من يملك الزمن؟
يبدو لي أن المتصدين لمقولة زمن الرواية ورافضيها يحتكمون أحياناً في حمأة المناكفات النظرية لنوع من الحِجاج لا يختلف كثيراً عما ساقه جابر عصفور لإثبات صحة حكمه بسيادة الرواية على الزمن الأدبي.
إنهم يسوقون الحجج السياقية في مطالعاتهم، كالاستشهاد بالفائزين بنوبل من الشعراء في السنوات الأخيرة، وتزايد الجوائز الشعرية العربية، وكمّ الدواوين والكتب الشعرية المنشورة، والمنابر والمواقع والمناسبات الشعرية، والندوات والمؤتمرات المتزايدة بصدد الشعر. وهذا لا يبعد في جوهره عن الذرائع السياقية المضادة، ويقع في ما تقع فيه ردود الأفعال في العادة. كما يكشف نمطية الخطاب المهيمن على النظر إلى الزمن أو العصر، والتكهن بمزاجه وتوقّعات الكتابة والقراءة، ومسألة تباري الأنواع الأدبية والأجناس أو تنافسها فيه تحت هاجس البحث عن ضرورة البقاء وإزاحة الآخر، وكذلك يكشف رؤية المتجادلين إلى الكتابة كتقليد فني، وكجماليات معروضة للتلقي.
إن الخطأ نشأ أصلاً في تصوير التدافع النوعي كضرب من النقابية والتسويق التداولي. كان جابر عصفور قد بدأ كتابه عن زمن الرواية التي نشرها في كتابه بالعنوان نفسه، مستشهداً بما كتبه نجيب محفوظ عام 1945 في مجلة “الرسالة” رداً على العقاد الذي رأى أن الشعر فن الخاصة، والقصة فن الطبقات الدنيا أو الدهماء، فلجأ نجيب محفوظ إلى الدفاع الحماسي ووصف “القصة” بأنها “شعر الدنيا الحديثة”.
وتلقف جابر عصفور هذه الصيحة ليطورها إلى القول بأن الرواية هي “ملحمة العرب المحدثين” بافتراض أن المصطلح لم يكن واضحاً في وصف القصة والرواية معاً بمسمى القصة. ولا أتيقن من صحة نسبة ما قاله نجيب محفوظ إلى النوع الروائي، فتشبيهها بالشعر يوحي أنه يقصد “القصة القصيرة” لقربها من بعض تقنيات القصيدة كالقصر والبناء الفني، واستمر جابر في التطوير ليقول إن هذا الزمن هو زمن الرواية تحديداً، مصرّحاً بالانقلاب على التراتب الأجناسي المألوف وإزاحة الشعر عن الهيمنة. وذهب إلى القول بعد صفحات إلى أن “الرواية أصبحت ديوان العرب المحدثين”، مستخدماً خطاب الشعر ومصطلحاته في هفوة تشير إلى تسيد الشعر أصلاً في قراءاته. كما يدعو إلى التساؤل عن حقيقة الحاجة إلى ديوان جديد يسجل أيامنا ووقائعنا “المشرّفة!”، فقد ذهبت النصوص إلى طريق لا تؤدي إلى تلك الوقائع بل تسمو عليها، وغدا حصر النصوص شعراً أو سرداً في مهمة تسجيل الوقائع والأيام مقترحاً تراجعياً، كما أن مقولة نجيب محفوظ تلك أتت في سياق حماسي وإثبات ضدي أو سلبي لا ينبني عليه تحول كبير.
أما الاحتجاج بالسيرة وانتشارها الحالي فهو لا يزكّي سيادة الرواية على الزمن، فالسيرة الشعرية شهدت أيضاً تجارب لافتة فنيا وجماليا لا ترهن الكتابة السيرية بتسجيل الوقائع.. بل ترتفع بها لتمزج الخيال بالمادة السيرية، بينما تعتمد السيرة السردية على حيثيات تاريخية خارجية.
يقول جابر عصفور إنه لا يقوم بعقد مفاضلة بين الشعر والرواية، بل يسجل “واقعاً قرائياً، يرتبط بالانتشار واسع المدى الذي يتمتع به النتاج الروائي بالقياس إلى الشعر”. كيف تكون المفاضلة إذن؟ ثم أيحق لنا أن نبني على ميزة تداولية وانتشار ظرفي أفضلية نوع على آخر؟
كنّا نودّ أن يسوق طرفا الخلاف أسباباً وحججاً فنية تتعلق بطبيعة كل فن، وليس الوصف الإنشائي كالقول إن الشعر كالبرق والرواية كالنهر بحسب جابر عصفور، أو دحض ذلك بالقول إن الرواية سرد وصفي والشعر تصوير خيالي، فالأمر أبعد من ذلك. إنه يتصل بطبيعة الفن الشعري من جهة والطبيعة السردية للرواية. الشعر يتمثل ذاتياً ويدوّن تلك الاستجابات للأفعال بحزمة خيال وصور وإيقاع ولغة تعمل على نفسها ولنفسها، فيما تتم قراءة الرواية جمعياً بالقياس إلى بنيتها الملحمية ومحفلها السردي منصهر العناصر والأحداث. وبين الشعر والرواية ما بين التجريد والتشخيص في الرسم من فرق. لذا تفلح الرواية والسرد عامة في تمثل قوي للوقائع ما يغري بالقراءة وتلمس انعكاسات الوقائع، فيما يتطلب الشعر قراءة أخرى تنكبّ على موضوعه وبناه المتحققة برهافة لا يمكن تحديدها في قوانين ثابتة.
أرى كخلاصة أن التعايش بين الأجناس والأنواع ممكن كما هو بين النصوص والأجيال.. وأن الزمن ليس حكراً لفن ما. واستمرار الشعر طبيعي احتكاماً إلى تاريخ الشعرية وتأمل مزاياه وخصائصه الفنية والجمالية.
ناقد من العراق مقيم في نيويورك