من أجل خطاب عربي نقدي وتنويري
إن عدم تحقيق التغير الاجتماعي المطلوب في إعادة إنتاج البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتخلفة وتطبيق الشعارات التي نادي بها رواد النهضة العربية جعل الحديث عن الحداثة والتقدم الاجتماعي أمرا مرفوضا من قبل فئات اجتماعية واسعة مثقلة بهاجس خوف مركب على الهوية والخصوصية، التي تختفي وراءها قوى وأفكار ومصالح وأهداف تدفع إلى التخلي عن فكر الإصلاح والتحديث، بل ومحاربته والعودة إلى فكر القرون الوسطى المظلمة. وهو مؤشر واضح على فشل مشروع النهضة العربية الذي أوجد فراغا كبيرا ملأته قوى إسلاميةـ أصولية ذات أيديولوجية تكفيرية متطرّفة تريد توظيف “إسلامها” ضد الحداثة. وقد ساعدت الدولة “الريعية” في كثير من الدول النفطية على ضمور الطبقة الوسطى، التي كان من الممكن أن تحمل على أكتافها عملية الإصلاح والتحديث والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكذلك هيمنة النظم الشمولية وانقسام المجتمع على ذاته إلى إثنيات وقبائل وطوائف، ساعد كل ذلك على ضعف الدولة التي لم يكتمل نضجها ولم تتطور فيها مؤسسات المجتمع المدني التي كان من الممكن أن تحقق هامشا من الحرية والتعددية والديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان. كل هذه العوامل مجتمعة أنتجت فقرا شديدا في الفكر النقدي وممارسته وتركت العقل النقدي معطلا.
وعلى الرغم من أن تراثنا العربي حفل بالكثير من الممارسات النقدية وخاصة في الأدب، كما عند الجرجاني والقرطاجنّي وقدامة بن جعفر، وكذلك في النقد الاجتماعي والفلسفي كما عند المعتزلة وعلى رأسهم الجاحظ، فإن النقد العقلاني البنّاء لم يكن شائعاً ولم يمارَس إلا على شكل انتقاد لا على شكل نقد مبدع يضيف معرفة إلى أخرى.
كما أن تراثنا العربي لم يعرف نقد الذات إلا نادراً، وهو ما أفقده الموضوعية في معارفنا ومواقفنا من الآخر وساهم، بشكل أو آخر، في تخلفنا الثقافي. ومع أن كلاً منا يدّعي ممارسته المختلفة للنقد والنقد الذاتي بصورة موضوعية، فعندما يتعرض المرء لأيّ نقد، يثور ويعتبر ذلك انتقاصاً وانتقاماً وتحدياً له، مع أن أياً منا غير معصوم من الخطأ وما عدا ذلك، فما يمارَس من نقد يأتي غالباً على شاكلة المديح والثناء أو الذم والهجاء، كما عند وعّاظ السلاطين.
وغالبا ما يطلق مفهوم “النقد” أو “النظرية النقدية” على الأدب ومن ضمنه الشعر بصورة خاصة. في حين أن إضفاء صفة “النقد” على الأدب لوحده يعني أن هناك “نقدا أدبيا” فقط، في حين أن النظريات النقدية تتعدى ذلك إلى العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وليس عن نظرية نقد أدبي وثقافي فحسب.
فهل يمارس العرب النقد بمفهومه الخاص والعام، في مجال الأدب والفن والعلوم الاجتماعية والفلسفة ويشاركون العالم في تقديم رؤى ونظريات ومناهج نقدية تتناول النقد الاجتماعي والثقافي والفلسفي والسياسي في أبعاده التاريخية وتطبيقاته العملية؟
والحال أن ما يمارس اليوم من نقد في أشكاله وأساليبه المختلفة ما يزال نقدا تطبيقيا عاما، إذ لم تتطور في العالم العربي نظرية نقدية لها هوية وخصوصية وذات استقلالية واضحة تساهم في رفد الفكر النقدي في العالم. وإذا قمنا بمراجعة نقدية لما يطرح اليوم من سجالات نقدية في الصحف والمجلات وأروقة الجامعات والمعاهد العلمية والثقافية لا نجد سوى محاولات نقدية قليلة وبائسة تتمحور حول الثقافة والنقد الأدبي والثقافي.
كما أن شحّ المحاولات النقدية يرتبط جدليا بغياب العقل النقدي وفقر الفكر والمعرفة والثقافة وقلة الأعمال الفكرية والعلمية المترجمة وما يبدعه المفكرون والكتاب في مجالات العلم والتقنية والفلسفة والعلوم الاجتماعية، مقارنة مع اتساع رقعة العالم العربي الجغرافية والكثافة السكانية وتنوع الموارد الطبيعية والبشرية.
هذه الوضعية تؤشر إلى أننا نعيش “ردة حضارية” لا يمكن الخروج منها إلا بمعرفة الذات ونقدها، لأن ممارسة النقد لها وظيفة مهمة في تشخيص الأزمة ومعرفة أسبابها ودوافعها ومعوقاتها ومحاولة تجاوز الواقع الذي أفرزها. وعندما نتحدث عن النقد الذاتي علينا أن نخضع أنفسنا لنقد تاريخي منطقي، وخاصة في مجال العلوم الاجتماعية التي تتطلب نظرة إبيستمولوجية تقوم، كما يقول هابرماس، على إنجازات العلوم الاجتماعية كالفلسفة وعلم الاجتماع والأدب والفن وأن تبقى علوما نقدية تنفتح على الخارج، وفي ذات الوقت، تبقى ضمن العالم المعيشي فكرا وممارسة.
وثمة تساؤل مهم يرتبط بممارسة النقد في واقعنا الثقافي، يضعنا أمام ضرورة التوقف قليلاً أمام هذه الإشكالية والقيام بمراجعة شاملة للحركة النقدية، وهي محاولة لنقد مزدوج: نقد الذات ونقد الآخر، تستهدف زعزعة الخطاب الاستبدادي الشمولي والتقليدي والأبوي- البطريركي وتفكيك أطره ومضامينه وأهدافه، ومن ثمة توحيد أجزائه في نظرية نقدية خلاقة تقوم على المناهج النقدية الحديثة لإعادة بناء خطابنا النقدي، ليكون أكثر قوة ووعياً وتماسكاً وقدرة على القيام بمسؤولياته تجاه المجتمع والثقافة السائدة.
والحال أن النقد، وليس الانتقاد، هو هدف هذه المحاولة الفكرية العقلانية التي تنحو لتطهير المعرفة من شوائبها وأدرانها. فالنقد هو، قبل كل شيء، أساس الإبداع والتغيير. فإذا اعتبرنا أنه الضلع الثالث الأساس في مثلث العمل الإبداعي، فسيقف الناقد بين المبدع والمتلقّي ليكون وسطاً ينقل المعرفة الموضوعية. ومن هنا تصبح مهمة الناقد أكثر صعوبة وتعقيداً من مهمتي المبدع والمتلقّي، لأنها نشاط تحليلي متميز يفرض على الناقد أن يكون عارفاً ومحايداً وموضوعياً ومتمكناً في الوقت ذاته من امتلاك قواعد المناهج النقدية الحديثة، وكذلك أساليب النقد وأدواته الرصينة، حتى يتجنب أيّ إساءة إلى العمل المنقود والتعرض إليه وإسقاط التهم عليه جزافاً، وتجنب ما لا يحمل معناه ويربك المتلقّي أو يشوش عليه رؤيته. ومن هنا تصبح عملية النقد من أخطر العمليات وأعقدها التي يتعرض إليها أيّ عمل إبداعي.
إذن نحن بحاجة إلى مشروع نقد أدبي وثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي مهمته ممارسة نقد جذري يهيئ الوعي بأهميته وفاعليته وأثره وتأثيره في عملية التواصل والتفاهم والحوار، ينقلنا من نقد الفكر إلى نقد المجتمع، أي نقد الثقافة والسلطة ونظام الحكم والأيديولوجيا التي تختفي وراءه.
وهو مشروع يستدعي ثورة عقلانية تنويرية لتلقيح أفكارنا وثقافتنا التي تعيش حالة ارتداد ونكوص مما يجعلها عاجزة عن التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى ومواكبة التيارات النقدية الحديثة، رغم وجود نقاد عرب على قدر من الأهمية والأصالة والإبداع، ولكنهم قليلون، وإذا وجدوا فهم نقاد أدب وشعر ورواية فحسب، فأنت لا تجد ناقدا قديرا في الفلسفة وعلم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا والعلوم التجريبية، ومن يمارس النقد مجموعات صغيرة، من بينهم الأكاديميون الذين يعملون في الجامعات ومعاهد البحث العلمي، وهم عموما غير ملتزمين، إذا لم يكونوا أدوات طيعة بيد هذه المؤسسات. ومنهم أنصاف الأكاديميين المولعين بالنقد والانتقاد والتشهير والتبرير ويستخدمون مفاهيم وأساليب ومناهج دون أن يفهموا معانيها ودلالاتها الإنسانية ودون الرجوع إلى أصولها الثقافية والفلسفية، إلى جانب نقاد هامشيين يتخذون من النقد وسيلة للكسب والشهرة ويوجهون “انتقاداتهم” حسب أهوائهم وما يختفي وراءها من مصالح، إضافة إلى أن أغلب النقاد ما زالوا أسيري المنهجية التقليدية القديمة، وهم محاصرون بمفاهيم مجردة من أيّ غطاء نظري ولا يستطيعون تقديم جهد فكري واعٍ وجاد ومستمر، ويستخدمون مفاهيم وأفكارا ومناهج دون بذل جهد كاف في استيعابها والتفاعل معها وتطويرها وتوظيفها توظيفا جيدا والالتزام بالأسس النظرية والمنهجية التي تقوم عليها. كما أنهم محاصرون ضمن دائرة الأدب والفن ولا يخرجون عنها إلى دائرة الحياة الأوسع والأرحب والأعمق ليغوصوا في حركة الواقع المجتمعي وجدليته ويبحثوا بين ثناياها عما تفرزه من علاقات اجتماعية وثقافية واقتصادية مؤدلجة. فالنقد يستدعي التأمل والتفكيك والتحليل والربط الجدلي بين الفهم والوعي والمنطق العقلاني.
وانطلاقا من أن النقد هو محاولة أولية جادة لفهم العالم وتغييره، يصبح من الضروري تحقيق مهامه التي تتعدى ممارسة النقد إلى تهيئة الوعي بأهميته وفاعليته وتأثيره في إعادة الثقة بالنفس والاعتبار وإيقاظ الإمكانيات والطاقات الإبداعية الكامنة للكشف عن مكامن القوة والضعف، وتحفيز الإنسان لرفض وتحدي كل ما يكبّل حريته ويعيق تطوره وتقدمه، كما يستدعي، في الوقت نفسه، الانفتاح على المكونات التي تدخل في إيقاظ الوعي وصياغته بهدف تأصيل الوعي النقدي وتطوير عقل عربي نقدي يستطيع ممارسة دوره باستمرار وترسيخ ثقافة التساؤل والنقد، التي هي في جوهرها نقد للوعي والفكر والممارسة، وفي الوقت نفسه نقد للنقد ذاته.
فالنقد هو “جدل العقل” وهو نشاط إنساني متميز باعتباره أداة تحكيم عقلانية تمكّن الإنسان من النظر في الأمور بحكمة وحرية يتجنب بموجبها الوقوع في متاهات واقع مزيف والاستسلام لحقيقة كاذبة وهو لذلك عملية رفض سالب وتحدِ وليس خضوعا واستسلاما.
ومن أجل تحرير الذات العربية من أسرها التاريخي والفكري والمجتمعي علينا إجراء نقد مركب:
أولا: نقد الذات.
ثانيا: نقد التراث، الذي يقوم على النقل وليس العقل.
ثالثا: نقد الوافد الجديد، الحداثي وما بعد الحداثي.
رابعا: الانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومؤسساته.
خامسا: تأهيل الفكر لممارسة النقد بحرية، لأن جوهر النقد هو الحرية في ممارسة نقد الفكر والمجتمع والسلطة والأيديولوجيا التي تختفي وراءها.
إن ممارسة النقد والنقد الذاتي هو حق طبيعي يساعدنا على الكشف عن كل ما هو سلبي وبائس وملتوٍ وغير حقيقي في الممارسات الفكرية والمجتمعية وتسليط أنوار النقد على الأخطاء والأوهام والخرافات والكشف عن كل ما هو مخفيّ وغير ظاهر ومبطّن، لأن هدف النقد هو الوصول بوعي إلى المعرفة الموضوعية.