من أكون؟

الجمعة 2019/03/01
لوحة: بهرام حاجو

السجين

بعد سجنه معزولا بشهور، وفي ليالي التحقيق تمر عليه حالات ظنوا أنها من الهلوسة، كان دائما يقول لهم ارتاحوا جميعا وأعطوني القلم والورق.

      •     سأعترف لكم بكل شيء كما تريدون.

ولأنهم تعبوا ولم يصلوا معه إلى أي نتيجة خلال تلك الشهور، وقد أتعبهم السهر وفشلت معه كل الأساليب. رموا عليه الأوراق والقلم ونسوا أنه يمكنه إيذاء نفسه كما فعل آخرون من قبل. بدأ يكتب ما يجول في خاطره.

كتب عن أبناء حارته وشقاوتهم، كتب عن سرقة الحمار، عن حبه الأول، وعن أول سيارة قادمة يقودها أشقر، وعن حادثة تكسير آلة العود أمام المصلين، إلى قضية فلسطين، ومؤتمر عدم الانحياز، حتى حرب المخيمات، ومذبحة دير ياسين كتب عنها بالتفصيل.

ثم عرج بخياله إلى بيت مريم الحناية. تخيّل كم كفا زينته بالحناء…؟! كم فتاة جاءت قبل عرسها بيومين للتزيّن؟. ضحك بكل جوارحه حين تخيل ليلة العرس وما يدور فيها…؟! وتساءل كم سيدة تلاشت عنها الحناء وهي تنتظر زوجها ولم يعد؟!. ضحك! بل بكى، ثم ترك الورق، وبدأ يرسم أشجارا وعصافير ونهراً ماؤه رقراقا، كل هذه رسمها على ذراعه. ثم صار يغني للفنان محمد رويشة.. إيناس إيناس.

حسبوا أنه يناديهم وحين وجدوه في عالم آخر من الفرح، وهو يقارن بين بلاده الغنية جدا والمقبرة.. اكتفوا بأن قطعوا ذراعه وعلقوها للزينة.

ذاكرة

حاول جاهدا تذكر أين ركن سيارته. مرت عليه مدة طويلة يحاول تذكر أين أوقفها. لعل الزحام وامتلاء المواقف بالسيارات والوقت الطويل الذي قضاه وهو يبحث في المكتبة جعله ينسى، لكن المشكلة ليست في السيارة بل فيه، فقبلها ومنذ مدة نسي أين وضع مفاتيحه، وقبلها نسي أن جاره مريض وعليه زيارته، وقبلها نسي أنه نام وحلم بحلم لم يستطع نسيانه.

حلم أنه أضاع بيته ونسي اسمه وبقي هائما يسأل الناس عن نفسه. توقف وبدأ يسأل الخارجين من أحد المساجد.

• من أنا؟

• أنت!!.. أنت إنسان.

• أنت!!.. رجل دون عقل.

• أنت!!.. سكران فابتعد عن بيت الله.

• أنت!!.. مريض، الله يشفيك.

• أنت!!.. تائه؟!.

• أنت!!.. هل أنت غريب؟ وتصدق عليه، لكنه شكره ورد المال إليه.

• لا أدري يا أخي، لم أعد أتذكر أي شيء.

دارت تلك الحوارات بين الناس وهو يحاول عصر ذاكرته، يسير، يتلفت، كل شيء لا يتذكره، ولا يذكّره بشيء، يشعر أن وزنه خفيف، ويرتفع قليلا في سيره عن الأرض.

وحين سار وجد نفسه في ساحة كبيرة الناس فيها سائرون في كل اتجاه، وهو لا يعرف إلى أين يتجه. الشمس بدأت ترتفع وتزداد حرارتها، والعرق بدأ يتصبب منه، والعطش أخذ مأخذه.

سأل سيدة متشحة بالسواد مرت بقربه.

• سيدتي أريد ماء.

نظرت إليه بصمت، وتأملته بدقة ثاقبة، وتلفتت حولها وحول المكان، وكأنها تريد أن تفعل شيئاً، ثم أخذته معها، لم يمانع، ولم يسأل، ومشاعره المضطربة بسبب التيه جعلته يسير دون تردد.

فتحت باب بيت ودلفت به إلى الداخل وأسقته ماء باردا. سألها “أين أنا ومن أكون؟”. ضحكت، وعلقت “من أنت فالجواب لديك، وأين تكون فأنت في بيتي. أنت الآن لي”. وتفرست في ملامحه. وحين بدأت تتحرش به جلس من النوم.

هذا الحلم هو الذي لم يستطع نسيانه، غير أن الأهم أين هو الآن ومن هو؟.

حاولت أثناء كتابتي قصته، قصة رجل فقد ذاكرته، حاولت أن أحدد من يكون ولم أستطع، لأن التحديد يحتاج إلى حقائق بيّنة راسخة اليقين. وأنا لا أملك اليقين ولا الحقيقة، بل لا أملك حتى معرفة من أكون. هنا، لا بد من التوقف وسؤال العابرين عني قبل أن أسألهم أين أوقفت سيارتي!.

توقفت وحاولت أن أسال، لكن لا أحد يلتفت نحوي. حاولت عبور الشارع إلى الجهة المقابلة، فوجدت امرأة متشحة بالسواد أيضا. تنظر إلي فأحسست بالانجذاب إليها، لكنها بسرعة ابتعدت، وتبعها طفل، فأحسست بالحزن مع ضياعي. لحظتها سمعت من ينادي من بعيد كان يقول: يا أحمد. يا أحمد.. لا أدري من هو أحمد حتى أتى وأخذني بيدي قائلا: “والدي لي نصف ساعة أبحث عنك. أين ذهبت؟!”.

فتبين لي أن ابني يبحث عني في السوق، وأنني لم أركن سيارتي، ولم أبحث عن كتاب، ولم أر تلك المرأة، وما أنا إلا في حلم، في حلم، في حلم. ثلاثة أحلام متداخلة. استيقظت منها بالتتالي. والآن أريد أن أقول لكم أمرا مهماً، لكني لا أتذكر ذلك الأمر المهم. آه، تذكرت. الأمر المهم هو “من أنا، من أكون…؟!”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.