من ليل بيروت إلى نهار بغداد

الثلاثاء 2020/09/01

في العادة لا نكتب عن مدنٍ لم نزرها إلّا لدواعٍ استثنائية، أو لحدثٍ جلل، وبيروت مدينة استثنائية في كلّ شيء.

ومنذ أن أصبح للكلمة في دنيا العرب فرسانها من ذوي الأقلام الحرّة، ورصيدها من القرّاء والمتابعين وجدت في بيروت ملاذها الآمن ما شجّع أهلها والمقيمين فيها على التفنّن في صناعة الكتاب، طباعة ونشراً وتوزيعاً، ولم تستطع المدن الأخرى، على علوّ شأن بعضها على اللحاق بها في هذا المعترك المهم: القاهرة ، بغداد، دمشق، عمّان، تونس، الدار البيضاء، دبي… ونحن نعرف ما لعامل الاستقرار السياسي والاقتصادي من دور مهم في ذلك وترسيخه، وبيروت إلى منتصف العقد السبعيني من القرن الماضي هي الأكثر استقراراً بين مدن الشرق العربي وعواصمه، ما ساعد على تهيئة المناخ المناسب لازدهار قطاعات حضاريةً مهمةً كالسياحة والمال والثقافة.

وبقدر تعلّق الأمر بالثقافة يطيب لي أن أذكر هنا، وأنا في أوّل مشواري مع الأدب والشعر والثقافة، في نهاية العقد الستيني، كيف كنّا ننتظر بشغف المطبوع البيروتي، وكانت مجلات مهمة مثل “الآداب” و”شِعر” و”مواقف” وسواها نحرص على متابعتها واقتنائها، على الرغم من عدم انتظام وصول بعضها إلى العراق، وحجب بعضها الآخر. والمحظوظ فينا من يجد فرصته في النشر على صفحاتها أو في طبع كتابه هناك.

كلّ هذا جعل من بيروت عاصمةً دائميةً للثقافة الحرّة في عالمنا العربي، لذا استهدفها الجميع بلا استثناء. وأعتقد أن دورها الريادي هذا في الثقافة العربية الحرّة هو الذي جعلها تدفع، ومنذ عقود، الثمنَ غالياً، إذ أنّ العقلية الاستحواذية التي تتحكّم بشؤون الناس في الشرق العربي لا يمكن لها أن تتصالح مع مساحة الضوء هذه مهما كان حجمها، فلا عجب أن أصبحت بيروت ساحةً للصراع بين سدنة الظلام هؤلاء: من حكومات مارقة وجماعات مسلحة ودعاة كذبة، وهو في معظمه صراع مُفتَعل، فكان أن خسر أحرار العرب، أو كادوا، واحتهم الأجمل، ونافذتهم الحرّة على العالم.

ومن قصيدة قديمة لي  كتبتها عام 1977 هذان المقطعان، لعلّ في إشارتهما إلى واقع بيروت في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي ما يُغني:

من ليل بيروت إلى بغداد

أهبط بيروتَ قبيلَ الفجر

أهيم فيها شارعاً فشارع

 وشرفة شرفة

أطلّ منها فزِعاً

إذ لا أرى سوى حصادِ الموت

فأكتم الرجفة

عند قدوم الليل

فالليل في بيروت

بعد انطفاء الصوت

مقبرة شاسعة

وجثّة مُهملَة

في آخر البيوت.

 ☆☆☆

لم تكنِ الطريق

طويلة

من ليلِ بيروتَ الى بغداد

لم تكنِ الجراح

معصوبة بعد

فكان جرحي غائراً في الروح

وكانت السماء

سَحابة من ورقٍ وريح

سَحابة واحدة

تمتدُّ .. تمتدّ

وكانتِ الصحراء

جارحة

ملغومة بالوجد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.