من بواكير الحضارة إلى قمة الحداثة

المعرفة كمحرك لطوبولوجيا السيطرة والقوة

الخميس 2023/06/01
رسمة (عامر العبيدي)

الأمم الأكثر علما كانت دائما الأمم الأكثر قوة وتأثيرا وذكرا وأثرا، والتاريخ يخبرنا بأن الكلدانيين الذين يعتبرون العلماء الأوائل الذين وضعوا أول نظام للكتابة المسمارية (ألواح الطين) كانوا نواة الحضارة الآشورية العظيمة وسر تفوقها ابتداء من القرن السابع قبل الميلاد، حتى صارت قوة إمبراطورية كبيرة أخضعت الإمبراطوريات المجاورة، كالمصريين والفينيقيين والفرس.

واليونانيّون الذين أغنوا العالم معرفيا وعلميا منهم خرج “الإسكندر المقدوني” صاحب الحكمة والمعرفة، الذي اجتاح مشارق الأرض ومغاربها، وكتب ملاحم وبطولات خالدة في صفحات التاريخ.

والعرب الذين سكنوا الصحراء وشُرِّفوا بنبي منهم، كانوا نواة الحضارة الإسلامية الزاهرة التي بلغت الآفاق والأقاصي، ولم يتأتّ لها ذلك لولا الفتوحات العلمية التي أحرزها العلماء المسلمون في شتى الحقول والميادين، على اعتبار أن الإسلام أكثر الديانات حثا على العلم.

والحضارة الأوروبية الحديثة، التي بدأت تزهر وتتفتق ابتداء من القرن السابع عشر، فيما عرف بعصر الأنوار، لم يتأت لها غزو بقية العالم واستعماره، لولا الثورة العلمية والجنوح إلى التفكير العلمي الموضوعي والعقلاني.

تتعدد النماذج والشواهد، قديمها وحديثها، إلا أن الثابت في سر تقدم هذه الأمم وعِظم قوتها كان مستمدا من العلم وليس من شيء آخر، وسيبقى هذا الناموس ثابتا أيضا في هيمنة الحضارات والأمم أو انكسارها،  وتاريخها تصنعه وتصوغه المعرفة بمختلف حقولها وأصنافها، بما في ذلك المعرفة الدينية، لاسيما في وقتنا الراهن، فنحن نعيش في مرحلة تاريخية تهيمن عليها أكثر من أي وقت مضى الرهانات المرتبطة بالمعرفة، وهذه الأخيرة، صارت القوة الإنتاجية الأساسية في عالم اليوم، وهذا الفرش يقودنا إلى سؤال حارق ومؤلم ينقِّب في نوعية المعرفة التي ننتجها نحن كأمة من المفروض أن تحمل لواء العلم والمعرفة، وفينا اليوم من لا يزال يعتقد باستحالة الصعود إلى القمر وأن من فعل ذلك فحكمه من حكم المنتحر! وأن الهاتف النقال من أعمال السحر! وغيرها من الخرافات.

 

صعود الحضارة الإسلامية

 

إن هذا النكوص يعاكس ويناقض ما عرفته الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية الممتدة من منتصف القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر للميلاد، من إنتاج معرفي غزير جعلها قوة كونية، حتى أن المصنفات العلمية والكتب بلغ عددها في عهد الخليفة المأمون مثلا 300 ألف كتاب في بيت الحكمة لوحدها، أما في الأندلس في القرن العاشر فقد بلغ عدد الكتب 600 ألف كتاب، مع العلم أنه حسب المراجع التاريخية كانت تنشر كل سنة في الأندلس 60 ألف دراسة وقصيدة ومؤلف في جميع التخصصات.

وفي الوقت الذي استطاع فيه “البتاني” و”البيروني” وصف ظاهرة الكسوف وصفا علميا دقيقا، كانت الشعوب الأوروبية تعتقد اعتقادا غريبا في توصيف هذه الظاهرة الفلكية، مفاده أن الكسوف هو الغول الذي أكل الشمس، لذلك كانوا يخرجون إلى الشوارع ويصيحون ويقرعون أواني الطعام، من أجل أن يذهب هذا الغول ويترك الشمس لحالها.

لقد تغيرت الأزمان، وصرنا نعيش كسوفا من نوع آخر، مس هذا العقل العربي الكسيح الذي أكله غول الجهل والكسل والتخلف والفساد المركب؛ بينما الأمم التي تخلصت من الخرافة وأقبلت على العلم، أشرقت الأنوار على عقولها، وصارت تصنع وتبدع وتبتكر وتكتشف أسرار الكون وتمدنا بمعلومات عجيبة ودقيقة عنه، فما الذي تغير؟

لقد كانت المدارس والجوامع والمعاهد التي نشأت في رحم الحضارة الإسلامية، كلها تحمل مشروعات تخريج علماء حقيقيين وليس مجرد متعلمين، كما هو حاصل اليوم، ومن لا يؤلف ولا يأتي بجديد في فنه أو علمه فقد كان يعتبر بمثابة نقيصة ومعرّة تلحق به، والواجب علينا اليوم أن نبحث ونستعيد “جينوم المعرفة” فينا إذا أردنا التموضع بين الأمم، من خلال تطوير وتثوير المناهج التعليمية والثقافية ومحتوى وسائل الإعلام ونوعية الخطاب الديني، وهي راهنا، أنساق تسعى في أغلبها إلى قمع العقل وتغييبه، وتساهم جميعها في ترسيخ نظرية الطبائع الثابتة التي يرانا الغرب من خلالها، على اعتبار أن العقل الغربي يلوذ بالمنطق ويتميز دائما بأنه حي ومتطور وفي حركة تقدم دائمة، بينما العقل العربي لاعقلاني وسكوني في حالة ركود مزمنة؛ ولعل جزءا غير يسير في هذا تتحمله نخبة الأمة، هذه النخبة المأزومة اليوم، التي ربما امتلكت وراكمت رصيدا من المعرفة والثقافة، لكننا نراها تفتقد للقدرة على الفعل وشق مسارات مختلفة عن المألوف، بسبب اختلاف أيديولوجياتها ومرجعياتها وأهدافها، وعجزها عن التكتل ولمِّ شتاتها وتجاوز عقدها ومصالحها، في سبيل وضع مشاريع إحيائية جادة تتيح لنا الانخراط في حركة التاريخ من جديد، هذه الحركة التي لا تحدث إلا عبر الفعل، والتي تفهمها حنة أرنت بأنها (المقدرة على خلق بداية جديدة)، وما أحوج الأمة إلى بداية جديدة ومختلفة عن السائد المألوف.

 

صراع قوامه المعرفة

 

إن الصراع في العالم قوامه المعرفة، فالمعرفة وحدها من بإمكانها تخليق القوة التي تسمح بالتموضع ومضاهاة بقية القوى المهيمنة على الاقتصاد والسياسة والثقافة والدفاع، وعلى سبيل الاستشهاد، فالزحف الهادئ للقوة الصينية الذي وصل إلى ذروة الاكتمال، مهددا بتجريف النظام العالمي ومزاحمة أميركا بضراوة، لم يكن وليد الديموغرافيا ولا المساحة الجغرافية ولا التغني بإرث الأجداد فقط، وإنما كان بتسيُّد المعرفة والتوسل بها لتحريك ماكنة الاقتصاد والدفاع وتوسيع دائرة الهيمنة في الشرق والغرب، وبالمثل تفعل دول كثيرة راهنت على المعرفة الحديثة من أجل مراكمة القوة وتشغيل عجلة التصنيع العسكري التكتيكي، حتى أصبحت فاعلا مهما في ترجيح كفة الحروب والنزاعات الدولية، لعل أبرزها طائرات “الدرون” التي تقوم دول مثل تركيا وإيران بتصنيعها وكان لها دور بارز وناجع في الحروب التي أقحمت فيها، ونالت سمعة قتالية جذابة جعلت الطلب عليها يتزايد، مع ما يستتبع ذلك من عوائد مالية مهمة، من خلال تصنيع عسكري يراكم القوة ويغذي الاقتصاد، وهذا الأمر يجرنا إلى القول إنه ربما يجدر بنا أن نؤمن بمقولة أن السلاح النووي هو ما يضمن السلام العالمي، وليس العكس، فلو أن دولة واحدة انفردت بالمعرفة والتقنية الخاصة بهذا “السلاح الأخروي” لبغت على العالم أجمع وأخضعته، ولألجمت أي دولة تنزع نحو العصيان، دون أن يكون لها ند أو نظير.

هذا الأمر يقودنا إلى الإشارة إلى أن البعض عندنا يعتقد أن الأزمة التي تعصف بالنظام العالمي بكل تموجاتها الحالية، هي بمثابة إيذان بقرب نهايته وموته، ليحل محله آليا، نظام يقيمه المسلمون ليهيمنوا به على الشرق والغرب، وكأن هذه الأمة لها الجهوزية الكاملة والكافية لقيادة العالم، وهي لا تملك نموذجا اقتصاديا ولا نموذجا سياسيا ولا نموذجا معرفيا ولا حتى مشروعا حضاريا متكاملا، فكيف لها أن تتسيّد العالم من العدم والفراغ، مشيحين الطرف بذلك عن حقيقة أن التمكين له إرهاصات ومقومات، ولا يتحقق بالأمنيات وأحلام اليقظة، أو انتظار تحقق النبوءات الدينية.

في الحقيقة، تتزحزح المجتمعات عندما تتخلى عن فائض اليقينيات “المُتوَهَّمة” التي تعوقها عن فهم الواقع ورؤية المستقبل بعقلانية، وقبلهما معرفة الماضي معرفة مجردة وفاحصة، فالمجتمعات التي لها يقين راسخ و”مُتوَهَّم” بالقوة والتمدن، ويقين متجذر و”مُتوَهَّم” بالصلاح الأخلاقي والديني، هي مجتمعات جامدة تميل إلى تقديس الكلام والراحة على العمل والانتاج، وتستعيض عن النقد الذاتي والمساءلة بالاكتفاء بالغيبيات والانحيازات المسبقة لتأكيد صواب ما هي عليه.

إن مجتمعات من هذا الطراز، يسهل سوقها وتوجيهها بالشعارات والكلاميات المخاتلة والمراوغة، الشعبوية والدينية، أو ما يسمى “الحكم بالفكرة” إذا استعرنا تعبير حنة أرنت، وقد رأينا الكثير من النماذج على طول الخط الزمني الذي تلا الحروب العربية مع الكيان الصهيوني، مرورا بالحروب الإمبريالية التي استهدفت العراق وأفغانستان، وليس انتهاء بأحداث الربيع العربي، إن هذه المجتمعات تحتاج فعلا إلى مراجعات تخلخل هذه اليقينيات “المُتوَهَّمة” التي تعتبر في أصلها أرسافا ثقيلة تجذب إلى القاع كلما تلكأنا في فكها وتحطيمها، وهذا من خلال كتلة من أصحاب الفكر والمعرفة، ففي كل عصر، تنولد “كتلة تاريخية” من الرجال المدججين بأفكار مخالفة للسائد وغير مهادنة للواقع، لا ترضى بالجمود ولا تؤمن بالمستحيل ولا تستسلم للظروف، وعلى قلب رجل واحد تهوي على الصنميات التي تعوق الناس عن التحرر واستنطاق الحقائق والرؤية من غير تلك المرآة الوحيدة التي تعودوا على النظر من خلالها، رغم ما بها من غبش وعدم وضوح، ليحدثوا بذلك، رجة عنيفة تعيد للناس زمام وعيهم وتملكهم لجام أنفسهم بعيدا عن سطوة من كان يهيمن على صناعة وعيهم وتخيلاتهم وتمثلاتهم، راغبا في جعلهم يفكرون عبره وفقا لما يريد هو.

رسمة (عامر العبيدي)
رسمة (عامر العبيدي)

الواقع الافتراضي.. صراع وقوده الفرد

 

من يعتقد بإمكانية السيطرة على الناس وإخضاعهم جسديا، من المستحيل أن تخضع شعبا بالقوة والإكراه ووسائل الإذلال، القوى الذكية تلجأ إلى إخضاعهم طوعا وبإرادتهم، بالسيطرة على عقولهم وعواطفهم، وقبل ذلك تفتيتهم إلى ذرات وذوات منفصلة، وجعلهم يعيشون في عالم وواقع افتراضي وغير حقيقي، بتفكيك الفكر النقدي العام وروح الجماعة، فماذا تفعل ذات وحيدة أمام خوارزميات ذكية وسرديات متقنة ومحتوى جذاب، تضعف أمامها الملكات الفردية المفرغة من أيّ قوة نقدية أو ثقافة رقمية شكاكة، فينأى الفرد عن الأسرة والمدرسة وعن الرفاق وعن النقاشات العامة وعن مجتمعه ومؤسسات إنتاج الثقافة والمعرفة، وينعزل وحيدا في فقاعته الخاصة التي صنعتها له الوسائط الاتصالية، حيث يصير سهلا تشكيله وتوجيهه وإفراغه من قيمه الأصيلة وتوجهاته المكتسبة وملؤه بأخرى بديلة عنها.

لقد بات واضحا بما لا يدعو للشك، أن الفردانية باعتبارها أحد الأقانيم الرئيسية في نظام الحداثة، هي في الأصل فكرة مفزعة تثوي خلفها نزوعا مقصودا وممنهجا نحو إنهاء الاجتماع البشري، خصوصا الأسرة باعتبارها المنبع الأول لتعليم الفرد وتطعيمه بالقيم المعيارية، وقد توسلت بوسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية التي استفردت بالأفراد وانتزعتهم وعزلتهم عن واقعهم الحقيقي، ونزعت منهم الملكات العقلية والإدراكية ليسهل التأثير فيهم داخل فقاعات مستقلة، حتى أنها نجحت في جعلهم مشوشين لهم قابلية كبيرة على اعتناق الأفكار دون أدنى مقاومة، وتصديق ما يتم ترويجه من أنماط ثقافية دخيلة وسلوكات غريبة، دون فحص أو تقصي أو مناقشة.

قادت هذه الوسائل إلى عزلة الفرد وصنع تحيزاته المعرفية بعيدا عن مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية في الدولة، وهذه العزلة جعلته هشا وضعيفا ومحاصرا، على غير ما كان في السابق، حيث العلاقات الاجتماعية التفاعلية والنقاشات والحوارات الحية التي يبني من خلالها الفرد تصورا للواقع ويكتشف صواب أفكاره ومعلوماته أو خطئها، من خلال ما يسمى “تأثير الجماعة التفاعلية”.

 

مراقبة لتوجيه الشعوب

 

هكذا تعمل الدكتاتورية الرقمية التي تتغيى الهيمنة والسيطرة، تنتزع الإنسان من عالمه الحقيقي وتسوقه بوسائلها المخاتلة إلى واقع افتراضي وواقع معزز ومستقبلا إلى عالم الميتافيرس، حتى يصير عبدا لنظام تواصلي مختلق، يجيد صناعة الرغبات والدوافع وتشكيل الآراء والقيم وتوجيه السلوكات والأفكار، وخلق العدوى الجماعية التي يريدها في المنطقة أو البلد المستهدف، وفقا لإستراتيجياته وسياساته وأيديولوجيته، وضمان مراقبته وتوجيهه بشكل دائم في سياق الحياة دائمة الاتصال التي تؤطر وجوده الرقمي.

إن هذه المراقبة في أول عهدها، لم تكن من صميم الخريطة الجينية لمواقع التواصل الاجتماعي، لكن انعطافة مهمة حولت المسار بالكامل، وانتقلت هذه المواقع من النسق المعرفي إلى النسق السلطوي، عندما بدأ المساهمون في شركة غوغل يهددون بالانسحاب منها بعد سنوات قليلة من انطلاقها، لعدم وجود عائد مادي معتبر، فكان لزاما على مؤسس الموقع لاري بيج وشريكه سيرجي برين الانتقال إلى نموذج أعمال مختلف عما كانا يؤمنان به، فقد كان غرضهما في البداية من المنصة تنظيم المعلومات العالمية وجعلها متاحة ومفيدة، لينتهي بهما المطاف إلى توظيف الإعلانات من أجل الاستمرار، وهذه العملية بالذات عرفت تطورا رهيبا أسست أولا لنظام مراقبة بهدف اقتصادي قائم على التقاط التجربة البشرية وتحويلها إلى سلعة (البيانات الضخمة) ثم بيعها للشركات الاقتصادية وأجهزة الاستخبارات.

ومن خلال التطور المستمر الذي طرأ على ذكاء الآلة وخوارزميات المواقع الاجتماعية، تمكن دهاقنة شركات وادي السيليكون الكبرى، المعروفة اختصارا باسم (GAFAM)، وهي غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون ومايكروسوفت، من التنبؤ بسلوك البشر وفهم طرق تفكيرهم، مما سهل أمر التأثير فيهم وتوجيههم، فالمليارت الأربعة الذين يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي بشكل نشط، ويمثلون نسبة 53.6 في المئة من سكان العالم، سيكونون في قبضة  (GAFAM) وبعض الطامحين إلى التحكم في البشرية والسيطرة عليها بغرض تحقيق أهدافهم، من خلال الخطط المستقبلية الموضوعة لهذا الغرض، تحت مسمى فضفاض “ما بعد الإنسان”، على غرار ابتكار رقائق وزرعها تحت الجلد، أو دمج الإنسان بالآلة لإنتاج إنسان هجين (سيبورغ) وما يثيره من مخاوف إيتيقية.

رسمة (عامر العبيدي)
رسمة (عامر العبيدي)

تتوسل القوى المهيمنة بالمنصات الاجتماعية لتحقيق أهدافها وهندسة الواقع، ففيسبوك مثلا شبيه بأرض عَشِبَة يسهل إضرام النار فيها، فعود كبريت واحد يمكن أن يحرق مساحة واسعة من العشب اليابس، هذا ما يحدث إذا احتدم النقاش حول قضية بعينها، فتتحول في زمن قياسي إلى “تريند” لا يخلو من الجدال البيزنطي غالبا، مع كمية كبيرة من الكراهية التي ينخرط في إنتاجها وتدويرها أعداد مهولة من المستخدمين، الذين لا يعلمون أنهم ضحايا “عدوى” العواطف التي تشرف خوارزميات فيسبوك على ترويجها بين المستخدمين؛ فكل نقرة وكل تعليق وكل مشاهدة، يتم تخزينها في خوادم عملاقة قبل أن تتحول إلى تكهنات وتنبؤات سلوكية (يقوم مركز الذكاء الاصطناعي التابع لفيسبوك بـ06 ملايين تكهن في الثانية الواحد) ثم يجري تعزيز هذا السلوك ونشر العدوى المطلوبة في المناطق والبلدان المحددة، من خلال ظهور منشورات الكراهية مثلا، بشكل مكثف لدى المستخدمين، أو عواطف الإحباط واليأس والثورة وغيرها.

الأمر بالغ التعقيد، لكن ما يحدث لا يمكن التنبه إليه بسهولة أو فهم آلية عمله من طرف المستخدمين الغارقين في فقاعة كبيرة تحجب عنهم الحقائق، فقد أدمنوا التكشف والانكشاف والمرئية، وصاروا عبيدا للنظام التواصلي الذي أوجده فيسبوك، والقائم على خلق مكافآت وتنبيهات تتغذى على هوسنا بالظهور وعلى انحيازاتنا وغرائزنا العميقة. فيسبوك ولد بريئا، كموقع يتواصل فيه طلاب الجامعة، فيثرثرون ويتبادلون المعلومات فيما بينهم ويتشاركون قصصهم وأخبار علاقاتهم، لكن مع تحوله إلى منصة عالمية ضخمة تستقطب مختلف الشعوب والفئات العمرية (يناهز عدد مستخدميه اليوم 3 مليارات مستخدم)، بدأت مجسات الاستشعار الاستخبارية ومراصد الصراع ومخابره في توجيه اهتمامها إلى هذه المنصة للسيطرة عليها وتحويلها إلى وحش عملاق يأكل الأخضر واليابس، تتم تغذيته بخوارزميات فائقة الذكاء، ليتمكن “الأخ الكبير” من مراقبة العالم والسيطرة عليه، من خلال معرفة أكبر بالنفوس والميولات والاهتمامات التي يبذلها المستخدمون طوعا، والتي تتحول إلى بيانات ضخمة تستخدم ضدهم وضد إرادتهم.

 

 الزيف العميق.. انفجار الكذب والشك

 

في هذا الإطار، وعلاوة على الأخبار الكاذبة والحملات المضللة، فإن تقنية “الزيف العميق” تدشن انعطافة خطيرة في الحرب على الوعي الجمعي والتأثير في الجماهير وتغليطها في سياق حروب الجيل الرابع، ومن المتوقع أن تنفجر هذه التقنية أكثر في المستقبل، خصوصا أن معظم معرفتنا الحسية، والتي يقدرها العلماء بـ80 في المئة نستقيها بصريا، والشاشات اليوم لها كل المقومات للاستحواذ على انتباهنا وتزويدنا بالمعارف والمعلومات والأخبار، التي تشكل في نهاية المطاف وعينا وإدراكنا لمختلف الأحداث والقضايا والأشخاص، لذلك تأتي مقاطع الفيديو في صدارة المحتوى الرقمي الذي يشد انتباه الناس بشكل عجيب على منصات التواصل الاجتماعي، أكثر بـ05 مرات من الوقت المخصص لمشاهدة المحتوى الثابت.

يمكن لتطبيقات الزيف العميق إنتاج مقاطع فيديو ملفقة وبجودة عالية يصعب كشف زيفها، معتمدة على دمج تقنيتي الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق، والأخطر عندما يتم التلاعب برموز الدول والشخصيات المؤثرة فيها، سواء التاريخية أو الراهنة، وإنتاج فيديوهات تظهرها في وضعيات غير لائقة أو تدلي بتصريحات معاكسة لما هو حقيقي وواقعي، بهدف استنهاض الرأي العام وتهييجه.

إن الخوف الأساسي في الحقيقة ليس من هذه التقنية في حد ذاتها، وإنما من انحسار التفكير النقدي لدى مستخدمي وسائط الاتصال وكسلهم المعرفي وميلهم إلى تصديق كل ما تقذفه المواقع والمنصات الاجتماعية دون “قراءة طباقية” تبحث في السياقات والأهداف الثاوية خلف أيّ صورة أو مقطع فيديو، وهذا يقود إلى ضرورة التفكير في مناهج تعليمية تراعي هذه الجوانب في الثقافة الرقمية وإعداد الفرد بعدة معرفية تمكنه من تلافي مثل هذه الهجمات المتنامية والتفطن لها قبل أن تلعب بعقله وتوجهه.

 

كاتب من الجزائر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.