مَسارات الثّقافة العربيّة ومَآلاتُها في عصر الرّبيع العربيّ
كشَفَ الربيع العربي حجم الاحتقان التاريخيّ المُختزَن طوال عقود، والذي كان يتنامى يوماً بعد يوم في المجتمع العربي، إلى أن تشظّى تشظياً غير مسبوق، وفجَّرَ معه جميعَ الأسئلة السياسية والكيانية والحضارية التي كانت مُعلَّقة أو منسية أو مسكوتاً عنها، وهي المسألة التي فتحَتِ الطريقَ عريضاً أمامَ مواجهةٍ شاملة وغير قابلة للإرجاء مع الاستحقاقات الوجودية الفردية والجمعية المُفكَّر فيها وغير المُفكَّر فيها على حدٍّ سواء.
إنَّ العلاقة الجدلية بين المستوى الوقائعيّ القائم، والمستويات الثقافية والمعرفية أدَّتْ إلى ظهور ديناميات جديدة شديدة الحساسيّة والتّسارُع في المشهد الثقافي العربي، لينعكسَ المخاضُ الاجتماعي-السياسي المُتشظي على هذا المشهد بعمقٍ وضراوة، ويُولِّدَ في المُقابل مخاضاً ثقافياً مُتشظياً على نحوٍ بالغ. فإذا كان الربيعُ العربي لم يعطِ أكله وفق قراءة السطح البصري الظاهري للأحداث، فإنَّ قراءة السطح البصري العميق تؤكِّدُ على نحوٍ ما أنَّ ما يحدث يُشبه تماماً بلُغة (البِنيويّة) ما ينجم عن خلْخلة عنصر ما أو عدد كبير من العناصر داخل بِنيّة ما، وهو الأمر الذي سيؤدي عاجِلاً أم آجِلاً إلى تغيير في هذه البِنية إن لم نقُل إلى انهيارها بالكامل، وحلول بِنية مُغايِرة مكانَها. ويبدو أنَّ هذه الخلْخلة قد بدأَتْ أوّلاً بتوجيه ضربة قاصمة أنهَتْ كما أعتقد ذلكَ الاستعصاء التاريخي الذي كان يربضُ على صدر الشعوب العربية، وإلى فتح بوابات التغيير الجذري الشامل مهما طال الزمن، وهيَ مسألةٌ تعني على مستوى الثقافة أيضاً أنَّ صيرورةً تغييريّة ما قد بدأتْ تأخذ هُويَّتها المُختلفة، وذلك في ضوء حضور عريض للأسئلة العربية الثقافية والحضارية الأصيلة التي تحاول بدورها تمزيق الجمود القديم البالي، والانفتاح على العصر.
لهذا يُمكِنُ القول بمعنى آخَر إنَّ الصراع الاجتماعي السياسي القائم بين سدنة العالم الاستبدادي القديم -والذين يظنون أنهم يستطيعون إيقاف حركيّة التاريخ- ودعاة التغيير والتعددية والديمقراطية والحرية، هو في أوجِهِ الآن في المشهدين السياسي والثقافي العربي، ويبدو لي أنَّ هذا الصراع المفتوح لم يعُد على التغيير بحد ذاته بعد أن باتَ أمراً حتمياً لا مناصّ منه، إنما على شكل التغيير ومضمونه وحجمه ومدى جذريته!
لعلَّ الثّقافة في تفسيرها الأوَّليّ تتعلَّقُ بالخُصوصيّة، ذلكَ أنَّها تُعبِّرُ عن خصائصَ حضاريّة وفكريّة ووجوديّة مُحدَّدة، وهيَ إذا كانَتْ في دلالتها المعجميّة العربيّة تعني صَقْلَ النَّفْس والمنطق والفطانة، وكان المُثقَّفُ يعني في هذا الإطار القلَمَ المبريّ، فإنَّ الخُصوصيّةَ تفتتِحُ أسئلةً مُركَّبة تبدأ من قضية أنَّ الثّقافة ليسَتْ مجموع أفكارٍ يتمُّ إنتاجُها فحسب، إنَّما هيَ مجموعة العقائد والقيَم والاتّجاهات المُشترَكة والمُمارَسات التي تُميِّزُ جماعةً ما، وهيَ المسألةُ التي تدلُّ على أنَّ الثّقافة لا تكونُ عناصِرَ مُنجَزة وجاهِزة، بقدر ما تتولَّدُ عن الحركة والتطوُّر والتَّراكُمات الفرديّة والتّاريخيّة، لذلكَ يصعبُ في هذه الحقبة العربيّة المُتسارِعة أنْ نتحدَّثَ عن قراءة (تزامنيّة) ناجزة تتناولُ الثّقافة العربيّة، فضلاً عن أنَّ طبيعة العصر العولميّ الحالي تكاد تمحو الكثيرَ من الحُدود الفاصِلة بينَ الثقافات المحلّيّة وثقافات الآخَرين، ولا سيما إذا نظَرنا في مُستوىً ثانٍ بتعمُّق إلى التَّشابُكات الجيو-السّياسيّة العربيّة والعالَميّة التي كشفَ عنها الرّبيع العربيّ بجلاء، وهيَ القضية التي تُعقِّد المسألة مَنهجيّاً في حال تطلَّعْنا إلى قراءةٍ (مُحايِثة) للثّقافة العربيّة الرّاهِنة.
على أيّ حال، نستطيعُ للوهلة الأولى أنْ نستنطقَ الثّقافةَ العربيّة في هذه الحقبة من أكثر من زاوية، كأنْ نتساءلَ بادئ ذي بدء وبلُغةٍ (فرويديّة) مثلاً عن مدى تمكُّن الأنا الثّقافيّة العربيّة من خيانة تمترسات وكوابح الأنا العُليا المركزيّة الاستبداديّة إنْ بدلالتها الفرديّة أو بدلالتها الجمعيّة؟ هل ثمَّةَ ما يُشيرُ ثقافيّاً إلى اندفاعٍ حُرّ يُمارسُهُ (اللّيبيدو) لا بوصفه دافِعاً جنسيّاً فحسب، إنَّما بوصفه دافِعاً وجوديّاً كُلِّيّاً بالمعنى الكيانيّ للثّقافة؟ بالتّأكيد لا أريدُ هُنا أنْ أختزلَ مفهومَ الثّقافة ومُمارساتها العربيّة بالمعنى الفرويديّ لتنفيس المكبوتات، إنَّما أتطلَّعُ إلى البحث عن ملامِح أوَّليّة لتولُّد ثقافة عربيّة جديدة لابدَّ أنْ تبدأ بتمزيق التابوهات ليسَ على المُستوى الفوقيّ فحسب، لكِنْ على المُستوى التَّحتيّ ما دمنا نربط بينَ الثقافة على نحوٍ خاصّ، ووعائها الذي هو الرَّبيع العربيّ في هذه المرحلة على نحوٍ عام.
لوحة: إياس جعفر
وفي المنحى نفسِه، لا أجدُ مناصاً من التساؤل مثلاً عن مدى تكوُّن (جهاز مفاهيميّ معرفيّ) مُنبثق عن الرّبيع العربيّ؟ صحيح أنَّ كثيراً من مفاهيم الرّبيع العربيّ قد نُظِّرَ لها طوال العقود الماضية على المُستوى الفكريّ، وأنَّ نموذجاً تطبيقيّاً قد نجدُهُ بجلاء فيما عُرِفَ بـِ(ربيع دمشق)، وما نتَجَ عنه من أدبيّات سياسيّة وثقافيّة على سبيل المثال لا الحصر، لكنَّ ذلكَ لا يمنع من البحث كذلكَ عن مدى تمكُّن (الإنسان الثّقافيّ العربيّ) إذا صحَّ التَّعبير -من دون فصْلِ هذا الإنسان بالتّأكيد عن مُحيطه الجمعيّ- من تحقيق حاجاته بوصفها ترتبط -حسب تنظير (إريك فروم) للحاجات- بالانتماء والتّعالي والتَّجاوُز والارتباط بالجذور والهُوِيّة والإطار التَّوجيهيّ، وهذا الأخير يستحقُّ وحده قراءة عميقة ومُتأنية؟
يرى الدكتور طه حسين في كتابه “خصام ونقد” أنَّ “الأدب الذي ينشأ أثناء الثَّورة، إمّا أنْ يجري على طبيعته الأولى، فيكون اتّصالاً للأدب القديم، وإمّا أنْ يُحاول مُجاراة الثّورة فيكون دعوة لها وإغراء بها. وهو في هذه الحال أدب ضعيف فاتر لأنَّ الأحداث المادِّيّة الواقعة أقوى منه وأظهر أثَراً. يراها الناس ويحسّونَ آثارَها في نفوسهم وفيما حولهُم من الحياة والأحياء”. إنَّني إذ أثمِّنُ ما تنطوي عليه هذه الفقرة من جانب صحيح إلى حدِّ ما، لكنَّني أرى أنَّ لكُلّ عصر ولكُلٍّ تجرِبة خُصوصيّة قد تختلف عن غيرها، حيث لا يُمكِنُنا مُصادَرة التّاريخ مُسَبَّقاً، أو إسقاط مرحلة إسقاطاً متطابِقاً على مرحلة أُخرى دائماً، فأنا أعتقد بناءً على نظرة بانورامية أوّليّة إلى المشهد الثقافي العربي بوجود ازدهارٍ غير مسبوق في إنتاج الأجناس الإبداعيّة والفكريّة كافة، وهوَ غير مُنفصِل حدِّيّاً عن نتاج العقود السّابقة، لكنَّهُ يحمل بطبيعة الحال ذخيرة وجوديّة هائلة تنبع من تجارب الرَّبيع العربيّ الغنيّة والقاسية، فضلاً عن ضرورة الإشارة إلى وجود تكاثرٌ هائل في المنابر الورقية والإلكترونية يقترب من حدود الفوضى التي أجدها موضوعيّة وضرورية لفتح كافة المسارات على تجربة التعددية والتعبير عن الرأي والحوار، وهي التجربةُ الكفيلة وحدها بالغربلة بفعل المسافة الزمنية التراكميّة التي تبيِّنُ الأصيل من العابر، وتكشف ملامحَ الجِدّة في المشهد الثقافي العربي الراهن.
وبحكم اختصاصي بوصفي شاعراً وناقداً أستطيعُ الحديث عن ازدهار شعري عربي كبير يحصل في هذه الحقبة، غير أنَّ الرؤية النقدية المسؤولة ينبغي أن تتصفَ بالحذر المعرفي الشديد وعدم التسرُّع أو الانفعال، مع الميل إلى الاعتقاد أنَّ هذا (الحراك-المخاض) الفنِّيّ-الجَماليّ المُتولِّد عن الربيع العربي وتداعياته الهائلة لا بد أن يُضيفَ إضافات نوعية على حركة الشعر العربي إنِ استندْتُ في هذا الرّأي على فلسفة (الاختلاف) مثلاً. ويكفي أنْ أذكُرَ في هذا السِّياق -كي أوضح من حيث المبدأ حجم المنتج الجديد- أنني قد نشرتُ دراسة نقديّة منذ فترة عن شعر الثورة والحرب في سوريا قاربْتُ فيها نصوص أربعين شاعراً وشاعرة، وأُحضِّرُ دراسة ثانية في هذا المنحى أيضاً عن أكثر من ثلاثينَ شاعراً وشاعرة.
إنَّ مسألة الكلام عن ولادة حساسية شعرية جديدة بالمعنى التحقيبيّ الفنِّيّ، هي مسألة مفهومية مُركَّبة كما أظنّ، ذلك أنَّ هذه الحساسية الجديدة لا تتولَّد بمجرّد حضور مفردات الثورة والحرب وتراكيبها ومجازاتها وسرديّاتها في عوالم النصوص كما قد يذهب البعض، إنما في مدى قدرة هذه العوالم الشعرية على مُجاوَزة المُطابَقات المُسَبَّقة المُتمركِزة على الأحداث الوقائعية الطاغية، وهيَ المسألة التي تتمُّ بفتح عوالمَ شعرية مُغايِرة تحقق تناصات فنِّيّة نوعيّة لها انزياحاتها الجديدة التي تُغنِي الحدث، وتضيف إليه فائضاً وجودياً-جمالياً خاصاً، ولا تكون عبئاً عليه. وهو الأمر الذي يحتاجُ إلى تأمُّلاتٍ نقدية مُعمَّقة تحتفي بكُلّ اختلاف ومُجاوَزة مازلنا ننتظرُهما بشغفٍ، أو ربَّما قد بدأنا بخلقهما نحنُ العرب، ذلكَ أنَّ قضيّة ولادة (بروميثيوسات) جديدة وكثيرة في الثَّقافة العربيّة ليسَتْ قضيّة مُستحيلة، ما دامَ الرَّبيع العربيّ قد فتَحَ لنا الأبواب عريضةً لنسرقَ الشُّعلةَ المُتمرِّدة من الآلهة-السُّلطة، على أمَل أنْ يحملها كُلُّ فردٍ بعد ذلكَ في عالمنا العربيّ المكلوم، والحالِم بالانتماء الأصيل إلى العصر.