موت المخيلة
يتوقف الكاتب عن الكتابة عندما يشعر أن مخزونه الإبداعي نضب، أو أنه استهلك موضوعاته ووصل إلى نهاية الدرب في النوع الكتابي الذي مارس الإنتاج فيه طوال فترة زمنية، طالت أو قصرت. وفي العادة يغيّر الكتاب الأنواع التعبيرية التي يمارسونها بحثا عن آفاق أوسع للإبداع وعن مسارب غير مطروقة في تجاربهم لكي يجددوا شباب لغتهم وأشكال تعبيرهم عن الأفكار والتجارب التي ينوون نقلها إلى القراء. روائيون ينتقلون إلى كتابة الشعر، وشعراء ينتقلون إلى كتابة الرواية، وشعراء أو روائيون يبدؤون في تقليب سيرهم الذاتية أو عوالمهم الداخلية على نار أشكال مبتكرة من الكتابة.
تلك بعض الطرق التي يحتال بها الكاتب على الرتابة والتكرار والدوران في حلقة مفرغة من الإعادة المملة للكلمات والأفكار نفسها. البديل هو التوقف عن الكتابة، أو الانتحار كما فعل عدد من الكتاب الذين اصطدموا بحائط اللغة، بتعبير يوسف الخال عندما توقف عن إصدار مجلة “شعر”. وهذا يعني أن الكتابة هي نوع من العيش الذي يتوقف بتوقّفها، مما يفرض على المشتغلين بهذه المهنة المتعبة أن يفكروا على الدوام بتجديد ذواتهم وحقنها لا بالأفكار الجديدة فقط بل بأشكال مبتكرة وطرائق مبدعة لامعة للتعبير عن هذه الأفكار.
يعرف الكاتب أن خياله نضب، وقدرته على تحريك مشاعر القراء قد ضعفت، عبر تناقص مبيعات كتبه، أو عندما تكف تلك الكتب عن إثارة النقاش، والنقد الإيجابي، حولها في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة. ورغم الدور الترويجي الذي تقوم به دور النشر أحيانا فإن الكاتب الأصيل يعرف أنه قد توقف عن الإبداع وانحبست مخيلته، وصار لزاما عليه أن يجدد عالمه الإبداعي أو يتوقف. كما أن المؤسسة الأدبية-الإعلامية في البلدان، التي تعد الثقافة فيها جزءا أساسيا من الحياة اليومية للبشر، تلعب دورا حقيقيا في قياس عملية تطور المبدعين وارتفاع مستوى إنتاجهم أو انخفاضه.
هذه هي الحكاية عندهم، فهل هي كذلك عندنا؟ الكاتب في بلاد العرب يصدر عملا أول مميزا يعيش عليه طوال عمره. لكنه، رغم فشله في إنجاز عمل بحجم العمل الأول، يواصل الكتابة ودفع ما يكتبه إلى دور النشر دون أن يخطر في باله التوقف لحظة واحدة وسؤال نفسه عن مستوى ما يكتبه بالقياس لعمله الأول على الأقل. إن الكاتب العربي يواصل الكتابة لا بغرض تطوير النوع، أو تطوير إبداعه، بل بقصد الحفاظ على حضوره الشخصي، وربما حضوره الفيزيائي عندما يصرّ على الإكثار من نشر صوره في الصحف والمجلات أو يحرص على إسماع صوته للقارئ من خلال أثير الإذاعة أو الإطلال على الجمهور عبر الشاشة. يساعده على ذلك تواطؤ الإعلام والمؤسسة الأدبية، ممثلة بالجامعة والنقاد ودور النشر التي تسعى في أحيان كثيرة إلى تلميع المواهب الصغيرة أو إدامة حضور بعض الكتاب الذين نضبت مواهبهم وقلّ محصولهم الإبداعي. كما يعزز حضور هذا الكاتب، الذي توقف عن الإبداع في إطار النوع الأدبي الذي ينتج فيه، ضعف الحس النقدي في المجتمعات العربية والاندفاع إلى قبول ما تقوله الصحافة والإعلام وأخذه على محمل الحقيقة. في ظل هذا الواقع الأدبي المصطنع المزيّف الذي يستند فيه الكاتب إلى ماضيه الغابر وتُسوّق أعماله الهابطة فقيرة الفكر والخيال بالعودة المتكررة إلى هذا الماضي، هل يمكن بناء تاريخ فعليّ للإنجاز الأدبي العربي المعاصر لا يكون فيه للإشاعة والمحاباة والتعاطف مع الكبير، سنا ومنزلة أدبية، الدور الأساس في التقييم وتعظيم الأدوار أو التقليل من شأنها؟
لعل الجواب يكون: لا، إلى أن تتغير طرائق حكمنا على الإنجاز بغض النظر عن سن صاحبه أو مكانته الاجتماعية أو انتمائه السياسي أو تمكنه من الوصول إلى آلة الإعلام المهيمنة في هذا العصر. ولعل ذلك يتطلب، من بين أشياء أخرى، تنامي حس النقد والانتقاد وخفوت ظاهرة المجاملة التي تأكل أيامنا الحاضرة وتهدد مستقبلنا كذلك.