من وحي سيرة لطفية الدليمي الفكرية
الكتابة عن لطفية الدليمي فخ يوقع بقدرتي على الكتابة النقدية بسهولة؛ فثمة إطارات متداخلة عندي بين ما تكتب وبينها هي كإنسانة وسيدة عراقية تربوية وأمّ وكاتبة. الإطار الذي يخطف أنفاسي هو شعوري الدائم أن لطفية تكتب عنا؛ فأنا لم أقرأ لها نصاً لم يتوقف فيه قلبي للحظات وأتأمل النص فيها. تمتلك لطفية تقنيات سحرية خاصة، ويبدو لي دائماً – أنا القارئة التي انغمست في نصوصها – أن سرّها يتمثل في نقل الإحساس وتلوين الكلمات به تلويناً حياً نابضاً يحيط بالفكرة ويمنحها الحياة والتميّز.
في هذا المقال سأحاول إعادة قراءة لطفية الدليمي عبر سيرة ثقافية حاولتْ فيها هي أن تمر بإيجاز على حياة ثقافية حافلة ومليئة بالتفاصيل وممتدة طوال فترة تأريخية مهمة، وإن كانت الكاتبة قد ركزت فيها على الفردي لا على العام، ولم تتوقف كثيراً عند التغييرات الأيديولوجية التي مرّت على العراق أو المنطقة العربية خلال مشوارها، ولم تشرح أو تفصّل كيف انعكست مثل تلك الأفكار على الأدب والأدباء (نورمان فيركلف، الخطاب والتغيير الاجتماعي، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015)، الأمر الذي يمكن تمييزه في نصوص سيرية ثقافية عراقية سبقت كتابها “عصيان الوصايا”، مثل كتاب “في ثياب الإمبراطور” لفوزي كريم، وكتاب “الموجه القلقة” لفاضل العزاوي، و”الموجة الصاخبة” لسامي مهدي، وكتاب “حطب إبراهيم” لمحمد مظلوم، وهي – كما يشير علي حاكم صالح في بحث له بعنوان “دساتير الأجيال الأدبية ” (مجلة أبحاث الكوفة، العدد الرابع، 2013) – كتبٌ تغص بالشتائم والاتهامات والتكذيب وبنوع من اللغة التي تجعل الكاتب جزءاً من مشهد ثقافي عام معنيٌّ هو فيه بدرجة ما بما جاوره في زمانه من شخصيات؛ بينما اكتفت لطفية الدليمي، كما أرى، باتخاذ ذاتها وسيلة لقراءة العالم وفهمه دون اللجوء إلى مقارنة أو تحديد لمكانها بين مُجايليها.
كتابُ “عصيان الوصايا” للكاتبة لطفية الدليمي، الصادر عن دار المدى عام 2019، يتألف من جزأين: الأول صريح أو مباشر ويتضمن سرداً سيرياً لنشأة الكاتبة الأولى؛ فيما يتخذ الثاني صيغة سيرية غير مباشرة اعتمدت على قراءات أدبية وفكرية متنوعة، واعتماداً على ذلك قسّمتُ هذا المقال إلى قسمين بحسب الطريقة المستعملة في أحد نوعي الخطاب المباشر وغير المباشر. الطريقة في الأول تكدس الإخبار وفي الثاني الحذف والاختيار.
تكدس الإخبار
يشيرُ هذا المصطلح إلى الانشغال الشديد بمعنى ما، وإلى وجود خصائص أيديولوجية مخبأة بعناية ورهافة في مستوى النص، وعلى مستوى كتاب “عصيان الوصايا” فإن المعنى هو محاولة مواجهة أيّ هيمنة أو تسلط مفروضة على الإنسان ومجابهتها بالوعي وتمكين العقل والمنطق.
يعتمد “تكدس الإخبار” على التركيز على إيراد الأخبار المتكررة لأثبات وجهة نظر كامنة في الخطاب، ويستعمل في خطاب السيرة المباشر؛ إذ تكتب لطفية عن نشأة أولى لطفلة بين بساتين ديالى في توقيت زمني معين وضمن ظروف بيئية واجتماعية استثمرتها الكاتبة في صغرها لتصنع منها أجنحة للحلم بالمستقبل.
بلغة عالية الإحساس ممزوجة بالشعر وبالإيقاع تختار لطفية تجسيد كل ما مرّ على حواسها للقارئ فتنقل بذلك تصوراً مصحوباً بعمق الإحساس عن محيطها في أول وعي الكاتبة فتقول بادئة سردها “كان عليّ أن أخترق أول التابوهات مطوقة بخوفي وحده؛ فكيف لمخترق المحظور أن يكف عن الخوف وهو أمام كشف مدهش؟ شهوة مواجهة المجهول هي ما يجعل الخوف – وليس الإقدام – دافعاً للاختراق، الحواس البكر تنقذف في التجربة وتجعلنا نبصر ونشم ونسمع المحرمات” (عصيان الوصايا: كاتبة تجوب أقاليم الكتابة، المدى ، 2019، ص13).
يتشكل الخطاب هنا معززاً لفكرة منسجمة مع العنوان “عصيان الوصايا”، وأولى تلك الوصايا هي تحدي الخوف الداخلي والبحث عن لغة خاصة للحوار مع الحياة.
تجيئ لطفية بالعديد من مواضع الوصف والذكريات للطفلة، تلك الذكريات التي تعزز خطاب تمزيق الحجب والبحث عن الحرية، معتمدة أسلوبا اقترحه فيركلف في دراسة “الهيمنة والنص” عبر “تكدس الإخبار”، وهذا مصطلح يستعمل في دراسات الخطاب يحيل إلى عملية رفد الفكرة وتأطيرها والإحاطة بها عبر استثمار مجموعة من الأخبار والحكايات المختلفة في الشكل والمتشابهة في الدلالة.
تشرح الكاتبة في البداية التأثير الذي مارسته عليها البيئة عبر شخصيتين: الأب الماركسي الذي ترك الأفكار الدينية، وحاول أن يقنعها بما يملك هو وأصحابه من الأفكار التقدمية الجديدة باحثاً عن اليوتوبيا والعدالة موهوماً – كما تشير – بسحر تلك النظريات محاولاً إقناعها عبر الكتب والمجلات التي يحضرها لها وهي ابنة التاسعة! والشخصية الثانية هي شخصية زوج الخالة الذي كان يحظى بقبول العامة ونفور المثقفين لأنه كان متديناً يقيم مجلساً للذكر في داره كل ليلة جمعة ويرقي المرضى.
هذا السرد السيري الذي يغوي القارئ بالإكمال ويفتح له نوافذ فضوله عبر لغة سلسة جميلة يتبنّى موقفاً يشير إلى أهمية إيجاد الصوت الخاص للفرد، واجتراح طرائق حياته الخاصة. ولتثبيت مثل هذه الفكرة سنجد أن النص يدعمها بتكرار مثل هذا الوصف الخبري والقصص لنشأة الطفلة.
يشكّل الخطاب أداةً سحريةً يمتلكها الكاتب لتوجيه الوعي وتركيزه على بؤرة معينة تختزل الرسالة التي يريد أن ينقلها، ويعتمد في ذلك على مجموعة من التقنيات التي توفّرها اللغة وربما سيكون أقربها إلى توصيل الفكرة هو أكثرها انحيازاً للجمال والإبداع وما يبدو عليه للوهلة الاولى البراءة من أيّ محمولات دلالية مختبئة، وهذا ما تمتاز فيه كتابات لطفية الدليمي بشكل عام وتجسدت هنا في الكتاب موضوع الدراسة بشكل أكثر وضوحاً، ويشكل “الخطاب: التخوف” من توقع وجود صراعات وانتصارات وجروح وعبوديات عبر الكثير من الكلمات (الزواوي بغوره، بين اللغة والخطاب والمجتمع: مقاربة فلسفية اجتماعية، مجلة إنسانيات، الجزائر، العدد 17- 18، 2002).
إذن توجيه النص السيري هنا عبر استثمار وجود العديد من الأخبار والقصص التي تصب في مصب الفكرة الواحدة والتي تشكل حسب تعبير فيركليف المعلومة أو نقطة الانطلاق، وهي بالنسبة إلى لطفية تعتمد على شطرين:
الأول: يتمثل في التحرر ممّا هو سائد وقار وثابت عبر محاورة الذات وإقناعها في التخلص من خوفها، وعبور الأمكنة المظلمة نحو فضاءات الحرية شاسعة النور، وهنا في التحريض على الشك، وعدم التصديق المطلق بالمقولات دون إعادة فحصها، والتأكيد أيضاً على أهمية التجربة.
الثاني: ويتعلق بالأول ويسبب له، فلا بد لك في رحلة المغامرة والعبور هذه أن تتزود بما تحتاج من قيم روحية تغذي قدرتك على المطاولة والصمود وحسن التدبر او الاختيار مثل التشجيع على الموسيقى، وحب الطبيعة، والتعرف على العلوم الطبيعية، والنظر إلى التراث بطريقة أكثر توازناً.
الحذف والاختيار
كما هو معروف في أنّ كتابة السيرة تخضع لسيطرة الذاكرة الانتقائية التي تقدم بعض الحوادث وتؤخر أخرى، والسيرة الثقافية أيضاً لا تختلف عن ذلك فثمة توزيع مرآوي على طريقة جاك لاكان في انعكاس صورة الكاتبة في القراءات التي تقدمها وتختارها، وكما يقول إيرل شافتسبري “أيّ كائن عاقل أو مفكِّر قادرٌ بطبيعته على رؤية عقله وأفعاله، وامتلاك تصورات لنفسه ومكنوناته الداخلية وهي تمر أمامه باستمرار وتتَّضح له وتدور في عقله”.
جعلت الكاتبة من الكتب التي حاورتها في سيرتها مرآة عاكسة لها فأخذت منها ما يشبهها وتركت الغريب والبعيد عنها، وهذه السيرة الثقافية حافلة بالكثير من المؤلفات، وتبدأ رحلتها في قراءات متعددة أولها سيرة الجوع في رواية “بيوغرافيا الجوع” للكاتبة إميلي نوموثب “وتقرر أن تاريخ الحضارة الإنسانية هو بالأحرى تاريخ الجوع وصناعة الجوع؛ فالجوع هو أن تريد، أن تأمل، أن تنتظر، والجائع هو من يسعى، أما الكائنات التي تولد وهي متخمة فإنها لن تتعرض لمعرفة القلق والانتظار والشقاء الذي يؤرق طوال الليل والنهار (عصيان الوصايا، ص101).
تثبت الكاتبة في قراءتها هنا ما تختار من فلسفة تتبناها عبر فكرة الرواية وبطلتها، فكرة تعلي من شأن الكفاح في الحياة: البحث الدائب عن طريقة لسد الرمق وايجاد القوت اللازم للعيش، مقارنةً بين هذا النوع من القلق والبحث وبين ما تسببه التخمة والوفرة من كسل فكري وبلادة في روح الانسان:
“ففي هذه الجزيرة لا يعرفون الجوع، وما من شهية للطعام بسبب الوفرة، يأكل الناس هنا بطريقة روتينية حتى لا تشعر الطبيعة المعطاء بالإهانة لانصرافهم عنها، الطبيعة هناك هي الأم المانحة؛ فكل شيء يمكن طبخه على صخور سخنتها الشمس وبوسع المرء قطف الثمار من شجر الغابة متى شاء دون جهد، ولن يعرف هؤلاء الناس شيئاً اسمه الجوع حتى لتبدو الحياة عندهم مملة بليدة كنزهة أبدية للبطالة لافتقارها إلى السعي والابتكار والمثابرة التي تمنح الحياة معناها ومحفزاتها بينما تنشأ في المجتمعات الجائعة روابط وألفة وتنشأ أساطير عن المعاناة والتساند بين الجياع” (عصيان الوصايا ص102).
تتمرأى لطفية الدليمي المعروفة بحبها للطبيعة وتقديرها لها كأمّ رؤوم تحتاج إلى الكثير من المحبة والامتنان، في اختيارها لمثل هذه الفلسفة التي تتبنى فكرة السعي والزهد عن الوفرة واحترام النقص في أساس الحياة ومعنى الوجود
تستمر لطفية في انتقاء الكتّاب ونصوصهم والتعليق عليها اعتماداً على فكرة الاختيار لما يشبهها وتريد أن تقوله وما يعبر عن بعض فلسفتها وحذف مواطن لا تنتمي لهذه الفكرة. مثلاً في قراءتها لإيزابيل الليندي تناقش الكثير من أفكارها، وتعطي مساحةً مناسبةً لما تجده يستحق كقولها “وبينما كانت إيزابيل تدعو إلى المساواة بين الجنسين طيلة حياتها وتقاتل بضراوة من أجل هذا في شبابها إلى درجة العدوانية، أصبحت الآن في نضجها الفكري والحياتي وخبرتها في الروح البشرية تدرك بصورة أعمق تلك العناصر الجوهرية التي ينبغي للرجال والنساء اكتشافها في أنفسهم لتقرب بينهم؛ ولأنها تعنى بالجوانب الروحية في مجمل أعمالها تجد أن في عوالم الروح لا تعود الذكورة والأنوثة موضوعاً مثلما لا يكون العرق أو الجنس مهميناً” (عصيان الوصايا ص117).
تنقلت الكاتبة بين تجارب الكثير من الأسماء العالمية مثل: آذر نفيسي، أنطوان دي سانت إكزوبري، خوسيه ريزال، إلياس كانيتي، خوان غويتسولو، خورخي سيمبرون، باولو كويلهو، دوريس ليسنغ، كاثرين ليم، ماريو فارغاس يوسا، كارلوس فوينتس.. وغيرهم، فضلاً عن أهمية هذا العرض على المستوى النقدي والثقافي العام فهي توضح بطريقة بسيطة وقريبة لفهم وقلب القارئ تجارب أدبية عالمية مهمة؛ لذا أجدها تعكس فعلاً السيرة الفكرية والعلامات التي أضاءت للكاتبة بعض الطريق الطويل، طريق من المصاحبة والصبر للقراءة والكتابة والمتابعة للأدب.
من المعروف “أنّ السيرة الذّاتية حكي استعادي نثري، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تأريخ شخصيته صفة خاصّة” (السيرة الذاتيّة: مقاربة الحدّ والمفهوم، تقديم أ. د. محمّد القاضي، صفاقس، تونس، دار صامد للنشر والتوزيع، ط 3، جانفي 2010م، ص 49).
سنجد هنا بعض التغيير على هذا المفهوم النقدي الذي يعتبر السيرة الذاتيّة مجرّد حكي استعادي عن الذّات وماضيها، إلى مجال نظري يوسّع في أفق السيرة الذاتية عبر الانفتاح بها على “مجالات عدّة (تشمل) كلّ نصّ يعبّر فيه مؤلّفه عن حياته وإحساساته، مهما كانت طبيعة العقد المقترح من قبل المؤلّف – سواء كان العمل رواية أم قصيدة أم مقالة فلسفية – فهو سيرة ذاتيّة مادام قَصَدَ فيه الكاتب بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته أو شيء منها، وعرض أفكاره وإحساساته” (المرجع نفسه، ص 50). وإذا كان الكاتب يضّمن بعض حياته فيما يكتب من نصوص أدبية فسيرة لطفية الدليمي هنا اعتمدت، في شرح حياتها، على مؤلفات غيرها مختارةً منها الأجزاء التي تمثلها، وتغني تجربتها في حركة اختيار وحذف.
تمنح هذه السيرة الثقافية للقارئ بسخاء باذخ فكرة واضحة عن كاتبة اختارت أن تكون حرةً عبر تبنيها الواعي والمبكر لخطاب الحرية في كل ما كتبت، مثلما كان في سلوكها الإنساني الذي ابتعدت عن الخوض في تفاصيله هنا، باستثناء بدايات تشكّل وعي الطفولة وعلاقتها بما يدور حولها من أفكار وعادات في عمر الطفولة، ربما لأنها وجدت أن حياتها الأهم والأكثر فائدةً لمن يتابعها تكمن في مكابدات الألم والتجربة والفرح ضمن الأطر الثقافية؛ فهي حياة مكرسة لحلم وفكرة: الحلم بأن يكون لها صوت خاص واضح ابتكرته هي وصنعته من وحي النقص الإنساني الدائم ليبحث عن الاكتمال والتمام، ومن وحي هشاشة الكائن البشري لينبت قوةً وعزيمةً تلهم من ينظر إلى مشوارها بالكثير من المفردات الإنسانية الإيجابية، أما الفكرة فكانت الانتماء إلى الإنسان بعيداً عن أيّ تصنيفات قومية أو عرقية أو دينية.
لطفية الدليمي تدور حول هذه الفكرة في سيرتها عبر خطاب ضمني ربما لا يتكرر في طريقة علنية، توارب فيه ذلك الشغف في التمرد على كل ما هو ثابت، وفي الانحياز للإنسان أينما كان، وفي التعبير عن ذلك بتبني الجمال والإبداع في الكتابة.