من يحكم العالم؟
قضى جانبا كبيرا من حياته العملية في دراسة العلاقات الدولية من 1945 إلى الآن، في إطار مركز البحوث الدولية بباريس بوصفه متخصصا في الفلسفة السياسية. عقب صدور مقالته Feu (sur) l’ordre international، التي تحمل معنيين، أولهما النظام العالمي المقبور، والثاني النار على النظام العالمي بإضافة حرف الجر، طرح عليه سؤال حول القوة أو القوى التي تحكم العالم اليوم، إذا فرضنا أن النظام العالمي انتهى، وهو ما توحي به مقالته تلك، المنشورة في مجلة “فكر”.
لفهم سبب إخفاق النظام العالمي الذي ولد بعد نهاية الحرب الباردة، ووضع تحت حماية منظمة الأمم المتحدة، يقترح بيير هاسنر العودة إلى لحظة تأسيس منظمة الأمم المتحدة، حين تصور روزفلت، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، أربعة حراس -الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، روسيا والصين- يعهد إليهم بالسهر على فرض النظام وضمان الأمن. وقد شكل ذلك تعارضا مع فكرة منظمة ديمقراطية يكون لكل بلد فيها نفس الحقوق، ما دفع إلى إيجاد توافق، أدى إلى بعث مجلس الأمن الذي يضم خمسة أعضاء قارين يتمتعون بحق الفيتو، إلى جانب عشرة أعضاء آخرين يقع تعيينهم بالتداول.
هذا التوافق هو الذي حال دون تدخل منظمة الأمم المتحدة حيث ينبغي، إذ غالبا ما وجد القطبان الغربي والروسي نفسيهما في حال مواجهة، عن طريق الفيتو، طيلة الحرب الباردة. وكان أن عجزت المنظمة عن القيام بمهمتها الأساسية، أي حماية الشعوب، على أكمل وجه، وإن حصل ذلك فبطريقة عشوائية، فقد تدخل الغربيون في كوسوفو مثلا بتفويض من مجلس الأمن، بينما دمر الروس الشيشان، وانتهك الصينيون التبت والمنغول والأيغور، ومنع ذلك التوافق الأصلي منظمة الأمم المتحدة من التدخل حيث ينبغي. والفرصة الأخيرة لتطوير عمل المنظمة والمصادقة على “مسؤولية الحماية” انهارت مع المسألة الليبية. ذلك أن التفويض الذي أعطي للقوات الأممية، الغربية بالأساس، كان واضحا: منع إبادة معلنة.
ولكنه سرعان ما تحول إلى تغيير النظام. ما حمل كثيرا من البلدان، من بينها روسيا والصين، على القول إن الغربيين استغلوا المنظمة لغايات سياسية، لا سيما أن النتيجة كانت كارثية: زعزعة استقرار عدة دول من شرق أفريقيا وبلدان جنوب الصحراء، وفتح الباب أمام تنقل الأسلحة وانتشار الإرهاب وتفاقم التهريب والهجرة السرية. وكان من نتيجة ذلك اعتراض الروس والصينيين على تدخل المنظمة لحماية الشعب السوري، وهو يذبح يوميا من طرف نظام بشار وعرّابيه الإيراني والروسي.
لا جدال أن نهاية الاستعمار ثم الحرب الباردة وضعت حدّا لبعض النزاعات، ولكنها ولّدت نزاعات أخرى، خاصة في أفريقيا، حيث قامت دول هشة، ظلت بعد استقلالها نهبا للصراعات الإثنية والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية التي لا تنتهي، وحتى التصفية العرقية. وكان لهشاشة تلك الدول من جهة، وتطور رأسمالية غير معدَّلة من جهة أخرى، ما جعل العولمة تبدو في نظر الثقافات غير الغربية أشبه بعدوان، واجهته بردود أفعال أصولية أو تقليدية ممزوجة بالضغينة وبالرغبة في الانتقام لاستعادة ماض مجيد.
فالعولمة التحديثية اجتثت لا محالة جانبا هاما من شعوب البلدان النامية من الفقر، وخلقت طبقات وسطى متعلمة تنجذب إلى الغرب ومبادئه، ولكنها في الوقت نفسه حكمت على فئات أخرى بالتهميش والخصاصة وحتى المجاعة والهجرة. كما أوجدت العولمة فئات أخرى متنقلة كمافيات التهريب والعصابات المسلحة والجماعات الإرهابية، علاوة على عمليات رأسمالية بلا قواعد ضاعفت من ظاهرة الفساد العالمية والعنف المرتبط بها. كل تلك الظواهر خلقتها أو مهدت لها أو وسّعت تبعاتها ثورة مضاعفة، ثورة وسائل الاتصال، وثورة وسائل الدمار.
والنتيجة أننا نشهد اليوم عودة مضاعفة للقرن العشرين الذي لا يريد أن يلفظ أنفاسه: إعادة بناء معسكرين كما كان الشأن أثناء الحرب الباردة، حيث تتحالف القوتان الشيوعيتان سابقا، روسيا والصين، ضد الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا وضد الديمقراطيات الليبرالية بوجه عام.
وعودة إلى فترة ما بين الحربين، فروسيا بوتين، كما كانت ألمانيا عند الجرمانيين، تسعى لجمع كل الناطقين بالروسية في امبراطورية واحدة. مثل ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تحاول روسيا أن تثأر لنفسها عن هزيمتها في الحرب الباردة. كذلك الصين التي تسعى بدورها إلى محو إهانات الماضي، بالهيمنة على أجوارها وإقصاء الأميركان من القارة الآسيوية. والفرق بين الحرب الباردة وفترة ما بين الحربين تضافر العلاقات الاقتصادية بشكل لا يمكن التخلص منه، نظرا للمصالح المشتركة لدى القطبين.
غير أن هذا الوضع يظل أكثر تعقيدا والتباسا مما كان عليه قبل خمسة وعشرين عاما، لأنه يمس طبيعة المتدخلين نفسها: بين صفة دولية أو غير دولية، وقومية أو شبه قومية أو عابرة للقوميات، تظل الثقافة موجهة نحو الحرب أو البحث عن الحياة الكريمة. حتى التصنيفات القديمة، بين قوى عظمى وقوى إقليمية، لا تني تزداد التباسا. لقد كانت الاتفاقات الكبرى، رسمية أم ضمنية، قائمة على النظام العالمي، خاصة خلال الحرب الباردة، ما يسمح بقراءة المشهد الجيوسياسي بسهولة.
كان ثمة نوع من التوافق غير المعلن بين القوى العظمى، يسمح لأميركا مثلا بمحاربة فيتنام أحد حلفاء الاتحاد السوفييتي في وقت لا يرى فيه الطرفان حرجا من التفاوض حول الحدّ من الأسلحة النووية. ويسمح للسوفييت بالتدخل في المجر وتشيكوسلوفاكيا دون أن يعترض الأميركان. مثل تلك النزاعات لا تزال اليوم قائمة، ولكن ما عاد أحد يتدخل لتعديلها، أو منع حدوثها أو فضّها. كما أن عدة فاعلين غير قوميين، وعصابات منظمة مثل داعش وبوكو حرام، لا يعترفون بأي هيئة دولية، ما يجعل الحوار معهم منعدما. حتى لكأن نهاية الحرب الباردة حررت النزاعات والتوترات التي تغتلي في أكثر من موضع.
وكان من تبعات ذلك أنه لم يعد ثمة وجود لمؤسسة تملك التأثير على المتنازعين، كما لم يعد الملاحظ يميز الحرب من السلم، لا سيما أن المتحاربين ما عادوا يعلنون الحرب على بعضهم بعضا، بل يدخلونها دون سابق إنذار. والخطر المحدق هو أن تتسع تلك النزاعات ويمسك أطرافها بالسلاح النووي، فمع تطور الأسلحة صار بإمكان الجماعات وحتى الأفراد أن يلحقوا بالبلدان وشعوبها ما تلحقه الدول المسلحة من أضرار جسيمة.
في موازاة ذلك، عاد منطق الدول إلى الظهور، ففي الوقت الذي تراجعت فيه أميركا بعد خيبة أفغانستان والعراق، لا تخفي روسيا بوتين مراميها التوسعية، وعزمها على استعادة البلدان التي كانت خاضعة للاتحاد السوفييتي المنحل، بدعوى حماية الأقليات الروس مرة، كما حصل في شرق أوكرانيا، واسترجاع أراض تابعة لروسيا مرة أخرى كما جرى عند ضم شبه جزيرة القرم. كذلك الصين، التي تسعى إلى الهيمنة على القارة الآسيوية وإقصاء الحضور الأميركي فيها.
وبصرف النظر عن تلك النتائج، يعتقد هاسنر أن المجموعة الدولية لا وجود لها. ففي رأيه أن ثمة مجموعات دينية، ومجموعات أيديولوجية، ومجموعات قومية -حتى وإن كانت منقسمة أحيانا- ولكن لا وجود لمجموعة دولية، بل ثمة مجتمع دولي، بمعنى قواعد عامة، تسمح للطائرات أن تحلق في الأجواء بحرية، وللسفن أن تتنقل في البحار والمحيطات كيفما شاءت، أما المجموعة الدولية، أو الشرعية الدولية، فلا توجد، كما كتب المحلل الألماني كريستوف برترام، إلا عندما تتحرك بعض الدول باسمها. وليست شعوب الجنوب والشرق بغافلة عن هذه النقطة، إذ عادة ما تقول: “الغربيون يُملون القواعد، ثم يسمونها شرعية دولية، ومجموعة دولية”.
ولئن كانت كل منظومة عالمية، كما لاحظ المفكر الأميركي أرنولد وولفرس (1892-1968) تحوي في طياتها “علاقة توتر كبرى”، فإن عالم اليوم يشهد فيضا من علاقات التوتر، يكمل بعضها بعضا أحيانا، ويناقض بعضها بعضا أحيانا أخرى، فالنزاعات ما انفكت تتشابك وتأخذ أبعادا محلية وجهوية وشمولية، أي أن تشظيها وسرعة انتشار عدواها يجعلان من الصعب تطبيق السلم، سواء بالقوة أو بالقانون. ذلك أن السلم عن طريق التوازن باءت بالفشل لأنه في الغالب توازن يقوم على اختلالات يخضع كل واحد منها لدينامية خاصة به، ما يجعل التشارك أو الاتفاقات الشاملة أمرا بالغ التعقيد. إذ أن توافق القوى العظمى عادة ما يصطدم بتضادها الجوهري وتعارض مصالحها كما أسلفنا. وحسبنا أن ننظر إلى قضية الأسلحة النووية التي لا يمكن حلها بإزالتها ولا بتعميم امتلاكها ولا بدوام الاعتراض على مالكيها الذين يريدون حظرها على الآخرين، الذين يرفضون بدورهم أن تتحلى القوى العظمى بإهاب القضاة والبوليس للحفاظ على استئثارها بأسلحة الدمار الشامل دون سواها من العالمين، لا سيما أن التطورات في هذا المجال رهينة التحولات الداخلية في بعض البلدان ورهينة النزاعات الإقليمية والجهوية.
فهل يعني ذلك أن نعدل عن فكرة هيئة عالمية يمكن أن تضمن السلم والأمن في العالم؟ من الصعب أن تحظى منظمة الأمم المتحدة بتزكية من كل الشعوب، وهي التي ظلت منذ تأسيسها وسيلة بين أيدي الدول العظمى لتبرير سياسات الهيمنة العسكرية والاقتصادية. حتى المفاوضات حول المناخ لم تتوصل الدول للاتفاق عليها، لأن كل طرف يدافع عن مصالحه الخاصة، ولا يهمه مصير الأرض وسكانها. أضف إلى ذلك أن العالم صار متشظيا بسبب جنوح الشعوب إلى الانغلاق، إما بالعودة إلى الأصول، أو بغلق الحدود على الوافدين، مع ما يتبع ذلك من تنامي ظواهر الكراهية والعداوة وعدم التسامح.
يقول هاسنر: “لقد انتقلنا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 من عالم إمانويل كانْت (مشروع السلام الدائم، كمثل أعلى أدى إلى تأسيس منظمات كمنظمة الأمم المتحدة)، إلى عالم توماس هوبز (حرب الجميع على الجميع)، مع انفتاحات على فريدريخ نيتشه (الحرب كعامل تأكيد هووي) وماركس (الهوة المتفاقمة بين الفقراء والأغنياء). وعودة إلى السؤال أعلاه: “من يحكم العالم اليوم؟” نجيب: “لا أحد”.