موبايل بورخيس: مثقفون مغاربة يتحدثون عن فتنة الموبايل
هل نتحكم في الموبايل حين نحمله بين أيدينا، وحين نضغط على أزراره، ونستعمله، أم أنه هو الذي يستعملنا ويتحكم فينا ويولينا الوجهة التي يريد؟ هل نحن الذين نحمل الموبايل أم أنه هو الذي يحملنا على القيام بسلوكيات وولوج فضاءات ننقاد إليها انقيادا؟ ولأنه يسمى هاتفا ذكيا، ألا يجعلنا نستعين به ليستخدم ذكاءه بدلا منا، ألا يستدعي منا ذكاء في التعامل معه؟ وماذا عن “جيل الموبايل” القادم، وهل سيصبح جيلا بلا ذاكرة، ينوب عنه الهاتف الذكي في استحضار المعلومات والبحث عنها، مثلما ينوب عنه في استخدام الذكاء والمهارات. تلك بعض الأسئلة التي أثارها مثقفون مغاربة استطلعت “الجديد” آراءهم حول ثقافة الموبايل، وآثارها وتأثيرها على ذاكرتنا، وعلى سلوكياتنا الاجتماعية وتوجهاتنا وخياراتنا الثقافية.
اتفق عدد من المثقفين والمبدعين المغاربة على أن الموبايل غيّر من حياتهم، منهم من يرى هذا التغيير إيجابيا ومنهم من يراه سلبيا، ومنهم من يرى فيه الأمرين معا.
هكذا، يرى الناقد والجامعي محمد آيت لعميم أن “الموبايل، بصفة عامة، غيّر وجه الحياة”. وأنه لمعرفة هذا التغيير “لا بد من المقايسة بين ما قبل الموبايل وما بعده. فقد تغيرت البلاد ومن عليها بفعل صندوق العجائب هذا، وتغير مفهوم الزمان والمكان حيث انعدمت المسافة، وأضحى الافتراضي سيد المقام. وأصبح علامة فارقة في ما كان يسمى علاقة. توارى الواقعي لصالح الشبحي. وأصبحت العزلة بيت الإنسان وشرنقته، يعيش المرء في موبايله يحمل أسراره وأخباره وعوالمه”. أما شريفة الدحروش، الباحثة المسرحية والمترجمة المقيمة ما بين المغرب وإسبانيا، فجمعت بين إيجابيات وسلبيات الموبايل، فرأت أن “الهواتف الذكية قرّبت البعيد وأبعدت القريب، وفرضت أحيانا سلوكيات وأخلاقيات جد سلبية للأسف”.
بينما لخص الجامعي والسيميائي المغربي نزار التجديتي تلك السلبيات في صورة مفارقة، على مستوى العلاقات الاجتماعية، “فزميلك في العمل يرسل لك طلب صداقة في الفيسبوك وحين يلقاك في شوارع المدينة لا يسلم عليك”. كما يذهب محدثنا إلى أن “الموبايل ليس بوابة ثقافية، بل وسيط تقني يغير طبيعة الثقافة عند الإنسان من محتوى وجودي إلى زخرف شكلي”. أما الشاعر، المغربي سامح درويش، فقد بدا متفائلا أكثر، إذ يرى أن “أهم شيء في الموبايل هو تعميم المعرفة في حدود ما، وإتاحة النشر والتعبير بدون قيود تقريبا، مع تجاوز الحدود الجغرافية والعوائق السياسية في التواصل بين الشعوب…”. وهذا بخلاف الفنان التشكيلي بوعبيد بوزيد، الذي يقر بأن سلبيات الموبايل أكثر من إيجابياته، فهو يمكنه أن “يؤثر سلبا على ذوي المعارف المتواضعة لعدم غربلة معلوماته حتى نتبين الحقيقي من الزائف”. مثلما “أثر سلبا على الشباب إذ اقتطع منهم الكثير من وقتهم الثمين، وأفقدهم حسن الكتابة والتعبير أمام ضحالة المعارف التي تقدم لهم”، يضيف الفنان التشكيلي.
لكننا حين نعود إلى الشعراء المغاربة نجدهم متفائلين دائما بإزاء الموبايل. وها هي الشاعرة دنيا الشدادي ترى أن “التأثير كان جليا وإيجابيا على سلوكياتنا الاجتماعية، فقد ربط الناس بشبكة علاقات قوية، وأحيا الصداقات القديمة، ومنح فرصا أكبر لاختيار الأصدقاء الجدد”. وارتباطا بالمجال الثقافي، ترى الشاعرة أنه “بفعل الاحتكاك بمثقفين متنوعي المشارب والتخصصات تنوع رصيدنا الثقافي واغتنى، بل أصبحت المعارف تأتينا أكثر مما نسعى نحن إليها”.
أثر الموبايل
لعل الموبايلات، أو الهواتف الذكية، في حاجة إلى معاملة ذكية، وإلى نوع من التعاطي البراغماتي معها. وهذا ما يحرص عليه المثقفون في تعاملهم “الواعي” مع الموبايل. وعن أثر الموبايل وتعامل المثقفين المغاربة معه، يؤكد هؤلاء وأولئك أنه كان تعاملا مفيدا، كما تقول شريفة الدحروش: “كان التأثير إيجابيا مئة بالمئة لأن المعلومة أصبحت في متناول اليد، خصوصا أن أول تطبيق قمت بتنزيله كان من نوع play books وكان خاصا بالكتب ومواقع بيعها عالميا”.
وكذلك الحال بالنسبة إلى سامح درويش، أكثر المتفائلين الذين يرون أن الموبايل “يتيح لك تلبية حاجياتك الآنية من المعارف والمعلومات فور ظهور الرغبة”. لكن صاحبنا سرعان ما يؤكد على جانب سلبي يتمثل في “التأثير النسبي على القراءة الورقية”. عدا ذلك، يواصل درويش بناء علاقة مع الموبايل ملؤها التفاؤل: “أنظر إلى استعمال هذه الأداة بعين إيجابية مادام لي عقل. نعم إن هذا الاستخدام بشكل يومي يحدث تغييرات على سلوكياتنا وهو أمر طبيعي، فمثلا بدل أن أبحث عن المعلومة عند الناس بشكل مباشر علي أن أبحث عنها من خلال هذه الوسائل التي تتيح ذلك بشكل أفضل”.
كما تنتصر إيجابيات استخدام الموبايل على سلبياته، عند خديجة الأبيض، وهي طالبة فنانة في سلك الماجستير بمدينة الدار البيضاء، حين تذهب إلى أن “استخدام الموبايل أثر على ثقافتي إيجابا بعض الشيء”. بينما يعود الدكتور نزار التجديتي ليؤكد لنا أن ثمة فرقا بين أن نستخدم الموبايل أو أن يستخدمنا! ومن جهته، ينبهنا الطبيب والكاتب عبدالإله المريباح إلى أن الناس “أصبحوا مدمنين كثيرا على الموبايل في مسائل بسيطة وربما حتى تافهة”. ليتحول هاهنا من وسيلة إلى غاية، ومن حاجة إلى إدمان، بلغة الطبيب.
لكن الموبايل بالنسبة إلى باحث وفنان تشكيلي شاب، مثل مالك الصوردو، الذي يتابع دراسته في غرناطة، قد يفتح آفاقا على المستقبل. وهو يعتقد أنه “في ظل الانهيار الثقافي والمعرفي الحالي، قد تشكل معلومة على الموبايل نافذة أمل على المستقبل”.
جيل الموبايل
إذا كان المثقفون أنفسهم يتعاملون بحذر وتوجس مع الموبايل فإنهم يجمعون على واجب الاحتياط إزاء علاقة الناشئة به. فلا يترددون في التحذير من أثر الموبايل على الأطفال. ذلك ما لخصته الدحروش وهي تردد: “إنني أخاف وأهلع أحيانا عند رؤية رضيع يبكي بحرقة، وما أن يضعوا أمامه شاشة الهاتف حتى يسكت ويحملق فيها بكل تركيز″. على أساس أن المستعمل اليافع هو “في حاجة دائمة إلى توجيهات، وإلى تقديم المسألة كوسيلة للاتصال والتواصل وليس كغاية، وأن يقنن الاستعمال، لأن استعمال الهواتف الذكية سيف ذو حدين يبدأ بكلمة ‘ألو’، ولا يعلم أحد إلى أين يمكن أن يصل صدى الكلمة”. من هنا، “وجب توجيه الناشئة من أجل استعمال أمثل للموبايل”، حسب رأي المريباح.
ومثلما يؤكد الأخصائي والجامعي على ضرورة توجيه الناشئة في علاقتهم مع الموبايل، تؤكد طالبة هذا الأمر، وهي عفاف قزابر، معتقدة أن “الناشئة تظل دائما في حاجة إلى مقدمات توجيهية قبل استعمال الموبايل، وذلك لتفادي إدمانه، وتفادي الكثير من المشاكل الناتجة عنه”.
وقبلها، تؤكد الشاعرة الشدادي على أن “تعليم الناشئة وتحصينها بمنظومة قيم تقوم على النقد والسؤال والحرية كفيل بمنع انجرافها نحو السيء والتافه في هذه الوسائط التواصلية”. على أن “الرهان يجب أن يكون على نشء متعلم منفتح يتقبل التكنولوجيا ولا يرفضها”.
الموبايل بتشبيه آيت لعميم هو “بمثابة شفرة حادة في يد طفل سيؤذي بها نفسه لا محالة إن هو لم يحذر من خطورة ما في يده”. لأجل ذلك، كان “لا بد من تنبيه الغافلين ولا بد من إرشاد السالكين دروب هذه العوالم المتشعبة الحافلة بالمخاطر والمطبات”.
وبينما شرع جل المثقفين المغاربة في استخدام الموبايل مع بداية العقد الثاني من الألفية الحالية، بعد ظهور الهواتف الذكية، على غرار كل المجتمعات الإنسانية، فإن الأجيال المقبلة، بداية من أطفال اليوم، الذين ولدوا مع ميلاد هذه الهواتف هم “جيل الموبايل”. بخلاف أجيالنا المتلاحقة التي تلقت المعارف عبر البحث المضني في رفوف الكتب والمجلات والدوريات، وفي حلقات المعرفة وحلقات النقاش العمومي.
موبايل بورخيس
كان بورخيس واحدا من أعظم القراء في التاريخ. وحين فقد ذاكرته كان يعود إلى ذاكرته مثلما يعود مثقف الهاتف الذكي إلى محركات البحث للحصول على المعلومة وتذكرها. هكذا، لم يعد مثقف الموبايل في حاجة إلى ذاكرته، لأنه يسلم بأن الموبايل سينوب عنه في مهمة التذكر. وهنا، فقد الإنسان المعاصر ذاكرته لصالح ذاكرة الموبايل.
ذلك ما يشدد عليه آيت لعميم، المتخصص في بورخيس وترجمته، إذ ينبهنا إلى أن “الهاتف الذكي الموصول بشبكة الإنترنت رسّخ وعمّق آفة النسيان، لأنه يخلق وهم الاحتفاظ بالمعلومة، ومن ثم أصبح الاتكاء عليه هو السائد عوض ترويض الدماغ وحفظ المعلومات فيه”. رغم أن محدثنا يستعير عوالم بورخيس، حين يقول بأنه إنما يستعمل الموبايل شخصيا ويتعامل معه بما هو “أداة للبحث والتنقيب، وباعتباره موصولا بمكتبة لانهائية”.
ومع ذلك، فإن الزمن الآتي هو زمن الموبايل، والجيل المقبل هو جيل الموبايل، لا مفر من ذلك. فهل من الممكن مقاومة وجود الموبايل، أو حتى رفضه؟ يجيب سامح درويش بأنه “لا يمكن ذلك.. ولا يمكن الحد من استعماله”. كما لا ترى شريفة الدحروش أي جدوى من مقاومته أو رفضه، “لأنه بالنسبة إلي وسيلة اتصال سهلت طرق التواصل، ولا توجد أي دواعي للتعامل مع الهاتف أو شخصنته”. فالمشكلة، حسبها، إنما “تكمن في المستخدم وليس في الهاتف. وخاصة حين يتحول الإبحار في المواقع وشبكات التواصل الاجتماعي إلى ضرب من ضروب لإدمان الذي لا يقاوم”.
وبخصوص الأجيال المقبلة، دائما، تحذرنا الباحثة والمترجمة من مطب آخر، يتعلق بفكرة النمطية، “أن يصبح الجميع نسخة للجميع″، يتداولون المعلومات نفسها بالطريقة نفسها. والأسوأ من ذلك، أن تكون مجرد “معلومات مبتسرة” كما يسميها الطبيب والكاتب عبدالإله المريباح.