القمل استوطن شعري وبات ينهشني نهشاً.

في حمام النزل المبني والمزين على الطريقة الأندلسية، استشعرت الماء مجدداً كما في مرات أخرى في أمكنة أخر. صم ضجيج الماء أذنيّ، إنما هو ضجيج منعش. طال جلوسي على المقعد الخشبي الخفيض. يا الله… ها إن الماء يحيي من كان ميتاً.. اغتسلت بسعادة، وحلقت شعري كله حتى كادت الشفرة تكشط الجلد. وبعد أن برؤت من القمل؛ تسوكت، وتعطرت، وعدت إلى حجرتي مرتاح البال لأنام نوماً عميقاً بلا منامات، ولا كوابيس، ولأصحو في فجر اليوم التالي على صوت طرقات ابن حمدان على الباب يدعوني للصلاة.

استقبلنا صلاة الفجر جماعة مع بعض النزلاء الأندلسيين، وبعد مجلس ذكر، جلسنا نتحدث وأمامنا مائدة فطور عجيبة. سألني ابن حمدان في حديثنا الطويل ذاك؛ عن كل صغيرة وكبيرة وقعت لي، منذ أن غادرت النزل. فأخبرته خبراً مختصراً قدر ما استطعت الاختصار، أما هو فاسترسل في إحاطتي بكل ما حصل، منذ يوم غيابي وحتى عثوره علي أمس، ولم يفوت كبيرة ولا صغيرة.

ومما جرى من حديثه الطويل، أن أحمد بن قاسم الحجري حضر بعد ثلاثة شهور من مغادرتي النزل وسأل عني، فأخبره ابن حمدان أنني غادرت إلى إسطنبل. وكان الحجري يحمل كتب توكيل من الأندلسيين الذين نهبهم ربابنة السفن الفرنجية المستأجرة لنقلهم إلى بلاد المغرب، بعد نفاذ مرسوم طاغية إشبانية فيليب بن فيليب.

وكما جرى معي؛ وقع الحجري بين براثن هوبيرت وهو يبحث عمن يوصله إلى الملكة الوصية ماريا التوسكانية، فحاول هوبيرت مساومته على التوسط له لدى الملكة، مقابل تدقيقه لترجمات كان يقدمها له، وهي في حقيقة الأمر ترجماتي التي كنت أنجزها له في الدير. ولكن الحجري لا يؤخذ على حين غرة، وكان أكثر دهاء من أن يسلم قياده لهوبيرت، فعثر على طريقة للوصول إلى حاشية الملكة، ونجح في مسعاه عندها، فأعطته كتب توصية للقضاة، ومنهم القاضي المكلف بأمور الأندلسيين المقيم في مدينة برضيوش، بأن يحكموا بالعدل في قضايا النهب التي تعرض لها الأندلسيون، وأن يعيدوا الحقوق لأصحابها، مؤكدة عليهم بعدم التهاون في الأمر، كون أحمد بن قاسم مبعوثاً شخصياً للرجل الكبير، أي سلطان المؤمنين في إسطنبل، كما يسمونه.

ومع ذلك، وبسبب إلحاح هوبيرت، تمنَّت الملكة على أحمد بن قاسم أن يعلمه حروف الرمز وقيمها العددية، لكي يفهم أموراً مستعصية عليه، تتعلق بديوان سلطان مراكش، ولكن أحمد بن قاسم، المعروف بصبره على المماحكات، وولعه بالجدالات اللاهوتية، جعل هوبيرت يعاف لقاءه، ويتمنى أن يفارقه في أقرب وقت، ولذلك تركه يمضي في حال سبيله قبل أن يتعلم قراءة الوفوق العددية المشهورة في بلاد المغرب.

مضى أحمد بن قاسم إلى برضيوش للقاء قاضي الأندلس، وهناك نجح في استخلاص ما قيمته ألف أوقية فضة بحساب المغرب، من الربابنة الناهبين، أرسلها إلى موكليه الأندلسيين المنهوبين، فوزعت عليهم كلٌّ بحسب حصته، ثم بعد مدة أمضاها في الجدالات مع قاضي الأندلس وقس المدينة، توجه في قارب نهري إلى مدينة طولوث وحصَّل بعض الحقوق من قاضيها، ولم يفته أن يجادل رجال الكنيسة فيها.

وكان الحجري يعلم أن قضاة فرانصة مكرهون على تلبية توصية الملكة، ولذلك قرر التماس المعونة من أمير بلاد فلانضس المقيم في مدينة أَلَهايَه، لنقل الأندلسيين العالقين في بلاد فرانصة، لعلمه أن الفلامنك كانوا يكنون العداء لإشبانية والكاثوليك على وجه العموم، كونهم أتباع نحلة قلبن ولوطري، ويميلون إلى العطف على الأندلسيين، فسافر إلى بلاد فلانضس بحراً، ومن هناك أرسل كتابه الأخير لابن حمدان يحيطه علماً بما وقع له خلال عام من التنقل بين فرانصة وبلاد فلانضس، قبل أن يعود إلى بَريش من جديد ويمكث فيها عاماً ونصف العام ينتظر وصول كتب السلطان أحمد التي يأمر فيها باستقبال الأندلسيين المطرودين من بلادهم، في إيالات الجزائر، وتونس، وطرابلس، ومصر، وتقديم يد العون لهم من جانب ولاته.

وأخبرني ابن حمدان أن أسئلة الشريف الأندلسي عنّي لم تنقطع يوماً، وأنه كان يلح عليه في كل كتاب أن يبحث عن أي خبر يقود إلى معرفة مصيري. أما الحجري فقد سافر إلى أَلَهايَه مرة أخرى قبل شهور قليلة، لنقل رسائل وصلته من السلطان أحمد إلى أمير فلانضس، ومن أَلَهايَه أرسل كتاباً إلى ابن حمدان يطلب فيه مساعدة امرأة، يهمه أمرها، في السفر من بريش إلى مسترضام، بمنتهى السرية، وإرسالها إلى ربان سفينة أميرية بعينه.

وقع كل ذلك قبل أن يزور هوبيرت ابن حمدان ليخبره بأنه مزمع على السفر إلى مدينة أورليان للاستجمام، بعد أن أصابه مرض غامض، ولكي يحيطه علماً بأنه علم قبل أيام قليلة باحتجازي في دير القديس جرمين، ويطلب منه أن يتكفلني أمام رئيس الدير لأنني فقدت عقلي!

إذن؛ هوبيرت هو الذي أخبر ابن حمدان عن مكاني قبل سفره، وهذا الأمر ما زال يحيرني حتى اليوم، أهو صحوة ضمير مفاجئة؟ أم تلبية لطلب رئيس الدير بالتخلص مني بعد أن يئس من عودة وعيي؟! لقد فوجئ ابن حمدان حين أخبرته بأن هوبيرت هو الذي أوقع بي. لم يصدق أنه كان بارعاً في إخفاء فعلته أربع سنوات من دون أن تفلت منه عبارة صغيرة تفضحه، وهو يرى انشغالهم بالبحث عني.

بعد أيام استعدت فيها صحتي، ونشاطي، وصفاء ذهني، سألني ابن حمدان عن خططي لأيامي المقبلة، وما إذا كنت مزمعاً على السير إلى إسطنبل من جديد؟

وللحق؛ باغتني السؤال، إذ لم أكن أملك جواباً عليه لحظتها، فطلبت مهلة كي أفكر.

في مساء ذلك اليوم؛ جلست في حجرتي أقلب الأمور على وجوهها، وتيقنت من أن إسطنبل لم تعد هدفي الأول، فمن رابع المستحيلات أن تبقى فيروزة عزباء حتى اليوم. ثم هَبْ أنها لم تتزوج؛ ماذا أقول لها بعد هذه السنين؟ وهل ستتذكرني حقاً إن ذهبت لأطلب يدها للزواج؟ هذا ما يخص فيروزة، أما دون خيرونيمو راميريز؛ فهل سأصل إليه بهذه السهولة؟ وإذا وصلت ماذا سأفعل به؟ أقتله؟ وإذا قتلته؛ ما يدريني أنه كان صادقاً في إسلامه، وتاب توبة نصوحاً؟ ثم؛ ألا يُعدّ سعيي للانتقام منه معاندة لأمر الله؟ ألم ينه شيخنا ابن عربي عن الانتقام؛ لأن الله عز وجل خلق العالم بالرحمة لا بالانتقام؟

ستمر أيام، من المراجعة، والتأمل، والتفكير، استخرت معها قلبي ما رجحه عقلي، وأخبرت ابن حمدان أنني متردد في الذهاب إلى إسطنبل، وهي الآن عندي، مثلها مثل أيّ مدينة أخرى من مدن المسلمين، مثل مراكش، والجزائر، وتونس، ومصر.. ولو أن قلبي بات يهفو إلى دمشق الشام، فلربما فتح الله فيها عليّ كما فتح على محي الدين!

تبسم ابن حمدان وهو يسمع اسم محي الدين، ولا أعرف بماذا فكر لحظتها، ولكنه قال فجأة:

– في كل الأحوال؛ وأياً كان قرارك، سأرسلك إلى مسترضام في قافلة تسافر فيها امرأة أوصى بها أحمد بن قاسم الحجري، حتى لا تقع في الأسر مجدداً، وسأوصي ربان السفينة الفلامنكية بأن ينزلك حيث تشاء.

بعد أسابيع قليلة من حديثنا هذا، نجح ابن حمدان في الوصول إلى قافلة تجارية متوجهة إلى بلاد فلانضس، وسلم قائدها كتاباً ممهوراً بخاتم أمير الفلامنك، وأفهمه ما ينبغي عليه فعله بشأني وشأن المرأة، فارتديت ثياب تاجر ثري، وامتطيت الجواد المطهم الباذخ، وانضممت للقافلة المكونة من ثلاثة وعشرين مسافراً فلامنكياً على أحصنتهم، معظمهم من التجار، وعربتين للنساء تجرهما الخيول، وخمس عربات للبضائع.

ومضينا شمالاً نطوي البلاد والحقول والمزارع، في طريق بعضها معبد بالحجارة، وبعضها موحل، يفصل بين مراحلها محطات للمنامة وشراء الحوائج. ولم يوقفنا أحد من قطاع الطرق، ولا من جنود فرانصة طوال رحلتنا، بسبب رفعنا علم بلاد فلانضس. وبعد نحو أسبوعين وصلنا إلى مسترضام التي أذهلتني زينتها ونقاء جوها، وكثرة أهلها. فهي في عمارتها تعدل بريش إتقاناً، ولكنها أجمل في زينتها واعتناء أهلها بتزويق بيوتهم بالألوان العجيبة من أعلاها إلى أسفلها. ولم أر فيها بيتاً يشبه في رقمه وتلوينه بيتاً آخر. أما أزقتها فمرصوفة بالحجارة المُثبتة. وكان فيها تجار وبحارة طافوا مدن العالم بأسرها، من جزر الهند الشرقية، إلى بلاد الصقالبة. وقد أخبرني الربان المكلف بنقلنا في السفينة الأميرية، أن مرسى هذه المدينة العجيبة يتسع لستة آلاف سفينة، كباراً وصغاراً في آن معاً!

بعد أيام من مكوثي في نزل قريب؛ أرسل الربان الفلامنكي من يخبرني بأن أستعد للسفر مساء اليوم ذاته، لأن الرياح كانت مواتية، وقد هيأت نفسي لمثل هذا الأمر، فأسرعت إليه، وسرعان ما عثرت عليه بين الربابنة الذين كانوا ينتظرون هبوب الرياح. وحين رآني سألني بشيء من الغضب:

– أين المرأتان التركيتان اللتان سترافقانك إلى القسطنطينية؟

فاجأني كلامه؛ عن أي امرأتين تركيتين يتحدث؟ سمعت عن امرأة واحدة، ولم أعلم أصلاً بانها تركية! فأعاد الحديث مجدداً عن المرأتين اللتين حضرتا معي من بريش.. وقبل أن أجيبه تبسَّم وهو يشير إليهما ويقول:

– ها هما حضرتا، هيئوا أنفسكم للصعود.

التفت إلى الخلف؛ فرأيت امرأتين إحداهما شابة والأخرى في منتصف العمر، ترتديان زي نساء بلاد فلانضس الثريات. وحين اقتربن أكثر لم أصدق ما تراه عيناي! للحظات ظننت أنني فقدت عقلي، فاكتفيت بالتحديق إليهما بذهول، ثم تسللت يدي إلى جيب سترتي الداخلية تتفقد منديل الناردين.. عندها ارتسمت ابتسامة غريبة على وجه الشابة وهتفت بلهجتها التركية:

– أنت عيسى الأندلسي.. أليس كذلك؟

حقاً… لم أتمالك نفسي وأنا أراها تخطو نحوي.. فأجدني أخطو أنا الآخر نحوها… لكنها توقفت، وأصابع كفيها الغائبين في قفازين أسودين، تداري ارتباكاً مشوباً بالانبهار:

– عيسى…!

– نعم، أنا عيسى..

أجل؛ كانت فيروزة وأمها إيبرو تقفان أمامي بشحمهما ولحمهما، كما يقف القدر نفسه في وجه الزمن ..وأين في مرسى مسترضام؟ ها هي فيروزة، صارت أجمل، وقد تفجرت أنوثة. كانت لحظة مسروقة من الفردوس، لم أتمالك نفسي وأنا أراها فاتحة ذراعيها، فضممتها بقوة، ورفعتها على صدري عالياً وصرت أدور بها، وسط ذهول الربان وبحارته، وتصفيق العابرين الذين تجمعوا حولنا هاتفين بعبارات لم نفهمها، وإن كانت ابتساماتهم وضحكاتهم تفصح عن فحواها.

– نحن في المركب نفسه.

ابتسمت بحياء يصرع الفارس، والعالم، والصوفي. ومن فورنا صعدنا سلم السفينة، واتخذنا أماكننا المحددة سلفاً في أفضل القمرات وأرفعها. هناك، ليس بعيداً عن نظرات أمها التي كانت تحوك قطعة صوف حمراء مورَّدة، بدأت فيروزة حديثاً متصلاً، منفصلاً، يشبه قرص العسل من فرط حلاوته، لن ينتهي حتى وصولنا إلى إسطنبل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.