من الغنيمة إلى الفرهود
يحيل المحيط والسياق (Context) العراقي الراهن بخطابه وأحداثه وظروفه، إلى السيادة المطلقة لتداول كلمات وعلامات من نوع؛ ( الغنيمة، الفرهود، الفساد، النهب، السلب، السبي، الفوضى، الاضطراب، التدمير، القتل المجاني، الإرهاب، التدهور، التخلف، التراجع، الخراب، الانحطاط ) فيما يكون السيد (بوري Pipe) القاسم المشترك الأعظم في المجمل من التداولات والتفاعلات النسقية (System). ذلك الذي راحت بركاته تحل على الجميع: الحكومة والمعارضة، المؤيدين والرافضين، الضاحكين والعابسين. فيما يعيش العراق أزهى أحوال النوم العميق والسبات واللاأبالية واللاجدوى واللاأمل، حتى أن تلك اللا، تطول وتمتد لتتجاوز مسافة سور الصين العظيم.
المقدمات الصحيحة تقود إلى نتائج صحيحة، هذا ما يقوله منطق البحث العلمي. فيما عانى العراق من الغياب المفجع للمقدمات، ولم يجد أمامه سوى النتائج. هذا على صعيد واقع التفاعلات التاريخية، تلك التي فرضت أحوالها وتفصيلاتها عليه. فمنذ سقوط بغداد على يد المغول في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، غدا العراق نهبا للتمثلات الناقصة. حيث التسيد لصورة الدولة وليس حقيقتها، وأرضا خصبة لإنتاج الصورة الزائفة من خلال دولة الخروف الأسود، والخروف الأبيض، وصلا بالسيطرة العثمانية، تلك التي عبرت عن نزعة احتقارية في تحديد مسار العلاقة مع ذلك الصقع البعيد النائي والذي لا ينتج سوى التمردات العشائرية والنزاعات والاضطرابات والجوائح والأوبئة والفيضانات، ونقطة الصراع مع دولة الجوار الفارسية. سعيا بالمحتل البريطاني الذي تطلع نحو إنتاج الدلالة المختلقة وليس العميقة. فالأمر برمته كان منوطا بالخاتون “المس بيل” تلك المشتغلة في صناعة الملوك، والتي لم تتردد من البوح لوالدها عبر رسائلها الشهيرة، بأنها تشعر بالندم والأسى لتورطها في هذا المسعى.
استنفاد الدلالة
ما بين الحركة الوطنية التحررية عام 1920 للجماهير الكادحة، كما يدعوها المؤرخ الروسي كوتولوف، واحتجاجات الطلبة بإزاء أزمة كتاب النصولي عام 1927، ومظاهرات الطلبة ضد زيارة ألفرد موند المناصر للحركة الصهيونية عام 1928 وانقلاب الجنرال بكر صدقي عام 1936، وصعود حركة الأهالي، وثورة رشيد عالي الكيلاني والمربع الذهبي (كناية عن الضباط الأربعة) عام 1941، وما أعقبها من تغول للنفوذ البريطاني والهيمنة على المجمل من الحراك السياسي في العراق، وصلا بوثبة الجسر عام 1948، فأحداث عام 1952 والدور الذي لعبة الجنرال نورالدين محمود في مواجهة الإضرابات العمالية.
كانت الواجهة أو اللافتة الديمقراطية حاضرة، من خلال مؤسساتها (علم ودستور ومجلس أمة)، لكن السياق العائلي والحضوي، بقي ماثلا للعيان. يمارس وظيفة مواجهة الملابسات والمفاجئات التي يخلقها له التياران (اليساري والقومي). لقد بقيت دالة “الشرعية المطلقة” حاضرة فاعلة في بنية السياق والمحيط السياسي في العراق الملكي، ذلك الذي اعتمد على ثالوث (العائلة، القرابة، الصبغة الدينية)، بناء على الإفادة من الإرث المزري الذي خلفته (دولة الطرابيش العثمانية)، فيما عجزت “دولة السيدارة الفيصلية” عن استقطاب الكفاءات (الشحيحة أصلا).
من العائلة إلى العشيرة
نمط دولة القرابة والعائلة فرضت بقسماتها على العهد الملكي، حتى أن نوري السعيد تولّى منصب رئاسة الحكومة لأربع عشر مرة، فيما تولاه جميل المدفعي لخمس مرات، وتوفيق السويدي لأربع مرات، فيما تقلد رشيد عالي الكيلاني وعلي جودت الأيوبي ثلاث مرات. ونال أرشد العمري وجعفر العسكري وياسين الهاشمي نصيبهم من منصب رئاسة الحكومة مرتين. ولم تخرج المناصب الوزارية عن تلك الأسماء مع البعض من الإضافات الطفيفة، تلك التي قامت على مبدأ “الخال وابن أخته“. ولم يتبق من صدى الطابع المؤسسي لهذه الحقبة سوى ترداد كلمة “موافج” تحت قبة البرلمان، تلك التي اختصرت صناعة القرار السياسي. فيما بقي العراق مرتعا للفقر وسوء الإدارة والفساد وتزوير الانتخابات وأحزمة الفقر وفقر الدم والفيضان والكوليرا.
لوحة: منيف عجاج
في تراجيديا مفزعة موجعة جاء العسكر على ظهر الدبابات، لكن حزمة التعاطف مع الزعيم عبدالكريم قاسم، كانت واسعة ولها مقوماتها وأسسها المكينة اللافتة. فعلى الرغم من الطابع الفردي الذي وسم تلك الحقبة، إلا أنها جاءت لتضع النهاية للتحالف القائم بين قوى الإقطاع والبورجوازية والبعض من رجال الدين المنتفعين، وعملت بجدية تسودها روح الحماسة والعاطفة والوطنية العميقة، للقضاء على مظاهر العبودية والفقر. حتى كان لقاء أطفال العراق ولأول مرة في حياتهم بوجبة الفطور المجانية في مدارسهم والحليب المعقّم وعلاج البنسلين ومقويات “التنتريوك” وحبوب زيت السمك، والعمل على إعادة النظر في أوضاع سكن الفقراء. فكانت أحياء الثورة والشعلة والبياع، وشق قناة الجيش وإنشاء جامعة بغداد. وشعار “كبر الصمونة وصغر الصورة” دون التوجه نحو رفع الصورة! وتلك العلة الكامنة في النفس البشرية.
من البادية إلى الطائفة
بقي النسق العلاماتي يحضر بقوة لافتة في المجال العراقي، حيث التطلع نحو اللعب المكثف في حقل الرموز والشفرات والدلالات ومجمل المكونات الثقافية، تلك التي قامت على الإفادة القصوى من الوسائط الاتصالية، فكان التوجه نحو المعين اللغوي: والتي تبدت سماتها من خلال تسيد مفردة “عجل” ذات الطابع البدوي، وانسحاب لافت ومريب لمفردة “لعد” البغداية ذات الطابع الحضري. فيما راح المضمر النسقي يكشف عن المزيد من ملامح التركيب غير المتجانس في صلب العلاقات الاجتماعية والثقافية، والسعي الجاد نحو إحداث نوع من الخلل في آليات العلاقات الداخلية، حتى تعرّض التواصل إلى الارتباك، فيما راحت ملامح الغموض والضبابية تحضر في صلب الخصوصية التاريخية وتعمل على تمزيق وتشتيت المفاصل الأساسية للهوية الثقافية. وبذات الجرعة العلاماتية نجد اليوم الحضور اللافت لمفردة “جا”، بعد أن تم شحنها بجرعة سلطوية خطابية. حتى أن أصحاب “الجا” والمالكون الشرعيون لها، لم ينلهم سوى الاستهلاك الاتصالي لها، فيما بقي الإقصاء والتهميش والنظرة المتعالية بحقهم، قائمة لم تتزلزل أو تهن!
على صعيد المعين الديني: حضرت الحملة الإيمانية لتتوافق مع الخطاب المكرّس للترقيع والتبرير الذي جاء في أعقاب غزو الكويت، وانحسارا لافتا للخطاب القومي الذي ميز الحقبة السابقة. فيما جاء خطاب اللاحق قائما على الإفراط في الحماسة الدينية، مع التزود بالرمزية المكثفة لنماذج مقدسة بعينها، والتي لم ينجم عنها سوى المزيد من التشظي والتمزق الطائفي داخل المكونات العراقية، “فعقيدتك مقدسة وعزيزة وأثيرة على نفسك، والآخر كذلك له عقيدته المقدسة والعزيزة والأثيرة على نفسه” كما يقول ماكس فيبر.
ولم يغب معين الأعراف: ذلك الذي تبدّى في السابق في اختزال العادات والتقاليد بالولاء الأيديولوجي، والذي أعلى من قيم الوشاية والنفاق والولاء المطلق والخضوع، حتى صار الرجل يخشى على نفسه من أهل بيته وعائلته وأقرب الأصدقاء، بعد أن تصدّر المشهد الاستبداد ذو الصبغة الحداثية المستند إلى المحرمات الأرضية. فيما جاء اللاحق ليعلي من الولاء الديني، حيث المحرمات السماوية، ليصار إلى استبداد ديني، غير قابل للمراجعة والمناقشة، فهم الراسخون والمطهرون والمنزهون والمتواضعون والمؤمنون، لكن الإشكال بقي يدور في أن هؤلاء بقيت عيونهم شاخصة نحو السماء، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الانحناء والنظر إلى الأرض، حيث عامة الناس الذين أكلهم الفقر والعوز والفاقة والخراب والتدهور، والفساد وفرهود النهاب والناهبات، والنواب والنائبات، وسياسيو الصدفة الذين قدموا مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن والأمة. “ويا حوم اتبع لو جرينه”.