من ديوان "الظِّلُّ الحارس"
ظهرت الطبعة الأولى لهذا الديوان في دار غاليمار سنة1961، مع مقدمة للشاعر أراغون. احتوى النص على خمس لحظات: الظل الحارس، عناصر، القيلولة، حاشية بدون نهاية و أطوار الليل. أعادت دار سندباد طبع الكتاب سنة 1984؛ طبعة جديدة مزيدة تضمّنت نصوصا جديدة، و مقدمة أراغون في سنة 2003 أعادت دار لاديفرونس طبع الديوان مع نص أراغون “من الألم يولد الغناء” وهو المقدمة الأصلية. وستشكل النصوص غير المنشورة اللحظة السادسة من النص تحت عنوان: احتفاءات.
الظِّلُّ الحارس (1)
أغْلِقْنَ الأبْواب
أيّتُها النّسَاءُ، النُّعَاسُ المُرُّ
سَيَغْمُرُ أعْصَابَكُنّ،
الماءُ، و الرَّمْلُ ذَوَّبَا
أثَرَ خُطَاكُنّ،
فلا شَيْءَ تَمْلِكْنَهُ
بعيدةٌ هي الالتِمَاعَاتُ
القليلةُ للنّجُوم
وكثيفةٌ هي الأراضي المُجَاوِرةُ،
البيوتُ سوداءُ
تَأْوِي رَاحَتكُنّ.
أغْلِقْنَ الأبْواب
أنا الحارسةُ
لا شَيْءَ تَمْلِكْنَهُ.
الظِّلُّ الحارس (2)
لكن سأغنّي لِبُرْهَةٍ
حَتَّى لا يَشُوبَ العناءُ
أبَدًا نَوْمَكُنَّ؛
سَلاَمٌ عَلَيْكُنَّ، أيَّتُها الأمّهات، و الزّوجَاتُ،
سيكون الطّاغيةُ مَصّاصُ الدّماءِ
غبارًا في سِلاَلِكُنَّ.
أَسِيرُ على الجَبل
حيث يَنْشُرُ الربيع
الذي يأتي أعْشابًا عَطِرَةً؛
أنْتُنَّ جَمِيعًا الَّلوَاتي يَسْمَعْنَني،
عِنْدَمَا يَليِنُ الفَجْرُ
سآتي لأغْسِلَ عَتَبَاتِكُنَّ.
و أغْمر بالغناء
زغردات الزمن.
الظِّلُّ الحارس (3)
لا تَتَسَاءَلْنَ
إذا ما كانت الرّيحُ الّتي تَزْحَفُ
فوق الذُّرَى
تُذكي لهيباً؛
هلْ كانت نارَ بهجة،
هلْ كانت نارَ فقراء
أو علامَةَ رَاصِدٍ.
أيّتها النِّسَاءُ المُدْهِشَاتُ
الغارقاتُ في اللَّيْلِ
اللَّواتي يُغْلقِن أبُوابهنّ، أُحْلُمْنَ.
أَسير، أسير:
الكلماتُ التّي أحْمِلُ
على اللسَان
هي بُشْرى غرِيبةٌ.
انْبلاجُ الفَجُرِ
يَنْبَلِجُ الفَجْرُ والطَّبيعَةُ
تَنُسُجها خيوطُ الدَّم، والرّيحُ،
الصَّمْتُ والعواصفُ الشَّاحِبةُ.
غناءُ صوتٍ عذبٍ يدور
دون تَوَقّفٍ فوق الرّوابي
كَلُّ ارتباطٍ قُطِعَ – آه كيف أحْيا؟
بيتي مَأْوى الجليد،
الريح تعصف حتّى الموت، – لكنك تَهمِسين:
“لَيَنْتَهِ فقط المنفى”؛
“النّعناعُ الجديد أَزْهَرَ”،
شجرةُ التّين أثْمرَتْ،
“لَيِنْتَهِ فقط الحِدَادُ”.
في زَمَنِ العذابات، أنْتِ وَحْدَكِ
يا ابْنةَ الخُزَامَى بِقَلْبِكِ المُعْتِمِ،
أنتِ وحدك تستطيعين الغناء هكذا.
السّاعةُ المجنونة
السّاعةُ المجنونَةُ تتيهُ، سوداء،
ستتعَّرفُونَ عليها
عَبْرَ الحِقْدِ الأسْوَدِ المُفْرِط،
والصُّرَاخِ الحَادِّ، والرّيح العاتِيَةِ.
مولودةٌ من الكلْسِ القديم
ونيرانِ البَحْرِ،
مجاذيفُها باتِّجاه الموْتِ
تنْبْثِقُ غرِيبةً من جديد.
ستتعرّفُونَ عليها:
إنّها ساعة الحداد، ساعةُ
الدّمِ الأصْهَبِ فوق الدوالي،
وجُنُونُ الضياء.
عِـــدِّيَّـــةٌ (1)
واحِدٌ.
لِلنَّار،
للسِّكيّن، هذه اللعبةُ
تُفْقِدُ المَشْهَدَ وِحْدَتَهُ.
إثْنان.
عند الأحياء
تجعل العيونُ من الكلمة
صُفَّيْرًا مُوحِشًا.
ثلاثةٌ.
ظِلٌّ و أسِيرٌ
أسِيرٌ وظِلٌّ
(1)- عدّيةٌ (Comptine): لتعيين من يقع عليه الدور في اللعب.
أربعةٌ.
يتساقط الثلج.
صمتٌ
أسِيرٌ و ظِلٌّ.
خمسةٌ.
ليسَ سِوَى ثلجٍ قليلٍ
وكلُّ شيء أُخِذَ،
وكلُّ شيء أُخِذَ،
ستةٌ.
المَوْتُ
في مُنْتَصَفِ مَوْضِع آخَرَ
يَسْهَرُ بِعَيْنٍ واحدةٍ.
واحدٌ، اثنان،
ثلاثة، أربعةٌ، خمسةٌ،
سِتّةُ مَوْتَى.
إلخ.
صَــــوْتٌ
الظل الحارس
يُفَتّحِ هذا الصباحُ عينيهِ
في الضباب، الوحْشَةُ
وبعضُ أزهار البريّة.
هناكَ تَشْتَعِلُ أعشابٌ، يَابِسَةٌ،
هنالكِ يَخْفِقُ شِرَاعٌ
أَمْ هي امرأةٌ تمشي؟
أنْظُرُ إلى هذه الأراضي الحمراء
وأفكّر: ربمّا هذا كلُّ
ما يجعلني قَلْبًا عَنِيدًا.
فجأةً يرتفعُ صَوْتٌ
يَرُدُّ عليَّ في الضياء
اللامتناهي، وكُلُّه ارتجافٌ:
تتوالى الفصول، وتمرُّ
السِّنِينُ لكنّني شابًّا أبقى،
شابًّا أُولَدُ مِنْ جديدٍ، أكثر شبابًا.
“كهذا النّهار المبلَّلِ بِالنّدى
والّذي ما يزال بَعْدُ باردًا. أحِبَّنِي!”
والريح تُردّدُ: أحِبَّنِي…
على الأرض تائِهةً
عندما يَنْكَسِرُ اللّيْلُ،
أحْمِلُ دِفْئي
للَجِبال القاطعة
وأتعرّى على مَرْأَى الصّباح
كتلك التي قامت
لتحتفي بالماء الأوّل؛
غريبٌ بَلدي حيث
تتحَرّرُ الكثير من العواصف،
وتختلج أشجارُ الزيتون
في الجوار وأنا أغنّي:
أيّتُها الأرض المحروقة السوداء،
يا يَمَّا خيتي
ابنُك لن يبقى وحيدًا
مع الوقت الذي يَنْهَشُ القلْبَ بمِخْلَبِهِ؛
اسمعي صوتي
الهَارب في الأشجار
الذي يجعل الأبقار تَخُورُ
لقد جاء صباحُ الصّيْفِ هَذَا
أكثر خفوتًا من الصمت،
أشعر كما لو أنّنِي حامِلٌ
يا يَمَّا خيتي
النّسَاءُ في أكواخِهن
ينْتَظِرْنَ صرْختي
لماذا يُقَالُ لي، لماذا
هل ستزورين عتباتٍ أُخْرَى
مثل امرأة مطلّقةٍ؟
لماذا تَضِيعين مع صرختك،
أيّتُها المرأة، عندما
تبدأ أنفاسُ الفجر
جَوْلتَها على الرّوابي؟
أنا التّي تقول، يا جزائر،
ربّما لستُ إلاّ
إحْدَى نسائك المَغْمُورَاتِ
لكنَّ صوتي لن يتوقف
عن اسْتِصْرَاخِ السُّهوب والجبال؛
أهْبِطُ مِنَ الأَوْرَاسِ
افْتَحْنَ أبوابكُنَّ
يا زَوْجَاتِ الإخْوَةِ
امْنَحْنَنِي الماءَ العَذْبَ،
أتيتُ لرؤيتكنَّ
حاملةً لَكُنَّ الهناءَ،
لكُنَّ و لِأَبْنَائِكُنّ؛
لِيَكْبُرَ مواليدكُنّ الجُدُدْ
لِيَنْمُوَ قَمْحُكُنَّ
لِيَخْمَرَ خُبْزُكُنَّ أيضا
وليكُنْ كلُّ شيْءٍ على ما يُرام،
وليكن الهناءُ حليفَكُنَّ.
عناصر
_1_
نجْمَةُ بنات نعْشٍ الكُبْرى تعْبُرُ صارخةً
في قلب ضبابٍ من الدّم الكّثيف.
كَوْمَةُ نحاسٍ بلا ذاكرةٍ،
مَنْجمٌ و سِرْبُ طُيُورٍ يُغَنِّي
يحيط به مَطَرٌ لا يُهْزَمُ،
يَحْرُسُ شجَر ” الباؤُوبات”(1) منذ الطفولة
وصَوْتُ “مِينُوُتُورٍ” مُتْعَبٍ
ضَيَّعَ من زمانٍ شكوى
مدينةٍ فارغَةٍ تمامًا، خرْساءَ تمامًا.
(1) الباؤوبات (Le Baoba) : شجر استوائي.
_2_
صمتٌ أقوَى لِلْأَقْدَامِ،
صمتُ أشواكٍ خضراء
وأيَادٍ حوْل العُنق،
امرأتي تُصَارِعُ الجُوع
الّذي لا نستطيع اجْتِثَاثَهُ
تُغَنِّي وحَدَقَتَاهَا مُغَلقتان.
مازال الثلجُ يتساقط. النجمةُ
الّتي تقتل النّهارَ على جَسَدِها
تحوّلتْ إلى رمادٍ، كلُّ شيءٍ رمادٌ.
وتصْرخُ قربي، فَمًا
لطِيفًا لا شاحبًا ولا أحمر،
حوريةً من دَمٍ تنامُ.
_3_
يَدُ القلب الكبيرةُ
مبْسُوطَةٌ في عالَمِ
وحوشٍ ونارٍ
ترتجف وقد غطّاها السَّوادُ.
نافذةُ الطّفولةِ
اكتُشِفَتْ من جديد في الشمس
مَرْجٌ مُشْتَعِلٌ
يتبعها بَيْنَنَا
أيّها الماءُ المُنْهَكُ،
آسَفُ، لم يعد يشدُّكَ
إلاَّ خيط أحمر قاتِمٌ،
أيّها الماء الهادئ، الماء الذي لا يَنْحنِي.
_4_
مَطَرٌ شاحبٌ
يُحْرِقُ كلَّ الحدائقِ
أيّها الطاووس النَائِمُ هل آنَ الأوان؟
وردةٌ نجميّةٌ ضخمةٌ
تَشْرَبُ أجسادنا حتى العظام،
الذِّئابُ تطارد أيدينا.
هل آنَ الأوانٌ، أيّها الفم المفتوح؟
الماءُ الأسْوَدُ يبْحثُ عن قلب
دون أن يتعب أبدًا.
لأنّهُ سَمِعَ
تَوَرُّقَاتِ دَمٍ
مِنْ رَبْوَةٍ عاليةٍ.
_5_
نجمةٌ تغنّي في تخومِ غابةِ
العالِم وتلْمَعُ مِثْلَ مَيِّتٍ
تأتي لتُفَتِّشَ الأرْضَ عندما أكونُ نائمًا.
قَدِيمًا كانتْ هناكَ امرأةٌ غَامِرةُ الشُّحُوبِ
على صَدْرِها مِدْخَةٌ(1) بيضاء
كانت جالسةً عند عتبة البلاد.
سَأَمُهُ كان يفتح رَاحَاتٍ كبيرة؛
وعلى المرْج طِفلٌ أعمى
كان يبكي، نَوْمَ جسدي نفسه.
(1) - مِدْخَة (Polypier): مجموعة من المديخ تعيش على قاعدة كلسية واحدة .
_6_
عندما استيقظتُ
كانت نجمةٌ صابرةٌ
شاحبةٌ بلا حَدٍّ
تُغَنِيّ تحت وَابِلٍ
مطَرٌ يسيلُ
حيث كنّا نرى دَمًا؛
المدينة تنغلقُ
على الأشجار و الأحجار.
كان يلزمني انتظارُ
الربيع و النجمةِ
الّذَيْن يمزّقان الضباب
وأتيهُ مُصْغِيًا.
أريكة القيلولـة
في امتلاء النهار- فجأةً
يَبْدو أنَّ الَّليْلَ يُلْقي سُدُولَهُ
أحْلُمُ أنَّ ظِلاًّ يُقَبِّلنِي
فتَصِيرُ الحياةُ خفيفةً عليَّ.
ثمَّ – فجأةً – أستيقظُ
لكنَّ النّحْلَةَ وحْدَهَا
تَطِنُّ حولي بجنَاحَيْها الباهِرَيْنِ.
ترْسُم بِبُطْءٍ دوائِرَ
فَوْقَ ضَمَّةٍ من نَرْجِسٍ،
فإذا الضياءُ قد قدَّهُ الصّمتُ.
نُورٌ مُعَاكِسٌ
تَلُوحُ الطُّيُورُ،
تلْتَهِبُ شُعْلَةٌ
فإذَا هي المرأةُ؛
بِلَا اسْمٍ و لا آصِرَةٍ و لا حِجَابٍ،
تائهةٌ بعَينَيْنِ مُغْلَقَتَيْنِ،
المرأةُ المغْموُرةُ بِنَدَاوَةِ البَحْرِ.
لكنْ فجْأَةً تَلُوحُ الطُّيُورُ مِنْ جديدٍ
و تتَمَدَّدُ هذهِ الشُّعْلَةُ
في عُمْقِ الغُرْفَةِ بِالكَادِ نَلْمَحُهَا.
وإذا هو البَحْرُ،
الَبَحْرُ حاملاً الشّمْسَ بالأيدي المُهَدْهِدَة،
لا شرق ولا غرب، لا عقَبَةَ ولا حاجز، البحرُ؛
لا شَيْءَ سِوَى البَحْرِ المُعْتِمِ و الهادِئِ
ساقِطًا من النّجوم، شاهدًا على تقطيعات السّماء،
وحدةٌ، استشعاراتٌ، وَشْوَشاتٌ،
لا شيْءَ سِوَى البَحْرِ
العيونُ مُطفأَةٌ،
بلا موجٍ ولاَ ريحٍ، ولا شراعٍ.
فجأةً تظهر الطُّيُورُ من جديد؛
فإذا بها المرأةُ
لا نجمٌ لا حُلْمٌ، لا تَدَفُّقُ ماءٍ لا ناعُورةٌ، هي المرأةُ.
الطُّيُورُ تعود؛
ولا شيءَ سِوى البَحْرِ.
أَرْضُ الظّلِ
صُبَّارُ البَطْنِ ونعناعٌ
أشْرَبُهُ في نبيذي هذا المساء،
احْتِراقُ جِلْدٍ و أشواكٌ تَخِزُ،
رَغْبَتِي
حَوْلَ أَرْضِ الظِّلِّ
وفصولٌ خضراءُ ترْقُصُ
في خطِّ الأفُقِ.
تأْتُون مِنَ الظِّلّ،
تَشْرَبُونَ طيلة النهار
صُبَّارَ البطن و نعناعًا.
حاشيةٌ بلا نهايةٍ
ميناء
إنّها تُمْطِرُ؛ الميناء يَضِجُّ. لماذا أنا هنا
أنظرُ إلى السفينة البيضاء ؟
الأرصفةُ رماديَّةٌ بِحَشْدٍ سَاكِنٍ.
الشمس عالقِةٌ عبر الأدخنة.
ماذا تحتاج ؟ أنت تتألّم حَدَّ الصراخ.
الباخرةُ رحلتْ، ها هي المدينةُ.
شتاءٌ في كلّ مكانٍ، كابوسٌ من ماءٍ
ومِنْ سَأمٍ يُغَطّي “بُورْدو” بلا نهاية
والآن أين سَتَجدُ الطّمأنينةَ؟
إنَّهُ مَا لاَ يُسْبَرُ غَوْرُهُ أين يهتاج المطر؛
ما أن يمرّ مُنْتَصَفُ النّهار، حتّى يَحُلَّ اللَّيْلُ.
الآن أين ستذهب باحثا عن ملجأ؟
أفي هذه السنيما ، في هذا البار الذي تراه
مُزَدهِيًا بالأضواء، والسّكارى الغامضين و الأصوات ؟
يا لِلْأحْمَقِ الّذي يقول هذه الكلمات غير المُجْدية !
شكوى
يا لِمَرَارَتِكِ يا مَسَاءاتِ باريسَ النّاعِمَةِ؛
لِلْمَنْفِيِّ، باريسُ المُظْلِمَةُ جحيمٌ،
عندما تستريح السّماء الرّماديّةُ و الوَرْدِيّةُ على نَهْرِ “السِّينِ”
راجفةً يصرخ قلبُها كّله وينزف.
أيُّ غريب هنا لا يشعر أنه في بلدِهِ؟
لكنّ هذه الحالة تصيبك حين يحلّ الليل.
لا مكان لنا في هذه المدينة الكبيرة،
نظن ذلك؛ وهو الحُلْمُ السَّيِّءُ الّذي يعود من جديد.
لا أستطيع شيئا، هذه الساعة تثير جنوني؛
و مِثْلَ مُرَحَّلٍ يلْعَنُ سَريرَهُ الحديديّ،
باريس، كلُّ باريس كما هي أَنْذُرُهَا لِلشَّيْطَانِ؛
أيُّها النّاسُ الطيّبون، اغْفِرُوا لي ألمي الذي لا يُشْفَى.
ما تزالُ سائرًا بينما يموتُ النّهارُ… شارعُ
“بونابرت” ثمّ رصيف “ملاكي”، و رافِعَاتُ
ورْشَةٍ، جِسْرُ الفنون، تلقي ظلالاً مُضْطَرِبَةً،
ثمّ “اللّوفر” ينام بِنُعَاسٍ ثقيلٍ ومُعْتِمٍ
تمضي أشجارُ الحَوْرِ، وهي تروي راجفةً
بخفوتٍ، خُرافةً للعابر لا نعرفها،
الإنسانُ يُباع في المزاد، مُثيرًا الشّفَقَةَ الكبيرةَ لِعَصْرِنَا،
تمضي أشجارُ الحَوْر السوداء، و أوراقُها طافِحَةٌ بالحفيف…
ساحةُ “الكُونْكُورْد”، نسيانٌ مفاجئٌ لِلذّاتِ.
نهْرُ “السّين” فارغٌ لكنَّ الضِّياءَ الحريريَّ،
هو في الوقت نفسِه حُلْمٌ مُتَّقِدٌ وفكرةٌ جوهريةٌّ،
يعيد لي السَّلَام تحت الغناء العاري للسّماء.
السيّدات الطيّبات
العُيُونُ الكبيرَةُ السَّوْدَاءُ الغارقةُ في الحنينِ
كانَتْ ترْصُدُ في شارعِ
“سِيباسْتُوبُول” الطّائِرَ النّادَر،
وأنْتنَّ، يا صاحبات الشَّعْر المُثْقَلِ بِالسِّحْر
المُنْعَكِسِ على الواجِهَاتِ،
أَيَّ عالمٍ مِنَ المغامرات تسْحبْنَ
وأَيَّ خَيْبَاتِ أمَلٍ ؟
أَنْتُنَّ حافَّةُ النّهْرِ و الضَحِك
الرَّطْبَيْن الباعِثَيْنِ على الموْتِ
من يَبِعْنَ أَنْفُسَهُنَّ حين يَحُلُّ اللَّيْلُ.
أيّتها الأخواتُ، يأتي التّائهُ على آثارِكُنَّ:
يمْنَحُ لَكُنَّ أزْهَارَهُ الزَّائفة البريق.
أنتنّ اللَّوَاتي تُوصَفْنَ بالبهْجة، اقْبَلْنَ
الباقةَ و الأغنيةَ العاطفية؛
يا شبيهاتي، أين هو الحب الكبير إذن !
لا تَبْخَلْنَ بطِيبَتِكُنَّ، ولا تَتَكَبَّرْنَ
بِلَقَبٍ لا نَعْرِفُ مَا نَفْعَلُ بِهِ.
غريبٌ
إذا لم يَكُنْ هَذَا البَرْدُ، فمَنْ يُشيرُ لي؟
هلِ الحُلْمُ المُنْتَهِي بِسُوءٍ، الظِّلُّ الأَسْوَدُ والصَّوْتُ
مَنْ يُبْكي الطفلَ، أو الضبابُ الشتائي؟
هذا أنا… أنا، المُزْعِجُ الّذي يعْتَرِضُ طريقَكُم.
لست مَيِّتًا و لا حَيًّا، في أرْضٍ أخْرى مكاني.
جحيم الحَدَّادِ أقلّ مِنِّي تآكُلاً،
وأقلّ احتراقًا عودةُ روحٍ متألمّةٍ؛
النظرة التي تُلْقَى على الغريب تُبْعِدهُ.
هو شحُوبٌ، هو لَوْنٌ
مُظْلِمٌ ومُضيءٌ، يومٌ واسِعٌ بين الكلْب والذِّئْبِ:
هل تُصَدِّقُونَ، أنا مَخْلُوقٌ مِنْ هَذَا الأَلَمِ.
أنا جئتُ مِنْ مَكَانٍ آخَرٍ، ما قيمةُ شيءٍ نأتي به إلى المِسْمَارِ
وها هي الرَّيْبَةُ تكْبُر فيَّ،
وتتعمَّقُ أكثْرَ وِحْدتي.