نافذة متعددة الزوايا
“نافذة مترامية الزوايا تطلُ على العالم” هذا هو معنى أن تمتلك جهازا ذكيا بحجم الكف. ففي هذه الإطلالة تجاوز لحدود الزمان والمكان والأنظمة الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية السائدة في بقعة أرضية دون أخرى، وبها تتفتح البوابات المعرفية على مصراعيها في قبضة اليد دون قانون أو سلطة تُقيد حركة الاكتشاف والبحث والاطلاع ومحاولات التعرف على الأشياء. ستظل تجمع عقول الآخرين وأحاسيسهم وقضاياهم وأخبارهم في ذاكرتك الشخصية وربما تستحضر شيئا منها وقت الحاجة.
التقنية الحديثة، متمثلة في هذا الجهاز الذكي، شرعت أبواب المعرفة والانفتاح الثقافي العالمي، فلم يعد العالم قرية واحدة على مستوى التجارة والاقتصاد فحسب، بل إن التبادل الفكري والمعرفي أيضا بات منافسا شرسا على حلبة العولمة وربما هذا أحد التحديات الصارمة التي تواجهها المعرفة والثقافات لدى الشعوب المختلفة، الأمر الذي يقدم مخرجاته على الصعيدين؛ الإيجابي والسلبي، فعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ أصبحت بعض الأفكار تحت وطأة التحدي العالمي من أجل اختبار صمودها أمام التغييرات والتحولات عبر الظروف الزمكانية؛ فالثنائيات المعروفة كالحسن والقبح والخير والشر باتت أسيرة الامتحان أي خير يصمد؟ وأي شر يبقى شرا بمعايير محايدة تنطبق عالميا؟ هذه إحدى نتائج الانفتاح المعرفي والتبادل الفكري والثقافي الذي يحدث تارة في الواقع المباشر وفي الكثير من الأحيان لا يحتاج إلا إلى جهاز ذكي بحجم الكف.
أما التأثير السلبي فلا يمكنني الجزم بطرائقه عبر هذا الجهاز “الموبايل” لأن السلبية معيار شخصي متفاوت بين الناس فربما ما أعتبره سلبيا يعتبره الآخر ليس كذلك والعكس صحيح، ولكن يمكن لفت الانتباه في ما يتعلق بثقافة الموبايل إلى أنها خلطت الشرائح المجتمعية بشتى مستوياتها واختلاف أنماطها، وبالرغم من أن للدمج بين المختلفين مزايا حسنة إلا أن هناك خلطا وإتاحة الفرص لمن هو ليس أهلا وفتح بابا مشبوها يعود بالسلب على القيمة المعرفية والثقافية.
تُعتبر تطبيقات الهواتف الذكية هي الأيقونات للدخول إلى المواقع العالمية والتي قدمت لكل فرد فرصة امتلاك منصة لعرض ما يرغب ويشاء ويختار لنفسه مشركا معه تفاعل المنصات الشخصية الأخرى، فما صنعه Google Search من دور لا يُقدر بثمن لعمليات البحث والاطلاع على مختلف الاحتياجات المعرفية للأفراد كما الوصول إلى أبعد المواقع، فلم تعد الإجابات محصورة في ذاكرة الإنسان بل أصبحت مصفوفة بشكل منظم في أرفف غوغل سيرتش، فأي سبيل يمكن أن يكون أسرع وأسهل وأرخص ثمنا من طريق غوغل؟ كذلك المكتبة لم تبق على نمطها القديم، فهي اليوم لا تحتاج إلى الخروج من البيت وتشغيل السيارة ودفع كلفة الوقود ومواجهة طرقات مختلفة، وربما يكون الكثير منها بعيدا، فقد أصبح “الموبايل” يحمل مكاتب ضخمة على ظهره ويركب بها طرائق البر والبحر والجو بلا أدنى مجهود سوى بعض الريالات مقابل تشغيل الخدمة.
وربما ما يفوق الروعة هو التبادل والتواصل الإلكتروني عبر برامج التواصل الاجتماعي والحسابات الشخصية التي تمنح المتعلم طريقا مختصرا للتحدث لأي معلم يراه مناسبا، وتعطي الباحث عن المعرفة والثقافة فرصة رحبة للانفتاح على عقول الآخرين وتطارح الأفكار معهم والتأثير عليهم أو التأثر بهم.
ينبت سؤال مفصلي: هل هناك مقارنة بين رحابة هذا التواصل الافتراضي ومحدوديته في العالم الواقعي؟ فاللقاء ليس حكرا على الأحياء من المفكرين والمثقفين والمبدعين بل يتجاوزه إلى لقاء الراحلين عبر أشخاص يتبنون قناعاتهم ويدافعون عنها وفي حالات متقدمة يحتربون من أجلها احترابا جادا ينتقل من بعده الافتراضي إلى الواقعي.
الكثير الكثير يمكن قوله في هذا الشأن – تطبيقات الهواتف الذكية – ولكن المقام لن يتسع لإسهاب يضاهي رحابة هذه التقنية المتقدمة جدا، وفي الوقت ذاته الحديث عن كل هذا المجال الإثرائي للإنسان لا يغفل البعد السلبي الذي قد تخلفه استعمالات هذه التطبيقات، لأنها كما ذكرنا بوابة حرة تنفتح بضغطة زر أصغر من حجم رأس الإصبع وتترك للمستعمل خيار التحكم ليأتي دور الذات العميقة في الفرد ويحرك البوصلة.
إن “وجود الطوب يعني احتمالية بناء أو هدم”، يمكننا أن نقول بناء وهدم كما يمكننا أن نقول بناء أيمن وبناء أيسر، كذلك يمكن اختيار مسمى آخر وهو بناء إلى الأعلى وبناء إلى الأسفل. كلها فضاءات افتراضية تمهد الطريق لمدينة واقعية تجمع على أرضها المتشابه من الناس، وتمنحهم فرصة كبيرة في رؤية أنفسهم في وجوه الآخرين؛ الأفكار، الأنماط الشخصية، المعارف، التصنيفات، المبادئ، الطبائع، الثقافات، إنها فرصة مدهشة لنعرف من نحن بالنسبة لعالم كبير بمجرد إمساكنا بهذا الجهاز الصغير؟
بطبيعة الحال؛ الارتباط -المعرفي- الوثيق بالموبايل يثير استفهاما جوهريا: ما الذي أدخله الموبايل على سلوكياتنا الاجتماعية وتوجهاتنا وخياراتنا الثقافية؟ شخصيا لا يمكنني التحدث بصيغة الجماعة، فأنا أؤمن بفردانية التأثر، الأمر الذي يجعل الأثر متفاوتا بين هذا وذلك.
ولكني أرى أن انفتاح بوابة ثقافية بحجم بوابة العالم الافتراضي يتيح للفرد خيارات أكثر تنوعا، بالتالي هذا الانفتاح قادر على إعطاء الفرد الحرية أكثر وتقديم الذات كما هي. ومع هذا نرى بصورة جلية أن الجماعات المنقادة تظل على حالها، بل قد يزيدها الفضاء الافتراضي انقيادا وانبهارا أشد، وهنا تبرز الفروقات الفردية بين شخص وآخر.
فهل نخاف هذا الجهاز؟ “كلما نغوص إلى العمق، كلما ينخفض منسوب الخوف”، فالتجربة خير برهان وامتحان، وليس هناك من يستطيع امتحانك أكثر صدقا من نفسك، ماذا فعلت وماذا فعل بك هذا الجهاز؟ هل حدثت معركة ما؟ من الذي انتصر فيها؟ هل استطاع تبديل ملامحك وإلى أي مدى؟ ما الذي يخيف في استعماله؟ وما الذي يوحي بالأمان له؟ إنها مسالك كشوارع مدينة للتو نزورها، قد نخشى دهاليزها الضيقة الممطرة، وربما المظلمة، ولكننا نأمن الطريق بعد تجربة المرور بسلام فهي فرصة لنكتشف شيئا جديدا في المكان، وفي أنفسنا. ومؤكد بعد هذا الحدث سنكون أكثر لياقة ومهارة وقدرة على خوض المسير مرة واحدة وثانية وثالثة.. إلخ.
وعلى هذا فالتعامل مع الموبايل ليس اتصالا طارئا بالمستشفى أو البنك أو مركز التموين الغذائي، بل هو تواصل عابر للمجالات العملية فقط، وهذا ما يفسر ارتباط الأفراد بالأجهزة الذكية؛ ففي قبضتك بوابات متعددة؛ العمل، الأسرة، الأصدقاء، المفكرون والأفكار، الفكاهيون والمرح، العلماء والمعرفة، الأدباء والأدب، التاريخ والجغرافيا والفلسفة والدين وغيرها من مجالات يمكننا الإحاطة بها أو لا.
في الختام، لا ننس أن هذا الموبايل يحمل العالم كله ويقدمه طوعا لمختلف المراحل العمرية، ولأن الناشئة عرضة للاهتزاز أكثر من غيرهم، فماذا يمكننا فعله معهم؟ على المستوى الثقافي والمعرفي، حاجة الناشئة للتنبيه أو التوجيه قبل استعمال الموبايل كحاجتهم قبل الدخول إلى مدرسة جديدة أو ملعب رياضي جديد أو لقاء أبناء الحي لأول مرة أو رحلة ابتعاث جديدة، فالناشئ يأتي ببنية فكرية تأسيسية تربوية أولى تلقاها من أسرته ودمجها بصفاته الشخصية ليواجه بها العالم الافتراضي لأول مرة، قد يلاطخه الموج ويصفع بأفكاره المعلبة عرض الحائط ليشيّد أفكارا جديدة، وقد يستطيع الإمساك بزمام الأمور دون هزة واحدة، وقد يكون بين الاثنين. ومع هذه التماوجات ستكون ثقافة الموبايل بالنسبة للمهتم بالمعرفة سماء ماطرة ومجيبة للنداءات والاحتياجات الفكرية مهما حملت من عواصف.