مَا بَيْن الكلمات وما بَعْدَ الأشياء
قد تكون مُذكّرات بصرية، تلك الصيغ التي اختار الفنان والكاتب المغربي حسان بورقية أن تنتقل فيها ملامح أقاربه الواقعيين والمجازيين إلى شاشة صلبة، لهذا كانت النسبة إلى ذوات متعددة، ذريعة للاسترسال. “باسم ذويّ”، هو عنوان البيان المنظور، (الذي احتضنه رواق كونتوار دي مين بمراكش ما بين 12 – 12 – 2020، و28 – 02 -2021)، لتوليفة جمالية تحتفظ فيها المشغولات البصرية بجبلّتها الأصلية، وما تبقى من لُحمتها، لتروي مفردات تتغلغل في رقش الحروف وتكوين الكتل، وتخطيط مساحات المنظور؛ تجسيمات تخترق العوارض، بإيقاع المجاورة، تماما مثلما تُونِع اللحظات والوقائع والتأملات في صفحات المذكرات اللفظية. ليس المعرض بسيرة ولا بتخييل ذاتي، إذا استعرضنا تصنيفات السرود الشخصية، هي مقاطع متراكبة من يوميات لم تكتب على نحو مألوف، تطفر من عجين الذاكرة، ومن رحيق العمر، ومنازل السفر، وقدر التيه، وتجريب الوجود قيد الوعي.
لم يكن المعرض الموسوم بـ”باسم ذويّ” صفحة مؤقتة، في تجربة، رُصفت ورقاتها باختراقات “الما بين” و”الما بعد”، عبر عشرات الصيغ، كان مآلا ومنتهى؛ حصيلة امتحانات متلاحقة للمعنى، وانشغالا مؤبدا بموعد التقاطع: الكلام والكتابة والمنظور والرؤيا، واليقين والشك، والماضي و”الهنا” و”الآن”، وقدرة الاحتفاظ بالأثر، أو قدرة الأثر على الصمود والتجلي. وتوق دائب لغسل الكلمات مما علق بها من دَرَن قديم، ليس صدأ ولا رمادًا ولا قشرة ناتئةً من أديم السطح، بل أقنعة مراوغة لما ترى العين، هي تَرَسُّلٌ مستحدث، له نفاذ البيان.
بدت عناصر معرض “باسم ذويّ” ومكوناته، بتعدد خاماتها وسنداتها وتقنيات الصوغ فيها، وبأعدادها التي تتجاوز السبعين عملا فنيا، أشبه ما تكون بأفق لمُساكنات وتأليفات متواترة، “ما بين” أغراض ومقتنيات شخصية، وأسفار، و”ما بعد” تمثل كتابي وبصري، نُجّمت مراحله منذ المرتع الأول “بني ملال”، وحتى المحطات المتوالدة للإنجاز الفني، ولترجمة القَوْل: مراكش وفاس والبيضاء والرباط وبرازيليا وبوينس ايريس والدوحة…. و”مابين” دور نشر وترجمات، وتخطيطات، ومتاحف، ونقود، ونثر وفلسفات، و”مابعد” وجوه وقراءات، وتجليات، وأصدقاء، وبقايا أثر قُدّت ملامحه من ورق وطين، ولحم ودم، ثم من رفات داثرة، ويَبَاب.
نَثْــرٌ للرّائي
تركيبات على ثوب وورق وألواح، ومعدن، تكوين للوحات/منشآت، بعناوين تخط حدود التجاور والعطف، (للعربية عبقرية في جعل المجاورة النحوية مشتقة من جذر العاطفة)؛ ليست جملا ما يرصف الفنان لبذل مفاتيح المسار، وإنما تشخيصات، تمثيلات لملامح ما جرى، وكان في زمن ما، صور الانقضاء، ومخلفاته. هل نقول صمته؟ ما دامت الكلمات تحفر لها مسالك للكمون، ما بعد هالات الأشياء “ذاكرة المنبوذين”، “بصمة الوالدة”، “هشاشة”، “توازن”، “شبه مبارزة”، “توق الذاكرة”، “فنجان قهوة في حضرة أمي”، “ليلة غرام”، “حين تكون الكلمة بلا أفق”، “رسالة إلى مجهول”، “ورق حالم”، وغيرها وغيرها، حيث تنجز المجازات مسافة “الما بين” و”الما بعد” في المذكرات الموهوبة للنظر، ودائما مع تغلغل وحي القول في المنبت والأعطاف. ثمة تعلق بمنطق الكلم الممتد من الكتابة إلى الورق إلى الرماد، قد تكون كلمة “هشاشة” هي المفتاح النافذ لفهم “ما بين الكلمات” و”ما بعد الأشياء”، فعمقها الدلالي يختصر رحلة المعنى، الذي يترجمه حسان بورقية باستعارة أثيرة لديه، بحفنة التراب التي يشتهي أن يكونها، مثلما كان شغف “جون جنيه” الصادق بها، وكم هي مضيئة صورته الشمسية – المطبوعة في الكاتالوغ – نافخا في صفحة اليد. شعاع هو أم هباء؟
في مستهل كاتالوغ المعرض ثمة صورة لعمل غير معروض ينتمي لمجموعة سابقة، هو بعنوان “ذاكرة المنبوذين”، صليب ناقص لمتواليات من دُرُج خشبية عتيقة، تتجلى بوصفها صناديق أو رفوفا، لأغراض شخصية، ليست شيئا آخر إلا تلك المستطيلات المتخذة إيهاب خانات، تتساكن وتعطف على بعضها بعض، تملأها اليد، للرائي، بصور فوتوغرافية لروائيين وفلاسفة وشعراء… لمن خلفوا كتابات تداولتها الأيدي وانتهت في خزانة ما. بيد أن هذه الأغراض ملأت دُرُجا معطوفة على ما يجاورها، صور وأوراق ومخطوطات وكتب قديمة، وأواني مهترئة لا اختصاص لها، صالحة لطهو كل شيء. إدريس الشرايبي، فرانز فانون، ألبير كامو، بودلير وآخرون، تتزاحم وتنأى عن بعضها في مساحة الصليب الناقص، لتضع المتلقي أمام مشهد الخلفية والمحيط والأثر، نثر بغير قوالب ولا مستنسخات، هي شبه توريات وطِبَاقَات، بعمق تبييني موهوب للنظر.
والشيء الأكيد أن النثر ذروة القول، ذاك ما يتشرّبه، عن أصالة، العمل الاستهلالي لحسان بورقية، واستحضاراته التخييلية، اشتغال له تواضع منزه عن كثافة الشعر، وتشوف الأصناف إلى التواؤم مع قواعد البلاغة النوعية. ما بين اللوحة و المنحوتة و المنشأة، ثمة رهان نثري دافق، يكون فيه “مابين” الخانات متوائما مع مدونة الصوغ، وأبجدياتها المتداعية بيسر، ودونما تمحُّل أو تعالم، أو زخرف لوني ناتئ. هي ذهنية النثر، المبددة للعماء التي تحتاج لترجمة ما بين تلافيف المقروء والمشاهد، المضمر في الكلمات والمستبطن في الأشياء. وفي المحصلة نجد أنفسنا بإزاء صليب ناقص، حيث السيرة مفطومة من نُسْغها، ومنذورة للوجع، دونما إحساس بالخسارة؛ خانات متقاطعة لأدراج الذاكرة، لدرء الغياب والنسيان.
في عمل قريب من “ذاكرة المنبوذين”، يحتل بدايات المعرض، نتهجى ما وقع في المتخيل السيري، والمذكرات البصرية، يحمل عنوان ” توق الذاكرة”، فقاعات مطاطية منطفئة، من تلك التي نستعملها في أعياد الميلاد، أو التي نلهو بنفخها حتى تنفجر، متفجرات بأثر ناعم، وغير دام، تُلصق إلى سند من قماش؛ يتنامى منسوب اللون فيها مع توالي اللوحات/التركيبات، كولاج مموه بالدرجات اللونية للبالونات المتاحة في اختيارات الأعياد، بياض وقرمزي، ثم بياض مخضب بالأصفر والأحمر والقرمزي، ثم شتى التلاوين بمنسوب متضائل مكتسح بالأخضر في عمق البياض الطاغي. يتحدث حسان بورقية، في غير ما حوار، عن جدوى اللون في تشخيص الاستحضار، إذ يَمْثُلُ بمثابة شهادة؛ نثر مرئي، بغير مفردات ولا قشرة بلاغية، شأن يتأتى بفرز متواليات لوحات التركيبة في سلم “مابعد” البياض الفطري والطفولي، الذي لا سمت له، إلا الأصلي الخالص.
بعد انتهاء القول
تطفر من لوحات (تركيبات) عديدة، بالمعرض، مُعدات قياس، من أرشيفات متباينة، قياس المساحة، قياس الوزن،… تنتقل بماضيها وصدئها وحكاياتها السرية، وما علق بها من عرق وجهد وتعليقات قول، وعواطف، واستعمالات تبدّدت، لتضع الناظر أمام حقيقة “القياس” مجردة، تلك التي يمضي العمر في حسابها، زمنا وأمكنة وطرزا؛ ما تبقى بعد انتهاء ما يتصل بها من كلام وأحاديث وبلاغة. متوالية من خمسة أعمال، تمثل هذه الصيغة، من استخدام الوثيقة الصلبة، على سند من قماش؛ سطح أبيض يتشرب طبقات الأصفر والبني المنسربة من الموجودات الصدئة، عمل مربع وثلاثة أعمال مستطيلة متفاوتة الحجم، وفي الوسط عمل دائري، على شاكلة ساعة حائط، عنوانه “وقت”، يبرز العمل باعتباره قطب الارتكاز لما على اليمين واليسار، من امتداد سندي مربع ومستطيل، مشدود له.
في لوحة “وقت” تطالعنا دائرة بياض منهك بما يشبه الرطوبة، تشكلت ملامح النصاعة المكدرة فيها على هيئة خرائط، مطرزة بدمغات شفرة حلاقة صدئة، منتهية الاستعمال، تختزل الزمن في استعارة “القطع”. وفي الجوار، في الأعمال الأربعة الأخرى، تنويع على صيغة السطح المنهك ذاته، حيث ترتصف آليات قطع وتقشير: قطع الخيوط، والجلد، والخشب. وعدة قياس المسافة (المتر) التي تستخدمها أيادي الحرفيين، عبر تقنية الطي والبسط. يحضر إلى الذهن لحظة انتقال العين من دائرة الوقت الحاد والفاصل إلى ما يجاورها من تربيع واستطالات متباينة الأحجام، كتاب الجاحظ “رسالة التربيع والتدوير”، حيث يسخر من شخص ومن أرشيف ومن وقت ومن قيم؛ والحال أن المذكرات هنا صفحات نقلبها، ونتلهى بقياس ما مضى وما قد يجود به الغيْب، على نحو هزلي أحيانا وفجائعي في الغالب، لكنه داكن باستمرار. الوسط برزخ بين صفحات العمر المتطلع إلى ما لا حد له، نتمناه دوما هادرا ومتدفقا وغير منته، مجاز الكتاب (كتاب العمر) هنا حاسم، هو وقت ومساحة مقروءة ومنجزة، لها بدأ وخاتمة، وغلاف، لكن الظاهر المحسوس لا شأن له أمام التفاصيل، في الداخل، أي الكلمات، تلك التي تتخايل على سطح بعض أعمال المتوالية الخماسية، وتخبو داخل العمق البصري.
في مقطع من “رسالة التربيع والتدوير” نقرأ ما يلي “إنك لا تعرف الأمور ما لم تعرف أشباهها، ولا عواقبها ما لم تعرف أقدارها”(تحقيق: شارل بيلا، منشورات المعهد الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1955، ص 11)، الكتابة بالبصري هي تبئير معاصر للمسعى النثري الكلاسيكي، لتقليب معياري “الشّبَه” و”القدْر” (القدْر قياس وزني في النهاية)، التشبيه إخراج للكنه من الشيء، والوزن تجريد له من الصفة؛ ثمة سعي في المحصلة إلى التعالي عن العوارض المدركة على نحو تلقائي، لفهمها بما هي جوهر، ذلك ما يقع في صلب اشتغال الخماسية البصرية لحسان بورقية، بغير ما مدونة تقول “إن لم تقطعه قطعك”، ثمة كنه “السّيْف” عبر أشباه له وامتدادات، بمعرفتها نستجلي القصد المضمر في الملفوظ، من شفرات الحلاقة إلى قواطع الخشب، “الما بين” هنا مدمج في “الما بعد”، حين تتجاور صُوَى الحلقات البصرية المنثورة.
في عمل من الخماسية بعنوان “شبه مبارزة”، نستطيع أن نقرأ مقتطفا من نص لبورخيس، في الخلفية التي تتمركز في بؤرتها قواطع للجلد والنسيج معا، قد نميل إلى اعتبار العدة الحادة الصدئة منتمية لحرفة النسيج، لتسهيل تملك جوهر المناظرة، الكتابة /النسج، ولاستخلاص الشبيه، هي مبارزة بصيغة أخرى؛ لا تظهر الكلمات بيسر، تبدو مقروءة ومتمنعة في آن، كما يحدث بصدد أيّ مخطوط، يميز المشاهد اسم الكاتب الأرجنتيني الشهير، وقد يجتهد في تهجي المكتوب البصري، لكنه سرعان ما ينصرف إلى البؤرة، حيث القواطع تتخلل تكوين الجملة المنظورة، ساعيا إلى ردم المسافة بين “الما بين” و”الما بعد”، بين المفردات والكتل المتوالية، المأخوذة بذهنية النثر. هي شبه مبارزة لأن لا منتصر فيها ولا مهزوم، لا ينمحي الكلام ولا تطغى عدة القياس، يمنح اشتباكها للناظر، فرصة الإدراك الجدلي، لمعنى الكتابة بأثر العين.
من قعر ما نجد
في الموجودات، ندرك مغزى المقام، قد يكون البسط هو نقيضه، أو العبور، لكن النقيض لا يفسد المغزى، إذ في الموجودات انتقال وثبات، حسان في مذكراته يتقمص دور العابر والمترحّل، وحامل حقيبة السفر الدائم، والمقيم أيضا، الما بين هنا جزء من قدر الكاتب الفنان مع التعبير المعاصر، ومع المفردات، ومع المسافة؛ مسافة تترك لما نجد طاقة للتزود وشحن الباطن، الموجودات تحتاج لعابر ولحقيبة ولسفر، في المكان أو في الوقت، بيد أن الموجودات هنا تتحول إلى شبيه بها “باسم العشيرة” والذات والأهل والداخل، حتى تشغل مساحات البرزخ، ما يشبه خانات وما يشبه صدأ وما يشبه لقيا وما يشبه كلمات وخطوطا ورقشا وألواح.
في عمل بعنوان “بصمة الوالدة” ثمة مروحيات من خامات متماثلة، قماش بإيهاب ورق مطوي، ملصق على ألواح مُؤطَّرة ، تحمل أثر التداول، ترتصف على هيئة مستطيلات متراكبة، بعضها مموه بالأبيض، مجرد ضربة فرشاة، تلحم الإطارين المتجاورين لـ”بصمة الوالدة”. وفي الحنايا، تتوزع المروحيات أفقا وطردا، في هيئات شتى تحاكي أحوال الارتهان لليد، بعضها تبدو متآكلة، كأنما قضمتها الأرضة النابتة من اللوح. في مقطع من رواية “المتحف الضائع” للروائي الأميركي “ستيف برّي”، يقول السارد متعجبا “لم يتغير شيء في منزل الوالدين هو كما أذكره منذ يفاعتي،… تآكلت تفاصيل قليلة”(Ed : le cherche midi , paris, 2010, p 121.)، إنه تحديدا ما تآكل في المروحة اليسرى على اللوح الثاني في صف التركيبة/الكولاج. تفصيل من الوقت ومن الفضاء، فالمروحة استجلاب لفصل في غير محله، نسيم في عز القيظ، تهبه اليد في لهوجة أفراح الأهل والعشيرة، ولا شيء أيسر في البحث عن النهايات من “ما بعد” التلاقي، و”مابين” الأفراح من أسباب الكدر.
في عمل معارض لـ”بصمة الوالدة”، نكتشف قولا مصاغا من الموجودات بإيحاء صاعق، فيه ما يشبه هروبا من التعبير الكتابي ذاته، من كلمات الأدب المستعملة، العابرة مئات النصوص، عنوانه: “حين تكون الكلمة بلا أفق”، أو”هل تبقى للمفردات من أمل؟”، تطلعنا المنشأة على احتمالات الجواب إنه الصدى والصدأ؛ مكعبات متلاصقة مفرغة، تتشكل بوصفها كوى أحدثها حريق خاطف بصفحة السطح، وأخرى تطل منها شذرات كتابة، وثالثة ينتأ منها صفيح قصديري مهترئ، تداخل صدئه مع إيغال لوني في الفقاعة، وما بينها عطف للموجودات على عمقها. تنظر المنشأة إلى الاستنزاف الأزلي والمؤبد لطاقة المفردات، وتعطل نبعها، مع مرور الزمن، عن البذل، و”تعويم” إشراقاتها. الصدأ صورة للفناء لكنه أيضا ترجمة لتبدد النضارة.
تركيب
هل ضيع حسان بورقية الأثر بقصد، عبر مسارات تطويحه بين الكتب والوجوه والمقولات والصور، وترحّله بين عوالم الرواية والشعر والمسرح والموسيقى، والذهنيات واللغات والمعتقدات، المسترسلة من الأساطير البدائية إلى الحداثات الهامشية والمنبوذة والنادرة في مختلف أصقاع الأرض؟ هل بارزها بمفردات ليست من معجمها ولا من جبلتها، ليعيد اكتشاف حقيقتها، ثم ليتصالح معها على هذا النحو العنيف والناعم معا؟، تعلمنا التجارب العميقة في الفن الحديث والمعاصر، وفي المسرح والسينما، أن الكاتب والمصور، لا يعيش بذاكرة واحدة، وإنما بذاكرات لا تتضح معالمها إلا بالزهد في الطاغي منها، اللصيق بالوجدان والبصر، الراسخ في المشغل اللعين، إنه الطريق الوحيد للتطهر منها وامتلاكها على نحو دائم.